مُلخص
على مدى نحو 30 عاما، بما فيه خلال فترة الاحتلال من قِبَل سلطة التحالف المؤقتة بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، تقاعست السلطات العراقية عن إدارة وتنظيم الموارد المائية في العراق بشكل مُناسب، مما أدى إلى حرمان سكان محافظة البصرة جنوب العراق - البالغ عددهم حوالي 4 ملايين نسمة - من حقهم في الحصول على مياه شرب مأمونة. مصادر المياه الأساسية في البصرة هي نهر شط العرب وقنوات مياهه العذبة. لكن الإخفاقات الحكومية المتعددة منذ الثمانينيات، بما في ذلك سوء إدارة المنابع في أعلى النهر، وسوء تنظيم التلوّث والصرف الصحي، والإهمال المزمن وسوء إدارة البنية التحتية للمياه، تسببت في تدهور نوعية هذه المجاري المائية.
مع أن تدهور مصادر المياه في البصرة يعتبر مشكلة مستمرة منذ عقود، إلا أنه أصبح أزمة متكاملة في صيف 2018، عندما نُقل 118 ألف شخص على الأقل إلى المستشفى بسبب أعراض حددها الأطباء على أنها متصلة بنوعية المياه. في أغسطس/آب، بدأ مئات الأشخاص يتدفقون إلى مستشفيات البصرة وهم يُعانون من الطفح الجلدي، وآلام في البطن، والقيء، والإسهال، بشكل يفوق طاقة موظفي المستشفيات ومخزونات الأدوية المتوفرة. بحلول 16 أغسطس/آب، حددت "دائرة صحة البصرة" تلوّث المياه كسبب محتمل، ودعا مديرها، رياض عبد الأمير، الناس إلى غلي المياه قبل شربها أو استعمالها في الطبخ.
في الأسبوع التالي، نفت وزارة الصحة العراقية تفشي وباء الكوليرا الخطير أو أمراض أخرى نتيجة لتلوّث المياه في محافظة البصرة، رغم استمرار دخول مئات الأشخاص إلى المستشفيات كل يوم. في 26 أغسطس/آب، اجتاح مئات السكان دائرة صحة البصرة احتجاجا على سوء الخدمات الصحية المقدمة للمرضى. في 29 سبتمبر/أيلول، صرح مهدي التميمي، مدير مكتب "المفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان" في البصرة، بأن عدد الحالات وصل إلى 100 ألف، مع تسجيل السلطات الصحية 118 ألف حالة على الأقل بحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2018. اختلف الخبراء بشأن السبب المحدد للمرض، إلا أنهم اتفقوا جميعا على أن الأمر يتعلق بنوعية المياه الرديئة.
في شأن متصل بالأزمة، ووفقا لـ "الأمم المتحدة"، اضطر حوالي 4 آلاف شخص إلى مغادرة منازلهم في أغسطس/آب 2018، على الأرجح لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على كفايتهم من المياه الصالحة للشرب، لكن لم تُثبت بوضوح بعد هذه العلاقة السببية.
في تلك السنة، انخفضت المياه المتدفقة إلى شط العرب وقنواته من الأنهار في المنابع، مما أدى إلى ارتفاع مستويات مياه الصرف الصحي، والتلوّث الزراعي والصناعي، وملوحة المياه. يعتقد بعض الخبراء أن الأزمة الصحية سببها تكاثر للطحالب نتيجة لهذه الظروف.
سبقت أزمة 2018 أزمات صحية مماثلة متعلقة بالمياه في 2009 و2015، لكن السلطات المحلية والاتحادية تقاعست بعد هذه الأزمات عن معالجة أسبابها الكامنة بشكل صحيح، أو في وضع إجراءات لحماية السكان عند حدوث أزمة جديدة. على سبيل المثال، خلال 2018، لم تُحذّر السلطات السكان بشكل مناسب من رداءة نوعية المياه ولم تنشر بعد أي تحقيقات رسمية بشأن سبب الأزمة الصحية.
كما تُواصل السلطات السماح للأنشطة التي تلوّث مصادر المياه في البصرة أو تغضّ الطرف عنها، مما يؤدي إلى انخفاض تدفقات المياه رغم المخاطر الصحية والمالية التي يتعرض لها السكان. في فبراير/شباط 2019، على الأرجح نتيجة لأزمة 2018، بدأت "وزارة الصحة والبيئة" نشر تقارير أسبوعية على الإنترنت عن نوعية المياه في دجلة، والفرات، وشط العرب. تُظهر هذه التقارير بشكل منتظم مؤشر نوعية المياه الذي يستند إلى مجموعة من المتغيّرات، بما في ذلك مستويات الملوحة والفوسفات والحموضة وعلامات مؤشرة أخرى في أجزاء من الأنهار، والتي تقل عن 50 نقطة، أي أقل بكثير من التصنيف المقبول لنوعية المياه.
