المحتويات الفصل الأول: العدالة في الميزان: مقدمة || الفصل الثاني:السلوك المثلي والقانون: ظروف الحملة || الفصل الثالث: الفضيحة والعار: محاكمات "كوين بوت" || الفصل الرابع: في إثر "كوين بوت": التعدي علي الخصوصية و روابط الجماعة || الفصل الخامس: استغلال الوحدة والإيقاع فى الفخ عبر الإنترنت || الفصل السادس: المرآة المعيوبة: التحيز وإجراءات القانون || الفصل السابع: جسم الجريمة: دوافع التعذيب وجوانبه الطبية || الفصل الثامن: خاتمة || الملحق: القوانين المتعلقة بالسلوك المثلي في مصر || شكر وتوطئة || الهوامش

الفصل السابع: جسم الجريمة: دوافع التعذيب وجوانبه الطبية

أ. قصة شبل ونجيب

يبلغ نجيب من العمر 32 عاما. كان على علاقة بشبل دامت سبع سنوات، وكان الإثنان يعيشان في طنطا. يعاني نجيب من الخوف والاكتئاب. ولم يمانع في التحدث إلينا، لكنه طلب منا تغيير إسمه (لا إسم شبل) في هذا التقرير. قال لهيومان رايتس ووتش إنهما كوّنا صداقة مع صبي عمره خمسة عشر عاماً كان مثلياً ومتشبها بالنساء. "كنت بس باحاول أمشيه في سكة تخلليه كويس ويحترم نفسه. ما كانش بيننا غير صداقة".[359]

قال أحد المتهمين في قضية "كوين بوت": "أي حتة نتاخد فيها كانوا يضربونا. سألناهم إشمعنى إحنا إللي على طول بننضرب؟ كأنهم مش بيتعاملوا أصلا مع بني آدمين، كأننا وساخة أو أي حاجة يقدروا يبهدلوها".

    كانت أم الصبي تشغل وظيفة إدارية لدى الشرطة.[360] عندما علمت بأمر هذه الصداقة توجهت إلى شرطة الآداب. في منتصف عام 2002، اقتاد رجال الشرطة شبل ونجيب إلى مكتب شرطة الآداب وسألوهما عن علاقتهما "وقلنا لهم" ـ وحذروهما بالابتعاد عن الصبي. "قالوا لنا لو عملتوا مشاكل تاني حنعمل لكم قضية ونخرب بيوتكم. ما قابلتش الولد بعد كده".[361]
خليل ـ السابق ذكره في هذه الصفحات ـ كان صديقاً لنجيب وشبل. وروى لنا أحداث يوم في سبتمبر/ أيلول بعد تلك الواقعة بعدة شهور:
    كان موبايل شبل بايظ. كنت أنا في البيت مع نجيب، وشبل خرج يصلح الموبايل. بعدها بساعتين، ساعتين ونصف، جه جوز أخت شبل وقال لنا شبل في القسم.
    نجيب قال "تعال معايا نروح ندور على شبل". سألنا عليه في قسم أول قالوا "مش موجود". وقرروا نفس الكلام في قسم ثاني. كان لازم نروح مديرية الأمن، برضه قالوا لنا، ما فيش حد هنا بالإسم ده.
    كنا بدأنا نقلق بجد. نجيب قال: "أنا رايح له البيت أشوف أمه". فرحنا هناك. كان مدخل البيت مليان ناس عماله تبص بصات غريبة. سألناهم شبل فين. سألنا واحد منهم "إنت عايز شبل في إيه؟" قلت لهم "هو صاحبي، عايز بس أتطمن عليه".
قال لي : "تعرف واحد إسمه نجيب كديانة؟"
نجيب سأله "ليه؟" قال له: "عايز مين" وسألني: "إنت نجيب كديانة؟"
نجيب قال له: "أنا نجيب كديانة".
قالوا: "إحنا حكومة. تعال معانا". وخدوه قدامي.
الكلام ده كان في نص النهار.[362]
في قسم الشرطة استجوب نجيب. "فضلوا يسألوا في نفس السؤال: "كانت إيه علاقتك بشبل؟" وقالوا "إحنا فاكرينك وعارفين إنك خول". وسألوني:" هو بينيكك؟" كنت صريح وقلت لهم أيوه". ثم قال له الضباط: "إحنا حذرناك لما كنت هنا قبل كده. إنت دلوقت وقعت في مشكلة".[363]

