إسرائيل والمناطق المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة
وأراضي السلطة الفلسطينية
تقويض دعائم العدالة:
الموازنة بين الأمن وحقوق الإنسان في نظام القضاء الفلسطيني

  1- ملخص

ويمكن لأي معتقل تم اعتقاله على نحو تعسفي أن يتقدم بشكوى إلى النائب العام وبالتماس إلى المحكمة العليا للإفراج عنه؛ لكن قوات الأمن درجت على تجاهل قرارات المحكمة العليا بالإفراج عن المعتقلين المحتجزين تعسفياً
يتناول هذا التقرير انتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة التي ترتكبها السلطة الفلسطينية ضد الفلسطينيين وتقاعس النظام القضائي الفلسطيني عن توفير الضمانات وسبل الإنصاف والتعويض؛ ويركز على السنة المنقضية منذ تجدد المصادمات العنيفة بين الفلسطينيين وقوات الأمن الإسرائيلية في سبتمبر/أيلول 2000، في إطار الانتفاضة المعروفة عند الفلسطينيين باسم "انتفاضة الأقصى" أو "الانتفاضة الثانية". ويتناول التقرير نقاط الضعف الكامنة في النظام القضائي الفلسطيني التي تكشفت قبل الانتفاضة بوقت طويل، إلى جانب تدهور تطبيق العدالة نتيجة للتحديات الناجمة عن الصراع الحالي وتأثير السياسات الإسرائيلية. ويوثق التقرير انتهاكات خطيرة من قبيل تعذيب المعتقلين، والتوقيف التعسفي، والاعتقال التعسفي الطويل الأمد، وفرض عقوبة الإعدام، وتنفيذ أحكام الإعدام بعد محاكمات سافرة الجور، وعدم ملاحقة المسؤولين عن أعمال القتل التي تُرتَكب على سبيل الاقتصاص الفوري، وإفلات أفراد الأمن وغيرهم من المسؤولين الذين يرتكبون انتهاكات خطيرة من العقاب.

وكان معظم ضحايا هذه الانتهاكات في السنة الماضية من الفلسطينيين الذين اعتقلوا بزعم تعاونهم مع إسرائيل، ومنهم مئاتٌ كان قد ألقي القبض عليهم منذ بداية الانتفاضة الحالية. ومعظمهم ممن يُشتَبه أو يُزعم أنهم قدموا معلومات عن فلسطينيين آخرين إلى قوات الأمن الإسرائيلية، أو أنهم تورطوا في بيع أراضٍ فلسطينية للإسرائيليين. وكان الضحايا ومعظم المعتقلين قبل بداية الانتفاضة الحالية أعضاء في جماعات متشددة مثل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، إلى جانب فلسطينيين آخرين من منتقدي السلطة الفلسطينية؛ ولكن عندما بدأت الانتفاضة الحالية أطلقت السلطة الفلسطينية سراح معظم المعتقلين الذين كانت تحتجزهم من تلك الجماعات، بالرغم من المخاوف من أن يكون بعضهم مسؤولين عن اعتداءات استهدفت مدنيين إسرائيليين

. وتعتبر منظمة "مراقبة حقوق الإنسان هذا التطور بمثابة ثغرة مثيرة للقلق توهن النظام القضائي للسلطة الفلسطينية الذي يتسم أصلاً بالهشاشة.
التزامات السلطة الفلسطينية بشأن حقوق الإنسان على الرغم من أن السلطة الفلسطينية ليست بعد دولة مستقلة فإنها تتطلع إلى أن تصبح حكومة لدولة سيادية. وقد تعهد قادة السلطة الفلسطينية مراراً في لقاءاتهم مع منظمات حقوق الإنسان الدولية، وفي التصريحات الإذاعية، وفي اتفاقيات أوسلو، بأن السلطة الفلسطينية تعتزم الالتزام بالمعايير المقبولة دولياً لحقوق الإنسان. ويعكس مشروع القانون الأساسي الفلسطيني، الذي لم يصدق عليه الرئيس عرفات بعد، عدداً من الضمانات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. وينبغي أن تكون السلطة الفلسطينية مسؤولة بموجب المعايير الدولية المقبولة لحقوق الإنسان عن معاملة الأشخاص الذين يعيشون داخل المناطق الخاضعة لسيطرتها.