عدم تنفيذ المشاريع الحكومية الموعودة لتحسين نوعية المياه بسبب سوء الإدارة والفساد يُعقد المشكلة. كما أن السلطات لم تُزوّد السكان بالمعلومات المناسبة لحماية أنفسهم في حالة حدوث أزمة في المستقبل، والتي يقول الخبراء إنها حتمية. تنتهك هذه الإخفاقات مجتمعة حق سكان البصرة في الماء، والصرف الصحي، والصحة، والمعلومات، والبيئة الصحية والملكية (الأراضي والمحاصيل) التي يكفلها القانون الدولي وكذلك القانون الوطني.
التأثير الأكبر لارتفاع تكلفة المياه، لا سيما خلال الأزمة، كان على السكان الأكثر فقرا، إذ جعلهم بشكل خاص عرضة لمياه الصنبور غير المأمونة. يعيش أكثر من 338,400 شخص من سكان البصرة في مساكن غير رسمية (عشوائيات) منتشرة في جميع أنحاء المحافظة، وغير مُتصلة بشبكة المياه والصرف الصحي الرسمية، مما يجعلها من بين أكثر المناطق المتأثرة بانعدام الأمن المائي في المحافظة. نتيجة لذلك، يلجأ البعض إلى جر المياه بشكل غير قانوني من شبكة المياه عند وجود أنابيب تمر من تحت منازلهم. تأثرت هذا المجتمع، وغيره من المجموعات الأكثر فقرا وتهميشا في البصرة، بشكل خاص وحاد بالأزمة. لكي تضمن الدول الحق في المياه، هي مُلزمة بالعمل من أجل تحقيق حصول الجميع على المياه والصرف الصحي، دون تمييز، مع إعطاء الأولوية للأكثر حاجة إليها.
غياب المعلومات خلال الأزمة الصحية في 2018
خلال أزمة 2018، تقاعست السلطات عن تحذير السكان بشكل صحيح أو فوري من آثار المياه الملوّثة وكيفية تجنب الضرر، أو عن التحقيق بشكل مناسب في الحالات الجديدة لمحاولة تقييم الأسباب المحتملة للمرض. كما أنها لم تُعلن بعد عن سبب الأمراض المرتبطة بالمياه.
لم تُنشَر نتائج الاختبارات التي أجريت على عينات المياه التي أخذتها السلطات خلال أزمة صيف 2018 على طول شط العرب، وفي محطات المعالجة، بما فيها تلك التي تمت بالشراكة مع "جامعة بغداد". كما لم تُنشَر التقارير التي أعدتها الجامعة أو "منظمة الصحة العالمية" في أعقاب الأزمة. قالت السلطات الاتحادية والمحلية لـ "هيومن رايتس ووتش" إن النتائج والتقارير سرية.
باستثناء بيان صحفي غير حاسم صادر عن مكتب محافظ البصرة، لم تُنشَر أي معلومات رسمية حول أسباب الأزمة الصحية. تُرِك العراقيون في الظلام بشأن الخطوات التي اتخذتها السلطات لمنع حدوث أزمة صحية أخرى متعلقة بالمياه، أو تلك التي ستتخذها للحد من الضرر إن حدث أزمة مماثلة.
تتمثل إحدى الثغرات الكبيرة في الإطار التنظيمي العراقي في الغياب التام لنظام تحذيري أو توجيهي بشأن الصحة العامة الذي من شأنه تمكين السلطات من إبلاغ السكان عندما تكون، أو قد تكون، مياه الشرب في مجتمع محلي ما ملوثة، وما هي الخطوات التي ينبغي اتخاذها لتخفيف الضرر، وما هي البروتوكولات الي يتعيّن على المسؤولين الحكوميين اتباعها للاستجابة للتحذيرات ورفعها. لم يتم تطبيق أي نظام مُماثل منذ أزمة 2018.
سوء إدارة المياه
أزمة 2018 الصحية هي انعكاس للإخفاقات المتعددة للسلطات في حماية مصادر المياه في البصرة أو التخفيف من تأثير نوعيتها المتدهورة على السكان. السلطات المحلية والاتحادية لا تُطبِق ولا تُنفِذ بشكل سليم الإطار التنظيمي القوي للعراق الذي يمنع المؤسسات العامة والخاصة من التخلص من النفايات غير المعالجة في أي من المجاري المائية في البلاد بشكل يزيد عن المعدلات التي تحددها وزارة الصحة. نتيجة لذلك، تمتلئ المجاري المائية، بما في ذلك شط العرب، بملوّثات من النفايات البشرية والحيوانية والصناعية والزراعية. لا تُزيل محطات معالجة المياه التقليدية في البصرة الملوّثات أو لا تختبر نوعية المياه بشكل مناسب، وفي بعض الحالات لا تُضيف ما يكفي من الكلور أثناء المعالجة.