بات نجيب في الحجز بينما جن جنون أسرته وأسرة شبل من الخوف. قال خليل: "جبنا محامي راح القسم، قالوا له الموضوع: موبايل مسروق. حنعمل محضر والصبح تلاقوه في النيابة".
في صباح اليوم التالي ذهبتا أم خليل وأم شبل إلى النيابة". قابلنا أخت نجيب وجوز أخته. قالوا لي شبل مات".[364]
أفرج عن نبيل فجأة في تلك الصباح. وعندما قابل أخته وخليل، علم بأمر وفاة شبل. "ما صدقش. كانت أكبر صدمة، أبشع صدمة في حياتي. بدأت أصرخ. الناس طلعت من المديرية على صويتي [أي صراخي]. طلع لنا أمين شرطة وقال: "خذوه إبعدوه عن هنا بأي طريقة".[365]
كانت الشبهات تحيط بظروف الوفاة منذ البداية. نشرت صحيفة محلية:

وتضاربت اقوال رجال المباحث لأهل القتيل في تفسير احتجازه ووقوع الحادث. ادعى الضباط أن القتيل تحرش بابنة أحد كبار الضباط وفي أقوال اخرى قالوا أنه سرق تليفونا محمولا و تم القبض عليه مع زميله، مما يلقي بالشكوك حول السبب الحقيقي لوفاته. .. يذكر أن الواقعة تعد الثانية من نوعها في غضون شهرين بعد أن ألقت إحدى السيدات من قرية السنطة بنفسها من مكتب مباحث الآداب خوفا من الفضيحة إثر ضبطها بإحدى الشقق.[366]
حصلت هيومان راتس ووتش على محضر الاعتقال في قضية شبل. محضر الاعتقال، وقد يكون كتب قبل وفاة شبل أو بعدها، يزعم أن شبل ضبط أثناء "ممارسة الشذوذ الجنسي" مع رجل آخر في كابينة مرحاض عامة، وهرب الطرف الآخر. ويزعم المحضر أن شبل أدلى بإسم الطرف الآخر وقال إنه "نجيب كديانة[367]". وعندما جرى "أصطحاب" شبل لمكتب شرطة الآداب واستجوابه، أدلى "باعتراف" يبدو أنه مبني بهدف تلويث سمعة كل منهما.[368]

أكثر لحظة مهينة كانت لما شخط فيا أمين شرطة وقاللي إطلع بره الزنزانة. وقادم أربع أمناء زيه سألني إذا كان عندي بتاع [عضو ذكري] ولا لأ. ولو كنت عمري قدرت أوقفه. لما قلت له آه، أمرني أطلّعه من البنطلون وأوقفه قدامه.... شخط فيا تاني وقال: "هو إنت مش راجل ولا إيه؟ إنت إزاي مش قادر توقّفه قدام رجالة زيك؟" أنا ما عنديش أي فكرة هو مفهومه إيه عن الرجولة.[386]


ويزعم المحضر إنه في الرابعة مساء "غافل أمناء الشرطة وقفز"[369] من الدور الرابع.
أما أخت شبل فقالت لهيومان رايتس ووتش:
    فيه واحد من المخبرين كان صغير شوية اتعاطف معانا وجه اتكلم معانا لما قالوا لنا إنه مات. وشوية ناس شغالين في مديرية الأمن، وبتوع الإسعاف، حكوا لنا شوية جثته كان شكلها إيه. قالوا لنا الكلام ده ليكم إنتم بس، كانوا خايفين. بس قالوا إنه الفك عنده كان مكسور، وإن رجله الشمال كانت وارمه وكلها أزرق، وقالوا إن كان جسمه كله حروق وعلامات ـ حروق من الكهرباء على صدره من قدام، وحروق من ـ من تحت [وإشارات للأعضاء التناسلية] وقالوا هو ده السبب أللي مخليهم مش عايزينكم تشوفوه. قالوا لنا ما نعملش دوشه ونسيب الحكومة تدفع حق الدفنة.[370]
أصدقاء شبل وأسرته متأكدون من إن بعض ضباط شرطة الآداب، ممن تذكروا الحادث السابق مع شبل،[371] ألقوا القبض على شبل في ظروف مجهولة آملين في اتهامه هو ونجيب في قضية "فجور". أخبرنا خليل بأنه يعتقد أن "الضباط كانوا ضربوا شبل وكهربوه. ولما مات في إيديهم، أخدوه مكتب الآداب في الدور الفوقاني في المديرية ورموه من الشباك".[372]
أسرة شبل تعيش في فقر مدقع. تقول أمه الكفيفة:
    الحكومة غزلت له كفنه. كان نفسي أدخل أبوس جتته. اترجيت الضابط، قلت لهم سيبوني أغسل جثته بدموعي. دموعي دي تفوا عليها. زقوني، قالولي "أبداً". .. مافيش حد من العيلة خلوه يشوف الجثة. أنا ياللي ما باشوفش ما رضيوش يخللوني أقرب ناحيته. هو كان فيه إيه خايفين نشوفه قوي كده؟[373]
قال والد شبل والذي يبلغ من العمر أربعة وستين عاما: "الحكومة خدته دفنته، حتى الكفن هي إللي جابته، وإحنا ما خلوناش نشوفه". كما أخبر هيومان رايتس ووتش أنه طلب إخراج الجثة وأن طلبه قوبل بالرفض.[374]
بعد وفاة شبل بأقل من إسبوعين، إعتقلت الشرطة نبيل مرة أخرى، في حملة الاعتقالات قبل مولد السيد البدوي. "وأنا في القسم افتكرت مرة واحدة شبل مات إزاي، ولقيت رجليا بتترعش واضطريت أقعد وبدأت أعيط".