لكن انتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة التي يصفها هذا التقرير تقوض الركائز الأساسية لأي دولة تمارس مهامها بصورة فعالة وتحترم حقوق الإنسان، بما في ذلك سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء والمساءلة القانونية للمسؤولين الذين ينتهكون القانون. ولكن ما لم تتوقف هذه الانتهاكات، وما لم تحظَ سلطة القضاء واستقلاله بالاحترام الواجب، فسوف يظل الفلسطينيون فاقدي الثقة في استعداد وقدرة النظام وزعمائه على حمايتهم من الممارسة التعسفية للسلطة من جانب قوات الأمن الفلسطينية والمسؤولين الفلسطينيين.

جوانب القصور الكامنة في النظام القضائي الفلسطيني ينبع العديد من انتهاكات حقوق الإنسان التي يصفها هذا التقرير من العيوب الجوهرية في النظام القضائي الفلسطيني. فقد دأبت السلطة التنفيذية الفلسطينية، المكونة من الرئيس والوزراء والشرطة ومختلف أجهزة الأمن، على تقويض سلطة واستقلال القضاء والقانون وسبل الإنصاف القضائي. وليس ثمة احترام لمبدأ الفصل بين السلطات؛ وبإمعان السلطة التنفيذية في إضعاف قدرة القضاء على مساءلة أعضائها، فإنها سمحت للمسؤولين بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، من بينها التعذيب والقتل غير المشروع والاعتقال التعسفي الطويل الأمد، وهم في حرزٍ من المساءلة والعقاب.

ويمكن لأي معتقل تم اعتقاله على نحو تعسفي أن يتقدم بشكوى إلى النائب العام وبالتماس إلى المحكمة العليا للإفراج عنه؛ لكن قوات الأمن درجت على تجاهل قرارات المحكمة العليا بالإفراج عن المعتقلين المحتجزين تعسفياً. وعلى الرغم من أن عدم الامتثال لهذه القرارات التي تصدرها المحكمة العليا يُعدُّ جريمة جنائية، فلم يحدث قط أن تم تحريك الدعوى القضائية ضد أي فرد من أفراد قوات الأمن أو غيرهم من المسؤولين، أو إدانتهم بارتكاب تلك الانتهاكات. وعلى الرغم من الالتزامات التي يفرضها القانون على النائب العام فإنه نادراً ما يتدخل عندما يشكو المعتقلون من الاعتقال التعسفي أو سوء المعاملة؛ بل إنه في واقع الأمر لا يكاد يتمتع بأي سلطة على قوات الأمن، خصوصاً فيما يتعلق بالمعتقلين ممن يزعم أنهم من المتعاونين مع إسرائيل أو من الإسلاميين. ومما ساهم في إضعاف جهاز النائب العام إنشاء منصب النائب العام لأمن الدولة في نوفمبر/تشرين الثاني 1999.
ويؤدي التدخل المباشر من جانب السلطة التنفيذية إلى مزيد من تقويض استقلال القضاء؛ ففي مناسبتين على الأقل، في عامي 1996 و1998، تمت تنحية بعض القضاة بدون مبرر وجيه. وفي يونيو/حزيران 2000 أنشأ الرئيس عرفات المجلس الأعلى للقضاء الذي طال انتظاره، وأُسند للمجلس مسؤولية تعيين القضاة وترقيتهم وتأديبهم وتدريبهم. ومع ذلك ففي سبتمبر/أيلول 2001 ألقت قوات الأمن القبض على قاض بزعم أنه سهل بيع بعض الأراضي للإسرائيليين، متجاهلة بذلك سلطة المجلس الأعلى للقضاء الذي ينبغي استصدار إذن منه للقبض على القاضي.
وحتى الآن لم يصدق الرئيس عرفات على العديد من القوانين التي أقرها المجلس التشريعي الفلسطيني والتي تعد ضرورية لتوحيد وتحديث القوانين عبر أنحاء المنطقة الواقعة تحت إدارة السلطة الفلسطينية وكفالة حقوق جميع الأشخاص في مناطق السلطة. وتتضمن هذه القوانين الأساسية هي مشروع القانون الأساسي الفلسطيني (الذي أقره المجلس التشريعي الفلسطيني في أكتوبر/تشرين الأول 1997) ومشروع قانون السلطة القضائية (الذي أمضاه المجلس في نوفمبر/تشرين الثاني 1998)، ومشروع قانون المحاكم العادية (الذي تم إقراره في مايو/أيار 2000) ومشروع قانون العقوبات (الذي تم إقراره في يونيو/حزيران 2000).