على مر العقود، مع تقاعس الدولة عن تزويد السكان بالمياه العذبة المأمونة الكافية، ازدهر القطاع الخاص للمياه. لكن السلطات في البصرة لم توفّر رقابة كافية لهذا القطاع الخاص. على سبيل المثال، لم تحرص إلا مؤخرا على حيازة محطات التحلية والتصفية بالتناضح العكسي "آر زيرو" (RO)، وأصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه (أصحاب السيارات الحوضية) تراخيص وعلى التزامهم بالمعايير المحلية والدولية لضمان المعالجة السليمة للمياه.
كما أخفقت السلطات في ضمان ربط جميع السكان بشبكة المياه والصرف الصحي. شجع ذلك الأسر المُستثناة من الشبكة على استغلالها بشكل غير قانوني. رغم أزمات المياه التي شهدتها البصرة في 2009 و2015، حتى أزمة 2018، لم تتخذ السلطات أي إجراء جدي للقضاء على هذا الاستغلال غير القانوني بشبكة المياه. لسنوات، ظل المزارعون والشركات يستغلون قنوات المياه العذبة، التي لا تكون المياه فيها مغطاة. لم تتخذ السلطات خطوات مهمة كافية لإصلاح الأضرار التي لحقت بشبكة الأنابيب لخفض التسرب والتلوّث ولمنع الأفراد والشركات من الاستغلال غير القانوني لهذه الشبكة. لم تستجمع السلطات إرادتها السياسية لاتخاذ تدابير بهدف وقف هذه الممارسة إلا بعد أزمة 2018.
بالإضافة إلى ذلك، أساءت السلطات بشدة إدارة موارد المياه العراقية لدرجة أن الأنهار وقنوات المياه العذبة لا تضخ الكميات الكافية من المياه ذات النوعية المناسبة إلى محطات المعالجة العامة بالمحافظة. أكثر من 300 ألف شخص من سكان محافظة البصرة غير مرتبطين بشبكة المياه والصرف الصحي، مما يؤدي إلى تلويث هذه المجتمعات للمياه الجوفية بمياه الصرف الصحي غير المعالجة، والاستغلال غير القانوني لشبكة الأنابيب من أجل الحصول على المياه، وإلى تعريض النظم إلى الهدر، وخسارة الإيرادات، وانخفاض ضغط المياه، والتلوّث المحتمل. كما منع الفساد داخل المؤسسات التجارية والحكومية المحلية إنجاز الحلول الهندسية في الوقت المحدد.
قال الدكتور شكري الحسن، أستاذ محاضر في علوم البحار بجامعة البصرة، لـ هيومن رايتس ووتش إن أزمة المياه في 2018 كانت ذروة سنوات من سوء الإدارة، تجاهلت خلالها السلطات الحقائق الواضحة والمسؤوليات المنوطة بها:
أثبتت هذه الأزمة أن الحكومة ضعيفة ويعتريها سوء إدارة الخدمة العامة. لهذا السبب استمرت الأزمة لأكثر من ثلاثة أشهر. كل المسؤولين كانوا يتخذون قرارات فقط لتبرئة أنفسهم، و[كان هناك] إحجام عن طلب مساعدة المجتمع الدولي واستقدام الخبراء الضروريين لحماية سكان البصرة. لهذا السبب كان هناك هذا العدد الكبير من الضحايا، وطبعا الأكثر فقرا هم من يعانون. عار على الحكومة.
محطات المياه العامة في البصرة غير مُجهزة بالتقنيات اللازمة لإزالة المكونات الذائبة الناجمة عن تسرب مياه البحر من شط العرب. هذه المكونات تجعل الكلور، وهو مادة كيميائية شائعة الاستخدام لمعالجة المياه، أقل فعالية في إزالة المواد الضارة. كما يقول الخبراء إن سلطات المياه وجدت صعوبة في الحصول على كميات كافية من الكلور بسبب الضوابط الصارمة التي تهدف إلى منع هذه المادة الكيميائية من الوقوع بين أيدي جماعات مثل "تنظيم الدولة الإسلامية" (المعروف أيضا بـ’داعش‘) التي استخدمتها كسلاح. قال الخبراء إنه نتيجة لذلك لم تتمكن بعض المحطات العامة من إضافة ما يكفي من الكلور إلى المياه لجعلها مأمونة.
بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال مراجعة صور الأقمار الصناعية ليوم 15 يوليو/تموز، اكتشفت هيومن رايتس ووتش تسربا نفطيا مرجّحا في شط العرب كان ظاهرا للعيان في ذلك التاريخ، وربما قد بدأ قبل أيام، بالقرب من حقل للنفط والغاز على بعد 25 كيلومترا من مدينة البصرة. لم يُبلّغ المسؤولون الحكوميون أو وسائل الإعلام أبدا عن التسرب، الذي يبدو أنه كان يمتد 24 كيلومترا على طول النهر في 15 يوليو/تموز، ولم يكشف عنه أي من العاملين في قطاع المياه الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش لغرض هذا التقرير، مما يشير إلى أنهم ربما لم يكونوا على علم به.
حددت صور الأقمار الصناعية التي حللتها هيومن رايتس ووتش أيضا تسربا مرجّحا آخر للنفط في قناة في وسط البصرة في الفترة من 28 إلى 29 أكتوبر/تشرين الأول 2018 بجوار محطة وقود، والذي انجرف حوالي 200 متر شرقا نحو شط العرب. لم يُبلَغ أيضا عن هذا الحادث في ذلك الوقت. كان خطا أنابيب غير محددين تحت الأرض، على طول قنوات في وسط مدينة البصرة، يطلقان دوريا ما يشتبه الباحثون بأنه كميات كبيرة من النفايات السائلة في القناة من يوليو/تموز إلى أكتوبر/تشرين الأول 2018. كما تُبيّن صور الأقمار الصناعية التي حللتها هيومن رايتس ووتش أن أكوام من النفايات بدأت تتراكم على ضفاف قنوات في أنحاء البصرة والتي تصب في شط العرب وسط مدينة البصرة من مارس/آذار 2018 حتى فبراير/شباط 2019.
تفاقمت الأزمة جراء انخفاض معدلات التدفق في الأنهار بسبب بناء سدود في أعلى النهر مرتبطة بمزارع السكر ومشاريع زراعية أخرى، خاصة في إيران، وانخفاض تساقط الأمطار في العقود الأخيرة، على الأرجح نتيجة لتغيّر المناخ، دون وجود سياسات مناسبة متبعة لتخفيف التأثير. كما تفاقمت هذه الأزمة بسبب الاستخدام غير المستدام للمياه في الزراعة والاستعمالات المنزلية.
الآثار الزراعية والصحية
الزراعة هي المصدر الرئيسي للدخل بالنسبة للمجتمعات الريفية في محافظة البصرة. مع ذلك، فقد المزارعون خلال العقد الماضي استخدام جزء كبير من أراضيهم بسبب الري بالمياه المالحة، التي تُلحق الضرر بالتربة وتقتل النباتات، وبسبب مشاريع في أعلى النهر، والتي حالت دون تخلص الفيضانات الشتوية من الأملاح الموجودة في التربة في الخليج. انخفض إنتاج المحاصيل في أنحاء المحافظة بشكل كبير منذ الثمانينيات.
قبل وقت ليس ببعيد، كانت الزراعة - التمور في الجنوب، والقمح والشعير والخضروات في الشمال - مصدرا رئيسيا لكسب العيش لأكثر من 70 بالمئة من المجتمعات الريفية، وأكبر مصدر للعمالة الريفية. مع ذلك، تغير هذا الوضع خلال العقد الماضي، حيث انخفضت كمية المياه العذبة التي يحصل عليها البصراويون. في السبعينيات، أنتج العراق أكثر من مليون طن من التمور سنويا، وبلغت الصادرات من البصرة وحدها 130 ألف طن سنويا. منذ ذلك الحين، فُقدت حوالي 87 بالمئة من الأراضي الزراعية في البصرة كليا أو جزئيا بسبب تسرب مياه البحر.
البصرة ليست هي المحافظة الوحيدة التي تأثرت بهذه الطريقة. وفقا لـ "برنامج الأمم المتحدة للبيئة"، يفقد العراق يفقد حاليا نحو 25 ألف هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة سنويا، معظمها في الجنوب، كما يزداد التصحر. يتسبب تغير المناخ بارتفاع درجات الحرارة مما يؤدي إلى زيادة التبخر، وتناقص التساقطات المطرية، وتغيّر أنماط الطقس التي تُسهم في نقص المياه. بينما تلقى بعض المزارعين تعويضا عن خسائرهم خلال الأزمات السابقة في 2009 و2015، قال مزارعون متضررون من أزمة 2018 إنهم لم يتلقوا بعد تعويضا عن خسائرهم.