ولمّا سلمت نفسي جوه، الضابط سألني: "أنا شفتك فين قبل كده ؟ "قلت له" في حكاية شبل يا باشا". قال لي: "شبل مين؟" قلت له: " شبل إللي مات هنا في المديرية".
قال لي: "ما تخافش، مش حنعمل كده معاك".[375]
أفرجت الشرطة عن نبيل مع سائر المقبوض عليهم مع نهاية المولد بعد ان قضوا أياما في الحبس. ويقول:
    اللي جرى لي، اللي جرى لصاحبي شبل ـ إزاي روح بني آدم تبقى رخيصة كده عند الناس دي؟ ما تعرفوش البني آدم ده كان إيه بالنسبة لي. بني آدم تحبه، وفي لحظة تخسره ـ وإللي أنا عايز أسأله ده ليه؟ البني آدم إللي مات ده ـ هو فعلاً عمل حاجة غلط؟ ولو عمل حاجة غلط ليه يكون العقاب بالشكل ده؟
    ليه؟ هم ليه متضايقين منّا قوي كده؟ ليه لازم يعذبونا؟ هم مهتمين ليه؟ إحنا ما بنئذيش حد. إحنا بنئذي مين؟ هم بيكرهونا ليه؟ ليه؟[376]
شبل في صورة التقطها الأصدقاء