وهناك عشرة أنواع مختلفة على الأقل من أجهزة الأمن تعمل في إطار السلطة الفلسطينية، وتميل إلى العمل كوحدات مستقلة بذاتها، وتتسم مهامها بالتداخل وعدم التحديد الواضح وسوء التنسيق؛ ولا تكاد تخضع هذه القوات لأي مساءلة، مما يجعلها كثيراً تتجاهل النظام القضائي والقوانين التي تحكم أفعالها. وهناك ثلاثة أنواع من أجهزة الأمن يتردد ذكرها بكثرة في هذا التقرير، وهي جهاز الاستخبارات العسكرية وجهاز المخابرات العامة وجهاز الأمن الوقائي.
وقد كان النظام القضائي الفلسطيني ضعيفاً ومسيَّساً بعد أن ظل يعمل من عام 1967 إلى عام 1994 تحت إدارة عسكرية إسرائيلية لم تشجع وجود قضاء مستقل وأهملت بنيته الأساسية المادية. ولم تكن المحاكم الفلسطينية تنظر القضايا المتعلقة بالأمن أو الشؤون السياسية في أثناء فترة الإدارة العسكرية الإسرائيلية. وهكذا فإن الفترة التي مرت منذ نشوء السلطة الفلسطينية في عام 1994 تمثل المرة الأولى التي يطلب فيها من النظام القضائي الفلسطيني المحلي أن ينظر في قضايا سياسية أو أمنية منذ عام 1948.
ومما ألحق مزيداً من الضرر بالنظام القضائي الفلسطيني تقاعس السلطة الفلسطينية عن منح القضاء ما يكفي من السلطة والاحترام والموارد المالية وغيرها. ويشوب هذا النظام قلة عدد القضاة وعدم وجود ما يكفي من القضاة ووكلاء النيابة ومسؤولي المحاكم المؤهلين والمدربين جيداً. وأدى انخفاض الميزانية التي تخصصها السلطة الفلسطينية للقضاء إلى انخفاض الرواتب مما يشجع على الفساد ويؤدي إلى مزيد من التدهور في المباني والبنية الأساسية.