أثّرت المياه الملوّثة أيضا على صحة الناس، وكان التأثير الأكثر حدة في صيف 2018 عندما أٌدخِل 118 ألف شخص على الأقل إلى المستشفيات. استشارت هيومن رايتس ووتش العديد من الخبراء في مجال نوعية المياه والأطباء العراقيين والدوليين، وقدمت إليهم بيانات من عينات مياه تم اختبارها خلال الأزمة. حصل الباحثون على العينات من مجموعة من المصادر المختلفة. بينما كان للخبراء نظريات مختلفة حول السبب الممكن لتفشي المرض خلال تلك الفترة، اتفقوا جميعا على أنه على الأرجح أن تكون المياه الملوّثة هي السبب.
وجدت هيومن رايتس ووتش أدلة على وجود تكاثر كبير للطحالب على طول شط العرب وسط مدينة البصرة والذي قد يكون متصلا بتفشي المرض. يبدو أن تكاثر الطحالب كان موجودا في النهر من مارس/آذار 2018 إلى أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2018. يبدو ذلك واضحا بحلول شهر سبتمبر/أيلول 2018، وهو الشهر نفسه الذي حدد فيه أستاذ متخصص في الهيدرولوجيا وعلوم البحار في "جامعة البصرة" كتلة بُنية اللون قادمة من قناة جانبية إلى شط العرب وسط البصرة، والتي اشتبه في أنها تكاثر للطحالب. تُظهر صور الأقمار الصناعية التي حللتها هيومن رايتس ووتش الكتلة الملوّنة في الماء. خصائص الكتلة كانت مميّزة لتكاثر الطحالب وفقا لخبراء نوعية المياه الدوليين الذين راجعوا الصور، بمن فيهم خبير رائد في تكاثر الطحالب الضارة.
المواد العضوية، بما في ذلك الفضلات البشرية والحيوانية، والقمامة، والجريان السطحي للتربة الملوّثة بالأسمدة الزراعية ومخلّفات النفط تُشجع على نمو الطحالب. ارتفاع درجات الحرارة الناتج عن تغيّر المناخ زاد أيضا من احتمال تكاثر الطحالب الضارة. لم تُجرِ المختبرات التي فحصت عينات المياه وقت الأزمة اختبارات بحثا عن وجود الطحالب الضارة إما بسبب نقص المعدات أو لأنها لم تعترف بوجود محتمل لها. تشمل الأسباب المحتملة الأخرى فيروسات (مثل نوروفيروس –يسبب التهاب المعدة)، والطفيليات (الجيارديا أو الكريبتوسبوريديوم)، والبكتيريا (إي -كولاي)، ومعادن سامة ناتجة عن الصرف الصحي والتلوّث الزراعي والصناعي. كما أن ارتفاع ملوحة المياه يمكن أن يكون قد ساهم في تفشي المرض بحسب خبراء شاركوا في تحليل عينات المياه خلال الأزمة.
سبل المضي قُدما
لدى مواجهة أزمة المياه التي لم تُعالَج إلى حد كبير، والتي من شبه المؤكد أنها ستزداد سوءا، على السلطات المحلية والاتحادية أن تُنفِذ التزامات العراق باحترام وحماية وإعمال الحق في الماء. يتطلب الالتزام باحترام هذا الحق من الدول الامتناع عن التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في التمتع بالحق في الماء. على سبيل المثال، على الدول الامتناع عن تلويث موارد المياه أو قطع خدمات المياه والصرف الصحي بشكل تعسفي وغير قانوني.
يتطلب الالتزام بالحماية أن تمنع الدول الأطراف الثالثة من التدخل في الحق في الماء. على الدول اعتماد وتطبيق التشريعات لضمان امتثال الجهات الفاعلة من القطاع الخاص - مثل المحطات الخاصة لتصفية المياه أو محطات التناضح العكسي وأصحاب السيارات الحوضية - بالمعايير الحقوقية المتعلقة بالحق في الماء.
الالتزام بالإنفاذ يتطلب من الدول اعتماد التدابير التشريعية، والإدارية، والمالية، والقضائية، والترويجية وغيرها من التدابير المناسبة لإعمال الحق في الماء بشكل كامل. على الدول، من بين أمور أخرى، اعتماد سياسة وطنية بشأن المياه: تعطي الأولوية في إدارة المياه للاستخدامات الشخصية والمنزلية الأساسية؛ تُحدد أهداف توسيع خدمات المياه، مع التركيز على الفئات المحرومة والمهمشة؛ تنظر في الآثار الحالية والمتوقعة لتغيّر المناخ على مخططاتها؛ تُحدد الموارد المتاحة لتحقيق هذه الأهداف؛ تُحدد الطريقة الأكثر فعالية من حيث التكلفة لاستخدامها؛ تُحدد المسؤوليات والإطار الزمني لتنفيذ هذه التدابير؛ ترصد النتائج والنواتج، بما في ذلك ضمان سبل الانتصاف المناسبة فيما يتعلق بالانتهاكات.