ب. الضغط من أجل الدليل وقوة تأثير وصمة العار

ولنا أن نعتبر أن مأساة نجيب ووفاة شبل فيما يشبه الكابوس لا يمثلان إلا ذروة الاحتقار الذي يعانيه "الخولات" وفي بعض جوانبها الأخرى، تفصح هذه القصة عن نموذج لما يشيع في مصر من تعذيب في الحجز ووفاة المحتجزين.[377]
لا يتعرض المثليون دون غيرهم لانتهاكات الشرطة. ولكن هناك عوامل خاصة بقضايا الفجور دون غيرها تعرّض الأشخاص من أمثال شبل للخطر. ويكمن أحد هذه العوامل في متطلبات ذلك القانون القمعي.
وعلى الرغم من اتساع نطاق الاعتقالات في الآونة الأخيرة، فإن إثبات وقوع جريمة الفجور، على الأقل من الناحية القانونية الحرفية، لا يزال صعباً. يصعب الحصور على أدلة على الممارسات التي يفترض أنها تتم خلف الأبوارب المغلقة: ويزداد الإثبات صعوبة حيث إن على الشرطة والنيابة الالتزام بمبدأ إثبات ممارسة المتهم للفعل الإجرامي لأكثر من مرة خلال ثلاث سنوات.
وكما أظهر في الفصل السابق، قد يتسبب التحيز في الشعور باليقين الذي يتجاوز ضرورة توفير الدليل. لا تزال الشرطة تشعر بضغط لتوفير الأدلة، وأسهل وسيلة لإثبات "اعتياد ممارسة الفجور" هي انتزاع الاعترافات. وأكد القاضي محمد عبد الكريم والذي رأس أول محاكمة في قضية كوين بوت "أن الأحكام يجب أن تكون مبنية على اليقين". واستشهد باعترافات المتهمين ونتائج كشف الطب الشرعي الشرجي على إنها الدليل المؤكد.[378]
لا يجرم القانون المصري إلا التعذيب الذي يمارس بغرض إجبار المتهمين على الاعتراف.[379] لكن هذا الشكل من التعذيب منتشر، والرجال المثليون فريسة سهلة.
هناك عامل آخر يعرض المتهمين بالفجور للخطر، وهو وصمة العار التي تلتصق بالمثليين، أي "كارثة"[380] أن يقال على المرء إنه "خول". وأصبح الرعب يكتنف الممارسة المثلية بسبب قضية كوين بوت وغيرها من المحاكمات. فالصحف الآن تخبر الجماهير:
    "جرائم الشذوذ الجنسي أسوأ ما يمكن أن يرتكبه المرء"[381] ويتساءل المحررون بانتظام: أي انحطاط وصل إليه هؤلاء؟ [أي المثليين]. أي نوع من البشر هم؟ بلا دين، ولا أخلاق، ولا شرف … ثم يطالبون بحقوق الإنسان؟ أي إنسان وأي حقوق؟"[382]
ومثل هذه الوصمات التي تلصق "بالشواذ" توحي لمن يمارسون سلطتهم عليهم بأنهم لا يستحقون التعاطف بل حتى لا ينتمون إلى الجنس البشري نفسه. وهكذا فإن انتهاك كرامتهم وأجسادهم لا يصبح خرقاً للمعايير المدنية بل تأكيدا لهذه المعايير. وهكذا فإن الرجال الذين يشتبه في أنهم يمارسون الجنس مع غيرهم يتعرضون لخطر إهانتهم بصورة تجعلهم يكتسون مظهراً غير إنساني. وهذا المناخ يجعل من اليسير ارتكاب التعذيب بل ويحث عليه أن لم يفرضه فرضاً.
قال أحد المتهمين في قضية "كوين بوت": "أي حتة نتاخد فيها كانوا يضربونا. سألناهم إشمعنى إحنا إللي على طول بننضرب؟ كأنهم مش بيتعاملوا أصلا مع بني آدمين، كأننا وساخة أو أي حاجة يقدروا يبهدلوها".[383] وقال جمال الذي تعرض للتعذيب الوحشي بدمنهور مخاطبا هيومان رايتس ووتش: "نفسي أصرخ. نفسي أعيط. مش قادر أطلع إللي جوايا".[384]
وقد يتعرض البعض للإعتداءات الجنسية عقاباً لهم على "انحرافهم" الجنسي. قال وليد إنه في أثناء حملة اعتقالات جرت في القاهرة عام 1998(أنظر الفصل السادس)، إن غيرهم من المساجين " كانوا بيخللونا نمارس [الجنس] معاهم بالعافية.. كانوا البوليس بيقولوا لهم: "المساجين دول خولات، اعملوا فيهم إللي انتم عايزينه،. فكان المساجين بيغتصبوك، ده حصل قدامي. البوليس هم اللي كانوا السبب".[385]
وأحيانا يشترك الحراس في مثل هذه الانتهاكات. قال وسام توفيق أبيض إنه في قسم شرطة مصر الجديدة بالقاهرة
    أكثر لحظة مهينة كانت لما شخط فيا أمين شرطة وقاللي إطلع بره الزنزانة. وقادم أربع أمناء زيه سألني إذا كان عندي بتاع [عضو ذكري] ولا لأ. ولو كنت عمري قدرت أوقفه. لما قلت له آه، أمرني أطلّعه من البنطلون وأوقفه قدامه.... شخط فيا تاني وقال: "هو إنت مش راجل ولا إيه؟ إنت إزاي مش قادر توقّفه قدام رجالة زيك؟" أنا ما عنديش أي فكرة هو مفهومه إيه عن الرجولة.[386]
وقد تشكل هذه الوقائع خطراً جسيماً. تحدثت هيومان رايتس ووتش بالقاهرة مع اثنين من الشباب المثليين البالغين من العمر 18 عاماً. قال أحدهما:
    السنة إللي فاتت، 2002 يعني، كنت مع جماعة أصحابي وواحد شكله شرطه وقفني في ميداني التحرير. .. خلاني أفتح البنطلون وبص على " السليب ". شاف إني لابس سليب ملوّن. سابنا علشان ما كانش قادر يمسك علينا حاجة. لكن بعد كده قابلته في منطقة تعليق. جايز بقى كان متخفي ولا ماعرفش إيه.... قال لي إنه حياخدني السجن. علشان ما يحبسنيش خلاني أمص له بتاعه.[387]

وقال شاب آخر إنه في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2002 البوليس وقفني في ليلة وأنا ماشي مع ثلاثة أصحابي "جاي" في مصر الجديدة. كان شايف إننا متنسونين [أي نشبه النساء] زيادة شويتين. ما كانش معاي بطاقة، الباقي كان معاهم بطايق. قال لي: ح اسجنك لوما مصتليش زبري [أي عضوي]". كان لازم أروح في حتة ضلمة وأعمل كده. كنت مجبر أعمل كده.[388]

وقال شاب آخر إنه في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2002
    البوليس وقفني في ليلة وأنا ماشي مع ثلاثة أصحابي "جاي" في مصر الجديدة. كان شايف إننا متنسونين [أي نشبه النساء] زيادة شويتين. ما كانش معاي بطاقة، الباقي كان معاهم بطايق. قال لي: ح اسجنك لوما مصتليش زبري [أي عضوي]". كان لازم أروح في حتة ضلمة وأعمل كده. كنت مجبر أعمل كده.[388]