تأثير ردود الفعل الإسرائيلية على الانتفاضة الحالية
مُني النظام القضائي الفلسطيني الهش بمزيد من الضربات من جراء ردود الفعل الإسرائيلية على الانتفاضة الحالية؛ فقد أدت سياسات الإغلاق والحصار وغيرها من القيود المفروضة على حرية الحركة إلى إشاعة الفوضى في سير العمل اليومي في المحاكم، حيث يجد القضاة والمحامون والشهود صعوبة أو استحالة في الوصول إلى مباني المحاكم. كما لاحظت منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" وقوع حوادث مضايقات من الجانب الإسرائيلي للمحامين الفلسطينيين المدافعين عن حقوق الإنسان، مما أثر على قدرتهم على تمثيل موكليهم والوصول إليهم.
وعلى مدى العام الماضي دمر القصف الإسرائيلي أو الغارات الجوية الإسرائيلية العديد من منشآت الشرطة والأمن والدفاع المدني - بما في ذلك السجون والمعتقلات - وكثيراً ما كان يحدث ذلك انتقاماً لهجمات شنها مسلحون فلسطينيون على إسرائيليين، وهو ما تلقي إسرائيل بمسؤوليته على السلطة الفلسطينية.
وإذا كانت إسرائيل قد دعت السلطة الفلسطينية لسجن الأفراد المتورطين في التخطيط للاعتداءات على الإسرائيليين وتنفيذ هذه الاعتداءات، فيبدو أن توجيه هذه الهجمات الانتقامية إلى منشآت تخص الأجهزة التي ينبغي أن تتولى إلقاء القبض على هؤلاء يحول دون تحقيق هذه النتيجة. ويشكو مسؤولو السلطة الفلسطينية من أن هذه الهجمات تقلص من قدرتهم على المحافظة على القانون والنظام، كما يشيرون إلى الخطر على أرواح المعتقلين بسبب هذه الهجمات كمبرر لإطلاق سراح أعداد كبيرة منهم.

إساءة استخدام سلطات القبض والاعتقال
تشير تقديرات منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" إلى أن السلطة الفلسطينية كانت تحتجز أكثر من 450 فلسطينياً بدون تهمة أو محاكمة، اعتباراً من سبتمبر/أيلول 2001، حيث اعتُقل معظمهم بزعم أنهم مخبرون يتعاونون مع قوات الأمن الإسرائيلية، وبعضهم بسبب ما زُعم من تورطهم في بيع أراضٍ فلسطينية إلى إسرائيليين.
ويبحث هذا التقرير بصفة خاصة إقرار السلطة الفلسطينية للعدالة فيما يتعلق بهؤلاء المعتقلين.
ويتعرض هؤلاء المعتقلون بصفة منتظمة لانتهاكات حقوق الإنسان المعترف بها دولياً، شأنهم شأن الكثيرين من النشطاء الذين اعتقلوا قبلهم. فأحياناً ما تعتقل سلطات الأمن الفلسطينية بصورة تعسفية أشخاصاً يُزعم تعاونهم مع إسرائيل، دون وجود أدلة كافية، وذلك استناداً لإشاعات وإدانات شعبية. ويلقى القبض على المعتقلين عادة بدون أمر قضائي بالقبض عليهم، ودون إخطارهم بسبب اعتقالهم؛ ولا يتم إبلاغ أسرهم بمكانهم، وفي أثناء الاستجواب يمنع المشتبه فيهم من الاتصال بالمحامين والأطباء المستقلين. وفي العادة لا يمثل هؤلاء المعتقلون أمام قاضٍ خلال 24 أو 48 ساعة حسبما يقضي القانون الفلسطيني. وفي كثير من الحالات يتم تجديد الحبس لدى الشرطة دون تصديق من النائب العام حسبما يقضي القانون. وبمجرد إلقاء القبض على أي شخص فقد يقضي شهوراً معتقلاً دون تهمة أو محاكمة، وبدون السبل القضائية الفعالة لضمان إخلاء سبيله؛ ويظل عرضة للانتهاك على أيدي قوات الأمن التي تحتجزه.
وفي 31 أكتوبر/تشرين الأول 2001، دخلت السلطة الفلسطينية مرحلة جديدة بإصدار أوامر اعتقال إدارية لاحتجاز سبعة أشخاص زُعم أنهم أعضاء في حركتي الجهاد الإسلامي وحماس دون تقديمهم للمحاكمة، أو توجيه الاتهام رسمياً إليهم، لمدد تتراوح بين ستة أشهر وعام كامل.
استمرار التعذيب
كثيراً ما يتعرض المعتقلون الذين تستجوبهم قوات الأمن الفلسطينية للتعذيب، خصوصاً في حالة الاشتباه في تعاونهم مع الإسرائيليين، ولا سيما إذا كانوا محتجزين لدى أجهزة الاستخبارات العسكرية أو المخابرات العامة أو الأمن الوقائي. وبصفة عامة لا يتعرض هؤلاء الأشخاص لإساءة المعاملة بدنياً بعد انتهاء الاستجواب حيث يُنقلون عادة إلى السجن. وتتضمن وسائل التعذيب أسلوب "الشبح" أي الوقوف أو الجلوس لمدد طويلة في أوضاع مؤلمة، و"الفلقة" أي الضرب على باطن القدم، والضرب واللكم والركل والتعليق من الرسغين والتهديد بالقتل. والمعروف أن خمسة من الفلسطينيين توفوا في الحجز لدى الشرطة أو قوات الأمن منذ بداية الانتفاضة الحالية، منهم ثلاثة على الأقل ماتوا في ظروف توحي بأن التعذيب ربما كان من العوامل المفضية للوفاة. وبهذا يصل عدد المعتقلين المعروف أنهم توفوا في الحجز منذ نشأة السلطة الفلسطينية في عام 1994 إلى ثمانية وعشرين شخصاً.