انسجاما مع هذه الالتزامات، ونظرا لتعقيد القضية التي تواجهها البصرة، على السلطات المحلية والاتحادية أن تشكل فرقة عمل مستقلة ومتعددة الاختصاصات للمياه والبيئة لها سلطة والتزام بمراقبة الوضع المستمر، وتنسيق الإجراءات بين مختلف السلطات، والتشاور مع السكان المتضررين بغية معالجة أزمة المياه في العراق بطريقة استراتيجية وطويلة الأمد ومستدامة.
كخطوة أولى، ينبغي أن تُعلن فرقة العمل عن نتائج التقارير التي أجريت بتكليف من السلطات خلال الأزمة الصحية في 2018 وأن تُعلن عن الخطط الطويلة الأمد لمنع حدوث أزمات مائية في المستقبل، وعن الخطط القصيرة الأمد للاستجابة لأزمة محتملة هذا الصيف عبر تدابير طبية وتدابير تخفيف أخرى مناسبة. ينبغي أن تضمن فرقة العمل تعويض المتضررين من آثار الأزمة على سبل عيشهم، خاصة المزارعين الذين فقدوا مصدر عيشهم.
على فرقة العمل وضع استراتيجية تحدد بوضوح السلطات المسؤولة عن القضاء على التخلص غير المشروع من الملوّثات في المجاري المائية في العراق، والاستغلال غير المشروع للمياه، وتسجيل واختبار ومعاقبة محطات المياه الخاصة وأصحاب السيارات الحوضية. على سلطات بغداد محاسبة المسؤولين المحليين الذين لا يقومون بواجباتهم.
على فريق من الخبراء، بمن فيهم خبراء دوليين، إجراء دراسة شاملة لمشاكل المياه في جنوب العراق، بما في ذلك تقييم الاحتياجات من المياه، ونوعية المياه المتاحة وكميتها، قبل أن تبدأ المشاريع الهندسية الكبرى. ينبغي أن تُراجع الدراسة أيضا حالة محطات المعالجة العامة وشبكة التوصيل، من أجل وضع استراتيجية لمعالجة الأزمة. في الوقت نفسه، ينبغي أن تطلق فرقة العمل استراتيجية وطنية لتثقيف الناس حول استخدام المياه بطريقة أكثر مسؤولية بغية خفض الاستهلاك. يتعيّن أن تكون المحاسبة في صلب أي استراتيجية، بحيث تكون هناك آليات قضائية وشبه قضائية واضحة تسمح لكل من الجهات الناظمة الحكومية والأفراد بالسعي إلى إنفاذ القوانين والأنظمة والالتزامات الأساسية للحق في الماء. على سبيل المثال، ينبغي وضع آليات واضحة لتقديم الشكاوى على المستوى المحلي حتى يتمكن الأفراد من تقديم الشكاوى، مع الإبقاء على سبل قضائية للأفراد في حالة استنفاد الآليات المحلية.
على السلطات المحلية والاتحادية العراقية أن تضمن حصول جميع السكان بشكل فعال على المعلومات المتعلقة بنوعية المياه، وأن يحصل الذين يفتقرون إلى المياه المأمونة المناسبة على سبل انتصاف فعالة ضد المسؤولين. ينبغي أن تتضمن مثل هذه السبل تحركا طارئ عند انقطاع الوصول إلى المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي.
المنهجية
قابلت هيومن رايتس ووتش، لأجل هذا التقرير، 58 شخصا من سكان البصرة، 46 منهم مرضوا خلال 2018 بسبب أزمة المياه أو لديهم أقارب مرضوا، وخمسة فقدوا سبل عيشهم بسبب أزمة المياه. كما قابلنا أحد أصحاب محطات التناضح العكسي الخاصة، ومشغّلا لمحطة خاصة للتحلية، وثلاثة مشغّلين لمحطات عامة، واثنين من أصحاب السيارات الحوضية الخاصة، وأربعة اختصاصيين في الرعاية الصحية، وسبعة أفراد أجروا اختبارات لعينات مياه من شط العرب ومحطات المعالجة والصنابير في المنازل. قابلت هيومن رايتس ووتش ممثلين عن مجلس محافظة البصرة، ومكتب المحافظ، ووزارة الموارد المائية، ومديريات المياه والمجاري التابعة لوزارة البلديات والأشغال العامة، ووزارة الصحة والبيئة ووزارة الزراعة.