ج. التعذيب الطبي وانتهاك حرمة الجسد

i. الطب والخرافة

جرى تجنيد الطب في المهمة الصعبة وهي إثبات "اعتياد ممارسة الفجور": ويستسلم الطب أيضاً لوحدة العار السائدة. يحول وكلاء النيابة المتهمين لإدارة الطب الشرعي من أجل الكشف على الشرج بشكل روتيني.
إن إدارة الطب الشرعي فرع من فروع وزارة العدل.[389] تتفاخر قياداتها علانية بعملها، بما في ذلك توثيقها لحالات التعذيب.[390] أما عن اشتراكهم في عمليات التعذيب فيختلف الأمر، إذ يجري العاملون بالإدارة ـ بما في ذلك كبير أطبائهاـ الفحوص الشرجية بشكل روتيني على المتهمين بدون موفقتهم. هذه الفحوص تنتهك حرمة البدن وتؤذي ضحياها وتهينهم إهانة جسيمة بل إنها درب من دروب التعذيب في حد ذاتها، ويرتكب الأطباء بتلك الإجرائت انتهاكا للمعايير الدولية ولمبادئ المهنة. بالإضافة إلى ذلك، فهذه الفحوص مبنية على أوهام طبية ترجع إلى القرن التاسع عشر، وعفا عليها الزمن، حول الآثار البدنية لممارسة الجنس الشرجي. هذه الفحوص تكاد تكون قيمتها منعدمة كأداة تحقيق.[391]
أجرت هيومان رايتس ووتش مقابلة مع الدكتور فخر الدين صالح، كبير أطباء الطب الشرعي، ونائب كبير الأطباء الدكتور أيمن فودة، بشأن هذه الفحوص. وقال لنا "عندما تحتاج النيابة إلى التحقيبق في قضية فجور، فنحن نوفر كشف طبي معروف على مستوى العالم".[392] وأكد الدكتور فخر الدين صالح أن "في هذه النوعية من الفحص هناك ستة معايير وضعها الفرنسي المرموق "تاردييه".[393]

كان أوجست آمبورز تاردييه (1818 ـ 1879) طبيبا شرعيا، ونشر كتابه "دراسة طبية شرعية للإنتهاكات الأخلاقية" عام 1857. وراج الكتاب رواجاً هائلاً، بفضل خليط من النبرة العلمية والمواضيع الإباحية. ووضع الكتاب خطوطاً إرشادية من أجل التحقيق في ثلاثة جرائم: " الأفعال الفاضحة في الطريق العام، والاغتصاب، وأخيرا "اللواط بالأطفال واللواط"، واستخدم الكتاب المصطلحين على حد سواء للإشارة إلى الممارسة المثلية بين الراشدين من الذكور.[394]
كان "إعتياد اللواط" ميولاً داخلياً سرياً. ولكن قدرة هذا الميول في إخفاء نفسه دفع تاردييه إلى البحث عن العلامات التي تسهل التعرف عليه:، و"معرفة هذه العلامات ستمكِّن الطبيب، في الغالبية العظمى من الحالات، من الإشارة إلى الممارسات التي تتعلق بالأخلاق العامة بدرجة العالية".[395] وكان "تاردييه" يعتقد أن "اللواطيون" لابد أن يكونوا إما إيجابيين فقط أو سلبيين فقط. وبنى نظرية تقول أن هناك ستة "علامات مميزة" لدى اللواطيون: "النمو الزائد للأرداف، تشوه الشرج بحيث يأخذ شكل القمع، إرتخاء العضلة القابضة للشرج، زوال الانثناءات والتعريجات والزيادات اللحمية حول محيط الشرج، الاتساع الشديد لفتحة الشرج، وووجود القرحات والبواسير والنواسير".[396] ومن بين هذه العلامات، كانت "الشكل القمعي" – أي اتخاذ فتحة الشرج شكلا يشبه القمع – وهي العلامة المتفردة التي لا تدع مجالا للشك في اللواط [السلبي]" في رأي تاردييه.[397]