وهناك خمسة عوامل على الأقل تشجع على تعذيب المعتقلين في أثناء الاستجواب، أولها أن المعتقلين يمنعون بصورة روتينية من الاتصال بالعالم الخارجي ومن الاستفادة من الحماية التي تأتي من هذا الاتصال في أثناء استجوابهم. ثانياً، أن ممثلي الادعاء في محاكم أمن الدولة يعتمدون إلى حد كبير على اعترافات موقعة وغير مدعمة بالأدلة، باعتبارها الدليل الوحيد أو الرئيسي، بحيث يكون هناك ضغط شديد على قوات الأمن لانتزاع المعلومات من المشتبه فيهم. ثالثاً، أن مرتكبي التعذيب يتمتعون بحصانة من العقاب؛ فعادة ما يتم التعامل مع مزاعم التعذيب في نطاق أي جهاز من أجهزة الأمن باعتبارها شأناً تأديبياً داخلياً وسرياً، وهو ما يعد إجراءً غير كاف للردع الفعال. رابعاً، أن غياب التعليمات الواضحة من جانب قادة قوات الأمن وعدم وجود التدريب المناسب لجميع العاملين بقوات الأمن يعرقل ظهور ثقافة تشيع احترام الكرامة الإنسانية لجميع المعتقلين. وأخيراً، فإن هناك توجهاً شعبياً عاماً بأن من يُزعم أنهم متعاونون مع الإسرائيليين يستحقون أي معاملة يلقونها على سبيل العقاب والانتقام وردع الآخرين.
محاكم أمن الدولة والمحاكمات الفادحة الجور
حلت محكمة أمن الدولة، وهي محكمة خاصة لا تتفق إجراءاتها والمعايير الدولية للمحاكمة العادلة، محل المحاكم العادية مما أدى إلى تقويض دعائمها. وكانت هذه المحكمة قد أنشئت عام 1995 بقرار رئاسي بتشجيع كبير من الولايات المتحدة وإسرائيل، وهي ليست مستقلة ولا محايدة. وتنعقد المحكمة بأمر من رئيس السلطة الفلسطينية على أساس كل حالة على حدة، ويجوز للرئيس أن يقرر ما هي القضايا التي تحال إليها، وأن يعين قضاتها ويعزلهم حسبما يتراءى له. كما تعرضت المحاكم العادية لمزيد من التقويض والتهميش عندما نقل الرئيس إلى محكمة أمن الدولة اختصاصات المحاكم العادية بالنظر في عدد كبير ما فتئ يتزايد من الجرائم، منها جرائم كثيرة لا تكاد تمت بصلة للأمن القومي.
ومنذ بدء الانتفاضة الحالية حوكم ستة عشر متهماً أمام محكمة أمن الدولة العليا أو المحكمة العسكرية العليا على أنهم مخبرون لقوات الأمن الإسرائيلية، أدين منهم خمسة عشر شخصاً، من بينهم أحد عشر حكم عليهم بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم في اثنين منهم.
وعلى الرغم من أن السلطات قد صححت بعض التجاوزات التي كانت تشوب إجراءات المحاكمة عندما أنشئت هذه المحكمة، فلا تزال المحاكمات تتسم في جوهرها بالجور السافر؛ حيث أن الكثير من المحاكمات يعقد في أجواء مشحونة بالانفعال إلى حد كبير، الأمر الذي يقلص من حق المتهمين في اعتبارهم أبرياء إلى أن تثبت إدانتهم. ويبدو أن بعض الجلسات قد عقدت في عجالة رداً على الاعتداءات الإسرائيلية وبغرض امتصاص الغضب الشعبي. ومعظم المحاكمات لا تستغرق أكثر من بضع ساعات، ومعظم المتهمين الذي ينكرون التهم الموجهة إليهم يُدانون على أساس اعترافاتهم الموقعة غير المدعمة بالأدلة، باعتبارها الدليل الوحيد أو الرئيسي، مع العلم بأن هذه الاعترافات يتم الحصول عليها أثناء احتجاز المتهمين بمعزل عن العالم الخارجي، وأنهم كثيراً ما يتراجعون عنها في المحاكم. كما تقاعست المحكمة على الدوام عن إجراء تحقيقات وافية في مزاعم المتهمين بأن اعترافاتهم انتزعت منهم تحت وطأة التعذيب. ولا يحق للمتهمين الذين تدينهم محكمة أمن الدولة الاستئناف أمام محكمة أعلى، الأمر الذي يمثل انتهاكاً للمعايير الدولية والإجراءات المعتادة حسب القوانين الفلسطينية.