راجع الباحثون العديد من التقارير التي أعدتها منظمات حكومية وغير حكومية حول الأزمة. شملت بعض هذه التقارير بيانات كمية ونتائج اختبار عينات. كما استشار الباحثون ثمانية خبراء دوليين في مجال نوعية المياه وهندسة المياه.
تحدث باحثو هيومن رايتس ووتش مع الأشخاص الذين قابلوهم مُباشرة عند الإمكان، لكنهم أجروا في بعض الحالات المقابلات عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني، باللغة العربية أو الإنغليزية. أبلغ الباحثون جميع من قابلوهم بهدف المقابلات وطبيعتها الطوعية، والطرق التي سيستخدمون بها المعلومات، وحصلوا على موافقة جميع الذين قابلوهم الذين فهموا أنهم لن يتلقوا أي تعويض عن مشاركتهم. لأسباب تتعلق بالأمن الشخصي، حجبت هيومن رايتس ووتش أسماء عدد قليل ممن قابلتهم.
حللت هيومن رايتس ووتش صور الأقمار الصناعية العلمية والتجارية للمنطقة والتي أخذت على مدى عشرين عاما من أجل إجراء تقييم ناقد للتغيّرات في ممارسات استخدام الأراضي والمياه التي يحتمل أن تكون مرتبطة بأزمة المياه. شمل ذلك مراجعة تفصيلية للتغيّرات المحلية في استهلاك المياه في الزراعة التجارية والصناعة، فضلا عن بناء السدود، والخزانات، والقنوات في إيران وتركيا داخل حوض مستجمع مياه نهري دجلة والفرات. راجعت هيومن رايتس ووتش قواعد البيانات البيئية والهيدرولوجية التي أنتجتها وكالتا الفضاء الأوروبية والأمريكية (ESA وNASA) لتقييم التغيّرات الإقليمية في التدفقات النهرية، ومستويات المياه في البحيرات، والغطاء النباتي. استخدمت هيومن رايتس ووتش أيضا صور الأقمار الصناعية لتحديد ما يُشتبه في أنه مخططات غير قانونية لتحويل المياه، وطحالب ضارة مُحتملة، وتسربات نفطية، ولرصد تغيّر مستويات النفايات البلدية في شبكة القنوات في البصرة، وللتحقق من الموقع والتاريخ التقريبي للفيديوهات ذات الصلة التي نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي.
قدم الباحثون أسئلة مكتوبة لـ "هيئة النزاهة المستقلة" في العراق في يناير/كانون الثاني 2019، لكنهم لم يتلقوا أي رد موضوعي. كما أرسلت هيومن رايتس ووتش في 18 أبريل/نيسان إلى حكومة العراق قائمة بأسئلة بناء على أبحاثها. لم تقدم سلطات بغداد أي رد. تحافظ هيومن رايتس ووتش على تواصل مع الحكومة الاتحادية العراقية، وتُعرِب عن امتنانها للتعاون الذي حظيت به لتقييم الحقائق الواردة في هذا التقرير وأي توصيات نتجت عنها.
.Iالخلفية
تقع محافظة البصرة في جنوب العراق، على الحدود مع الكويت جنوبا وإيران شرقا، ويبلغ عدد سكانها حوالي 4 ملايين نسمة، وفقا لمجلس المحافظة.[1] غالبية السكان من الشيعة، مع أقلية سنية وأقلية مسيحية صغيرة.[2] تمتلك البصرة كمية كبيرة من احتياطيات النفط العراقية، والتي تمثل حوالي 95 بالمئة من إيرادات الدولة العراقية بمعدلات الإنتاج الحالية. في ديسمبر/كانون الأول 2018، كان العراق يُصدّر 3.726 مليون برميل من النفط يوميا، وأنتج 6.1 مليار دولار أمريكي في ديسمبر/كانون الأول فقط.[3]
كانت محافظة البصرة في الماضي أكبر منتج في البلاد للتمور والقمح والشعير والأرز.[4] رغم غنى البصرة بالموارد، فهي تُعاني من بطالة مزمنة، ونقص في العمالة، والفقر، فضلا عن ضُعف الخدمات العامة، وتدهور البنية التحتية، وهو ما يعتقد الكثيرون أنه نتيجة سوء الإدارة والفساد.[5]
على مدى عقود، بما فيه خلال فترة الاحتلال من السلطة المؤقتة للتحالف بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، عانى سكان البصرة من عدم توفر مياه الشرب المأمونة. يُعتبر شط العرب، وهو نهر يتدفق من ملتقى نهري دجلة والفرات، المصدر الرئيسي للمياه السطحية في المنطقة. مع ذلك، أجبر انخفاض منسوب مياه شط العرب، الذي تسبب في ارتفاع ملوحة المياه والتلوّث غير المُراقَب، سكان البصرة على شراء المياه للشرب والطهي، مما هدّد سبل عيش المزارعين، وأدى على الأقل إلى ثلاث أزمات صحية عامة.