وعندما يتذكر الأطباء اليوم معتقدات تاردييه حول آثار السلوك المثلي على ملامح البدن، يرونها على أنها بلا قيمة طبية.[398] وتقول د. لورنا مارتن، أستاذة الطب الشرعي الجنائي بجامعة كيب تاون بجنوب افريقيا إن نظرية تاردييه "شيء عجيب … من مزبلة التاريخ". وأضافت أنه "لا يمكن أن نتعرف على الاختراق المتكرر للشرج؛ والحالة الوحيدة التي قد يفيد فيها الكشف [على الشرج] هي حالة الاختراق الحاد للشرج بالغصب، حيث قد تظهر بعض الإصابات".[399] ولكن بعد مرور مائة وخمسين عاما- تظل نظريات تاردييه موجودة بمصر، وتشكل الأساس لعملية اختراق جسدي وحشية تمارس بشكل دوري".[400] واستطرد الدكتور فودة في شرح المعتقدات الطبية وراء إجراء الهيئة لهذه الفحوص شرحا تفصيليا.[401]
    وقتما يهم القضيب بالدخول في فتحة الشرج، يحدث انقباض عضلي بسبب الرغبة الغريزية في منع الاختراق. فيغلق الشرج نفسه. وبالتالي عندما يخترق قضيب أحد الأشخاص شرج شخص آخر، يكون ذلك دائما بالغصب.
ويتسبب ذلك في تهتك عضلات قاع الحوض … ومع تكرر الاختراق العنيف، يكون هناك العديد من التهتكات في العضلة. وينتج عن هذا ضعف في فتحة الشرج، ويتسبب في إذابة الدهون المحيطة بالشرج. ويتسبب هذا الأخير في الاختفاء الملحوظ للقطبات الموجودة حول فتحة الشرج. وعند الإمساك بالردفين بقبضة قوية، تجد اتساعا سلبيا في فتحة الشرج، وتظهر الفتحة على شكل قمع، وتكون الانعكاسات الشرجية ضعيفة.[402]
تساءلت هيومان رايتس ووتش عما إذا كان الاختراق الشرجي لابد أن يكون مصحوبا بانقباض عضلي دال على الرفض: أصَّر د. فودة على إنه "لايمكن أبدا أن يدخل قضيب منتصب في فتحة الشرج بالتراضي … بسبب الانعكاس الغريزي الرافض للاختراق.[403]
كما تحدث د. فودة عن "الأساليب الجديدة و المتطورة" في فحص شرج المتهمين "باستخدام الكهرباء".[404] وقدم د. فودة وصفا تفصيليا لهذه الأساليب في مقال كتبه بالاشتراك مع عدد من زملائه.[405] وهذه الدراسة يعيبها عدد من الأخطاء المنهجية.[406] كما أن الدراسة بها تحريفات لعدة حقائق.[407] لكنا نكتفي بملاحظة أن هذه الدراسة تقترح استخدام الرسم الكهربائي للعضلات لفحص عضلات شرج المساجين. وهذه العملية عبارة عن "عملية تسجيل للإشارات الكهربائية الصادرة عن النشاط العضلي"، وقد تجرى على البشر دون تخدير بوضع أقراص معدنية صغيرة فوق الجلد الذي يغطي العضلة –وهي أقطاب كهربائية تلتقط الإشارات الصادرة – أو بغرس أقطاب كهربائية على شكل إبر توضع تحت الجلد".[408] وينتج عن ذلك انتهاك لحرمة الشخص و كرامته وخصوصيته باستخدام أساليب التكنولوجيا الحديثة.
وينطبق نفس الشيء على أساليب جديدة للتعذيب يصفها د. فودة بأنها جارية التطوير، وفيها "ندخل المسبار بهدف معرفة حالة عضلة الشرج وعضلات الحوض، ونرى إذا كانت قوية أم مرتخية".[409] وتشمل هذه الأساليب المسح الصوتي لمنطقة الشرج، وقياس ضغط الشرج، أي إدخال أنبوبة في فتحة الشرج لقياس مستوى الضغط. ويقول د. فودة: "يتم تطبيق أسلوب قياس ضغط الشرج الآن في بعض الاختبارات على حالات مختارة".[410] كما يقوم الباحثون بدراسة المسح الصوتي ورسم العضلات الكهربائي" بجامعتي عين شمس والمنصورة".[411]
إن ما ترمي إليه الجامعات من تطوير تكنولوجي للأساليب الطبية المنحرفة لا يقل في أذاه عما أصبح شائعاً في التعامل حالياً مع قضايا الفجور، بل لا يزيد عن كونه أشد تطوراً وحذقا مما يجري حالياً، ألا وهو إرغام الشخص أن يتعرى من ملابسه وينحني حتى يقوم عدد من الأطباء بتوسيع فتحة شرجه والتحديق فيها بل وفي بعض الأحيان إدخال أشياء فيها.[412] يعترف به الدكتور فودة ضمناً أن هذا الإجراء، حينما يتم بدون رضا الشخص، يكون شبيهاً بالاغتصاب.[413] ويذكرفي بحثه أن أول دليل على "اعتياد الاستعمال" أو التقبل الشرجي" هو "الاستجابة لأمر الرقاد من أجل الكشف، ويعتبر إيجابياً عندما يتخذ المريض وضع السجود المطلوب بشكل تلقائي".[414] وشرح الدكتور فوده أن وضع الكشف هو الوضع الجنسي: "الموافقة السريعة دليل على الاستخدام. نحن لا نشرح الوضع للناس، فإن سبق لهم ممارسة الفجور، يأخدوا الوضع تلقائيا لأنهم يعرفونه".[415]