وباستثناء حالات نادرة، يتولى الدفاع عن المتهمين محامون معينون من قبل المحكمة، وهم ليسوا من مزاولي مهنة المحاماة وإنما من الأفراد الذين يخدمون في قوات الأمن. وعادة ما لا يعبرون عن موكليهم حق التعبير، ولا يتمكنون من الترافع بصورة سليمة؛ بل أحياناً يستخدمون لغة توحي بأنهم يعتبرون موكليهم مذنبين. كما لا يتم الإخطار بالمحاكمة مسبقاً إلا في حدود ضيقة، وعادة ما يكون ذلك قبل موعد المحاكمة بيوم واحد. وفي بعض الأحيان، لا يُتاح لمحامي الدفاع سوى دقائق معدودة لإعداد مرافعته؛ وقد تطول هذه المدة إلى أربع وعشرين ساعة في بعض القضايا. وقد حاول بعض محامي الدفاع المعينين من قبل المحكمة الطعن في الأدلة وتقديم بعض البنود التي يشتمل عليها الدفاع، ولكن لوائح المحكمة تعرقل هذه المحاولات عادةً؛ إذ ترفض المحكمة في جميع الأحوال، مثلاً، أي طلب للتأجيل بقصد إعداد الدفاع.
الاقتصاص الفوري خارج إطار القضاء: قتل المتعاونين المزعومين
تقدِّر منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" أن ما لا يقل عن خمسة وعشرين فلسطينيا قد لقوا حتفهم رمياً بالرصاص أو طعناً بأيدي معتدين مجهولي الهوية فيما يشبه عمليات الإعدام منذ بدء الانتفاضة الحالية؛ ومعظم هؤلاء الفلسطينيين ممن يُزعم أنهم يتعاونون مع إسرائيل، أو يُشتبه في تعاونهم معها؛ وقد يكون الرقم الحقيقي أكبر من ذلك، ففي مدينة طولكرم وحدها ذكر أحد العاملين الميدانيين في مجال حقوق الإنسان لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان" أن المدينة شهدت إحدى عشرة حادثة قتل من هذا القبيل منذ سبتمبر/أيلول 2000.
وأعمال القتل هذه بعيدة كل البعد عن استيفاء الإجراءات القضائية الضرورية، وتقع خارج نظام القضاء تماماً؛ ويبدو أن بعضها يرجع إلى مظالم شخصية، بينما أسفر البعض الآخر عن قتل أشخاص غير المقصودين أصلاً عن طريق الخطأ. وفي كثير من الحالات كانت جماعة سرية تعلن مسؤوليتها عن الحوادث وتدين الضحية باعتباره من المتعاونين مع إسرائيل. وإذا كان الرئيس عرفات وغيره من كبار مسؤولي السلطة الفلسطينية قد أدانوا قتل المتعاونين المزعومين ، فإن التحقيقات التي تجريها قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية تتم بصورة شكلية وروتينية، ومن ثم لم يتم تقديم أحد من الجناة إلى العدالة.