أخبرنا النائب العام للدولة إن نتائج كشف الطب الشرعي "مهمة جداً كوسيلة لمعرفة إذا ما كان المتهم مذنبا" في قضايا الفجور.[416] ومع ذلك اعترف الدكتور فودة بأن الاختبار لا يمكنه أن يثبت الإجرام حسب نص القانون، إذ اعترف أن "لا يمكن أن يدل كشف الطب الشرعي على إذا ما كانت هذه النوعية من الرذيلة تمارس "بدون تمييز" مع العديد من الناس. ... يتطلب الإثبات أدلة أخرى".[417] لكن هذه الاعترافات بقصور الاختبار نادراً ما تصل إلى المحاكم مثلما تصل نتائج الفحص. فالقضاة عادة يحكمون على نتائج هذه الفحوص من الظاهر. وبالإضافة إلى ذلك، عندما يقر الطبيب الشرعي أن المتهم لم يكن "متكرر الاستعمال"، عادة ما يضيف جملة شرطية تحميه تكون بالصياغة التالية أو ما شابهها:
من المعروف علمياً أنه من الممكن إتيان البالغين لواطا من دبر ـ وذلك بالتراضى بين الطرفين واتخاذ الوضع السليم واستخدام المزلجات ـ دون أن يترك ذلك أثرا ينم عليه.[418]
وقال أحد المتهمين لهيومان رايتس ووتش: "وطبعا الحملة دي خللتني أبان مذنب حتى لو مالقونيش مستعمل، والنيابة استخدمتها ضدي في المحاكمة".[419]

ii. "الكرامة" و"الموافقة"

ذكر كبير الأطباء الشرعيين أن الموافقة والكرامة شرطان أساسيان في إجراء الفحوص الشرجية، قائلا: "همنا الوحيد هو توفير الاختبار بشكل إنساني في جو من الإحترام، مع توافر الحق الكامل في رفض إجراء الاختبار.. .. ودائما ما نستأذن قبل إجراء الفحص. [وقال بالإنجليزية]: "من فضلك، أريد فحص شرجك".[420] أما نائب رئيس الأطباء فأدلى بوصف أكثر صراحة:
    الموافقة بتختلف من شخص إلى آخر. الموافقة ممكن تكون كتابية أو ببساطة موافقة ضمنية. والموافقة الضمنية في حالة المتهمين يكون مصدرها أمر التحويل الصادر من النيابة. مجرد تحويله دليل على الموافقة.[421]
وفي فحصها لنحو مائة ملف لقضايا تعرّض المتهمون فيها للكشف الطبي على الشرج، لم تجد" هيومان رايتس ووتش" سوى حالة واحدة حصلت فيها النيابة على موافقة كتابية.[422] أما "الموافقة الضمنية" التي ذكرها د. فودة ـ بالنسبة للأشخاص المحتجزين الذين يساقون إلى النيابة وإلى الكشف وهم مقيدين بالأغلال ـ لا يمكن اعتبارها موافقة على الإطلاق.
استشهدت "هيومان رايتس ووتش" بكلام د. فخر الدين صالح أمام واحد وعشرين رجلاً تعرّضوا لمثل هذه الكشوف. وتتحدث ردودهم الغاضبة عن نفسها.
صاح أحد المتهمين في قضية " كوين بوت " عندما سمع بأقوال الطبيب: " ده كذاب! دول شتمونا وكانوا في منتهى قلة الأدب!"[423] قال رجل آخر: "ونعم الاحترام! ونعم الإنسانية! يمسكوك من رقبتك ويزقوك من ظهرك ويفتحوا أردافك ـ دي جزارة، مش طب شرعي الدكاترة دول تعاملوا معانا زي الخنازير".[424] وقال رجل آخر:
    منين حييجى الإحترام؟ وفي قضية زي دي؟ إزاي ح يبقى فيه احترام؟ وبالذات في مصر! دخلنا علشان الكشف. قالوا: "إقلع!" وبعدين: "فنِّس". [أي اسجد]، وشك في الأرض والمؤخرة لفوق... الحمد لله أنا طلعت غير مستعمل. بس ماكانش فيه احترام. حرام يقولوا كده. كان كلامهم كله تجريح. أنا عيطت من كلامهم. " إنت بقى بيستعملوك من قد إيه؟" "إنت بتحط إيه في طيزك؟" "كام راجل [بالإنجليزية] نام معاك؟" بس ما قالوش ناموا معاك، قالو كلام أوحش. لقيت دموعي ابتدت تنزل. ولما شافوني باعيط قالوا لي: "كفاية يا صغيره".... كانت حاجة زي الكنبة. توطي وترفع المؤخرة وهم يدلكوا الطيز ويفتحوها. بعدين حط حاجة جوة شوية، كانت ساقعه. بعدين قال "قوم. إنت سليم".[425]
لم يتحدث سوى اثنين ممن قابلتهم هيومان رايتس ووتش صراحةً عن وضع شيء داخل الشرج ضمن الكشف.[426] كان أحدهم زياد، وكان متهماً في قضية "كوين بوت" ـ وهو الذي تعّرض للإهانات والشتائم طوال المده لأنه كان "متشبها بالنساء". وقال:
    دخلت. خير اللهم اجعله خير، لقيت لك راجل قاعد على كرسي. أنا قبل القضية كان ليا مركزي في العيلة وفي الحارة. أكبر فتوة كان يقول لي يا استاذ زياد. والراجل ده كلمني كأني عيل....
    بعدين دخل رئيسهم فخر الدين صالح. "إقلع. فنِّس". يا ساتر... ده كان بيكلمني ولا كأني كلب. كلمني بأوطى أسلوب في الكلام. نزلت على إيديَّ وركبي. كنت قلعت البنطلون. أخدت وضع السجود. قال لي: "لأ لأ لأ ! كده ما ينفعش! نزل صدرك لتحت وطلَّع طيزك لفوق".
    قلت له "مش قادر". نزل عليّا هستيرية عياط. قال: "الحركات بتاعتك دي مش حتخش عليا. شهِّل، إحنا ورانا أشغال". لسه ما كنتش قادر أمسك نفسي خالص. قال لي:" إخرس. كل شيء واضح وشايفينه قدامنا". مش فاهم ياخواتي شايفين إيه. الأول كان بيبص وبيحسس. فجأة دخل علينا 6 دكاتره. خير اللهم اجعله خير، ما كنتش متخيل إن خرم طيزي بكل الأهمية دي؟ كل واحد منهم حسس عليه، بالدور، وكل واحد بيشد كده علشان يفتح الفلقتين.
    جابوا ريشة وحطوها على الفتحة وزغزغوني بيها. الظاهر ده ما كفّاهمش. قاموا مطلعين المدفعية الثقيلة. بعد الريشة كان فيه صوابع. وبعدين دخلوا حاجات تانية جوه. وأنا أعيّط! ـ وهو يدخل حاجات ـ وأنا أعيّط! ـ وهو يدخل حاجات.
    قلت بعد كل العياط ده يمكن أصعب عليهم! ـ لكن ما حصلش، كانوا الظاهر ما بيحسوش. فخر الدين قال بعد ما خلص:"إشمعنى ما كنتش بتعيط لما كانوا الرجالة بيحطوا بتاعهم فيك؟" كنت عايز أتف عليه. بس كنت لسه باعيط.[427]
حتى الذين تعرضوا فقط لتدليك فتحة شرجهم حتى تنفرج شعروا بالانتهاك، واستشاطوا غضباً من مزاعم الدكتور فخر الدين صالح. قال أحدهم: "بهدلونا. لما خدت وضع السجود واحد من الدكاترة قال لي: "ما تشدّش نفسك!" وبدأ يخبط على ظهري بعدين قفش حتة من بطني وشدني لتحت. كان بيعاملني كأني حتة لحمة".[428] كما أن البعض يتذكرون الشتائم. قال محرم، وهو من متهمي قضية "كوين بوت"، ان الدكتور فخر الدين صالح قال له: "كفاية نواح يا خول".[429]
تعرض بعض الرجال للكشف الطبي على أيدي طبيبات من النساء، وقالوا أن هذا كان يمعن في إذلالهم. حسين – أحد متهمي كوين بوت- قال أن الكشف كان
مؤلم جدا. دول ما كانوش دكاترة، دول كانوا عربجية، عمالين يشخطوا ويزعقوا ويشتموا. كانوا خمس دكاترة رجالة واتنين حريم. ده كان صعب قوي. الدكتور سألني: "هو أنتم كنتم بتمارسوا جوة المركب؟" قلت له لأ. فقال لي "ماشي، إقلع" وكشف عليا. وبعدين هانني –قال: "خول، ده واضح جدا"- وقال لي إمضي هنا".[430]
يمارس الأطباء انتهاكا جسيما يخلف جروحا نفسية عميقة. آثار "اللواط" التي يبحثون عنها آثار خيالية: أما الآثار التي يخلفها الكشف فحقيقية. قال محرم: "أسوأ لحظتين في حياتي كانوا يوم الطب الشرعي، وبعد الحكم لما قال: "سنتين". كل ليلة لما باروح في النوم بافتكر الحاجتين دول، وبيجي لي كوابيس".[431]
<< السابق    الفهرس    التالي>>