الموازنة بين الأمن وحقوق الإنسان أثناء الانتفاضة
احتدمت قضية التعاون مع إسرائيل في أثناء الانتفاضة الحالية، وهو ما يرجع أساساً إلى سياسة "التصفية" التي تتبعها إسرائيل، فكثير من الفلسطينيين مقتنعون بأن هذه السياسة التي تستهدف قتل الأشخاص الذين يزعم أنهم من المتشددين الفلسطينيين تعتمد على المخبرين الفلسطينيين. وقد أدى هذا الإحساس بوجود "عدو داخلي" إلى انقسامات في الأحياء والأسر، وبث الخوف والشكوك.
إن أي حكومة أو سلطة حاكمة مسؤولة عن توفير الأمن الأساسي ومنع الاعتداءات على مواطنيها. لكن من الضروري الموازنة بيم ضمان الأمن واحترام الحقوق الإنسانية للمجرمين المزعومين. ويجب أن تحترم السياسات المتبعة في وقت الأزمات الوطنية سيادة القانون لا أن تلغيها؛ وقد ساقت الكثير من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والمحامين المدافعين عن حقوق الإنسان الفلسطينيين حججاً قوية دفاعاً عن هذا الرأي.
كما أن التحديات الجديدة الماثلة أمام النظام القضائي الفلسطيني حديث العهد في ظل الانتفاضة الحالية يجب ألا تُواجه بمزيد من الاعتقالات التعسفية والتعذيب والمحاكمات الجائرة؛ فهذا النهج يقوض فكرة النظام القضائي من أساسها، وقد يؤدي إلى الفوضى وفقد الثقة في مؤسسات الحكم، وإلى تعميق الشقة بين الفلسطينيين والسلطات الفلسطينية أو بين الفلسطينيين بعضهم البعض. ويجب أن يسود النظام القضائي الاتجاه إلى الاحترام الصارم لسيادة القانون والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه المبادئ الدولية لحقوق الإنسان تلقي الضوء على أوجه القصور الخطيرة في طريقة استجابة السلطة الفلسطينية لما تراه من الخطر المتمثل في المتعاونين مع إسرائيل.
أولاً، بعض حقوق الإنسان لا يجوز تعليقها تحت أي ظرف من الظروف. فالتعذيب والقتل خارج نطاق القضاء والقتل التعسفي أو بدون محاكمة أمور محرمة مهما كانت الجريمة المنسوبة للشخص. ومع ذلك فإن هذا التقرير يؤكد أن الفلسطينيين الذين زعم تعاونهم مع إسرائيل تعرضوا للتعذيب، ولقي بعضهم حتفهم في الحجز.
ثانياً، هناك مبدأ أساسي في القانون الجنائي يقضي بألا يُعتقل أي فرد إلا إذا كان هناك اشتباه في ارتكابه جرماً جنائياً ينص عليه القانون، أو إذا وُجِّه إليه اتهام بارتكابها. وقد ذكر مسؤولون بالسلطة الفلسطينية لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان" أنهم لا يقبضون على المتعاونين مع إسرائيل أو يحتجزونهم أو يقدمونهم للمحاكمة إلا إذا كانوا ينتمون لإحدى فئتين: الأولى تضم من كانوا على علاقة بالأمن الإسرائيلي بعد عام 1994، خصوصاً المخبرين الذين يدلون بمعلومات تساعد إسرائيل في سياسة "التصفيات".

ومن وجهة نظر السلطة الفلسطينية فإن إعطاء هذه المعلومات لإسرائيل يرقى إلى درجة الجرائم الجنائية التي ينص عليها القانون، من قبيل "الخيانة العظمى" أو "التجسس"، ويُعاقب عليها بالإعدام أو السجن مدة طويلة.
كما تقول السلطة الفلسطينية إنها تلقي القبض على الفلسطينيين الذين يبيعون الأراضي لإسرائيل؛ وليس من الغريب على الحكومات أن تحرِّم التنازل عن ملكية الأراضي للأجانب، بما في ذلك رعايا الدول المجاورة، أو أن تعاقب عليه. وعادة ما يتم التعامل مع انتهاك هذا التحريم بإبطال بيع الأراضي في المحاكم و/أو بفرض غرامات أو أحكام بالسجن. وفي سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أعلنت السلطة الفلسطينية أن جميع صور التنازل عن ملكية الأراضي على هذا النحو تمثل تهديداً للأمن القومي يُعاقَب عليه بالسجن لمدد طويلة أو حتى بعقوبة الإعدام.
في هاتين الحالتين لا تميز السلطة الفلسطينية بين المستويات المختلفة للجرم؛ ويبدو أنها لا تأخذ في الاعتبار عنصر النية في ارتكاب الجريمة؛ إذ لا يجوز، مثلاً، اعتبار مجرد الاتصال بالإسرائيليين أو حتى بمسؤولي الأمن الإسرائيليين في حد ذاته جريمة خيانة ما لم يكن المتهم قد ارتكب فعلاً معيناً. فإذا اشترك شخص دون قصد في أنشطة إسرائيلية لجمع المعلومات فلا ينبغي اتهامه بجريمة الخيانة العظمى الفادحة ولا إدانته بها.
وأخيراً فإنه من حق جميع الأشخاص التمتع بحقوق متساوية في أثناء القبض عليهم واعتقالهم؛ فالشخص الذي يزعم أنه يتعاون مع إسرائيل، مثله مثل أي مشتبه فيه، يجب أن يعامل على قدم المساواة مع الآخرين وفقاً للقانون الفلسطيني والمعايير الدولية للتوقيف والاعتقال والمحاكمة. ويجب ألا يلقى القبض بشكل تعسفي على أي شخص، أو بدون دليل كافٍ، أو بشكل ينتهك سلامة الإجراءات القانونية.

هل التغيير ممكن أثناء الانتفاضة؟
ذكر بعض القادة الفلسطينيين لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان" أنهم يوافقون على ضرورة وضع إجراءات لتقليص أو إنهاء انتهاكات حقوق الإنسان وتعزيز النظام القضائي، ولكن هذه الإصلاحات ليست ممكنة في أثناء الصراع المحتدم مع إسرائيل وفي ظل استمرار وطأة القيود الإسرائيلية. لكن منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" تعتقد على العكس من ذلك أن السلطة الفلسطينية يمكنها - بل ويجب عليها - أن تتخذ خطوات عملية الآن، حتى في خضم الأزمة الراهنة، لضمان تحقيق العدالة وبناء نظام قضائي فلسطيني فعال ومستقل. وقد وضعت التوصيات التالية مع مراعاة الظروف القائمة على أرض الواقع في خضم الأزمة الحالية، ولكنها صيغت من منطلق الاعتقاد بأن هناك ضرورة ملحة لإيقاف هذه الانتهاكات الخطيرة وواسعة النطاق لحقوق الإنسان التي يرتكبها المسؤولون الفلسطينيون ضد مواطنيهم الفلسطينيين.

السلطة الفلسطينية
البيان الصحفي
محتويات التقرير
  • ملخص
  • توصيات للسلطة الفلسطينية
  • توصيات لحكومة اسرائيل وأمريكا وأخرين
  • الهوامش
  • الشرق الأوسط
  • اسرائيل والسلطة الفلسطينية


  • الصفحة الرئيسية