كانت سياسات وممارسات السلطات العراقية منذ الثمانينيات السبب الرئيسي في تدهور نوعية مياه شط العرب. لكن هناك أيضا عوامل أخرى تُساهم في انخفاض منسوبه، بما فيه بناء سدود في أعلى النهر، والري، وتغيّر المناخ. أثّرت مشاريع بناء السدود في إيران وسوريا وتركيا على تدفق المياه إلى نهري دجلة والفرات منذ الثمانينيات.[6] في الوقت نفسه، تتخلص السلطات المحلية والأفراد والشركات من المزيد من النفايات الصناعية والزراعية والبشرية في الأنهار.[7]
مما عقد الأمر، أن أجزاء من الحرب العراقية الإيرانية من 1980-1988 و"حرب الخليج" من 1990-1991 تم خوضها على طول شط العرب، تاركة وراءها أضرارا ونفايات سامة (بما في ذلك ذخائر) في المياه.[8] في التسعينيات، تركت العقوبات المفروضة على العراق البلاد دون الموارد اللازمة للاستثمار في إعادة بناء البنية التحتية للبصرة.[9]
في التسعينيات أيضا، أطلق صدام حسين حملة لتجفيف الأهوار الواقعة غرب مدينة البصرة لمعاقبة المجتمع المحلي لإيوائه شخصيات شيعية معارضة.[10] في ذلك الوقت، كانت الأراضي الرطبة المصدر الرئيسي للمياه العذبة في البصرة.[11] على مر السنوات، وبسبب هذا والعوامل المذكورة أعلاه، استمرت نوعية وكمية مياه شط العرب في التدهور. خططت الحكومة في البداية لإنشاء خط أنابيب لضخ المياه من نهر الغراف في الكوت، عبر الناصرية، مباشرة إلى البصرة، ولكن بسبب آثار حرب الخليج على الميزانية، قررت الحكومة توفير المال، وبدل إنشاء خط الأنابيب، شيّدت قناة البدعة المفتوحة بطول 240 كيلومتر، وهي تُعرف بـ "القناة الحلوة"، لجلب المياه العذبة من دجلة إلى البصرة لتزويد المدينة بمياه الصنبور.
يعتمد اثنان من أكبر أهوار العراق، الأهوار الوسطى وهور الحمار، في الأغلب على نهر الفرات لتجديد مخزونها.[12] بسبب تسرب مياه البحر إلى شط العرب، بنت وزارة الموارد المائية في 2014 سدا على نهر الفرات، بين الأهوار الوسطى وهور الحمّار، وقبل بداية شط العرب، لمنع وصول مياه البحر إلى الفرات.[13] خلال العقد الماضي، تراجعت كمية المياه في الفرات إلى حد جعلها بالكاد قادرة على الحفاظ على الأهوار بنصف حجمها الأصلي.[14] كان لمشروع السد على نهر الفرات، والذي كان قادرا على الاحتفاظ بكثير من المياه في الأهوار، تأثير كبير على خفض كمية المياه المتدفقة من الأهوار أسفل نهر الفرات إلى شط العرب.
قال 58 من سكان البصرة الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش لأجل هذا التقرير إنهم وغيرهم من سكان البصرة لم يتمكنوا من شرب مياه الصنبور أو الطهي بها منذ الثمانينات بسبب مخاوف بخصوص التلوّث ومستويات ملوحة المياه، ويستخدمون الماء فقط للاغتسال، وغسل الأطباق، والفواكه والخضروات.[15] قالوا جميعا إن كل عائلة، أمام هذا الوضع وبغض النظر عن مدى فقرها، تشتري المياه المحلاة والمصفاة بالتناضح العكسي (المياه المصفاة) والتي يتم توصيلها بواسطة السيارات الحوضية وتُخزّن في خزانات أو حاويات شخصية، أو مياه معدنية معبأة لأغراض الطهي والشرب. نتيجة لذلك، وجد "المجلس النرويجي للاجئين" في 2018 أن السكان يصرفون شهريا 60 دولار كحد أدنى للأسرة الواحدة لشراء المياه المصفاة وما بين 60 و 80 دولار شهريا لشراء مياه نظيفة بما يكفي للنظافة الشخصية، وغسل الملابس، وغيرها من الاستخدامات ما عدا الشرب.[16] أجرت منظمة إغاثة دراسة في 2018 توصلت إلى أن متوسط إجمالي دخل الأسرة الشهري على المستوى الوطني للعائلات غير النازحة كان 490 ألف دينار عراقي (410 دولارات).[17] ذكر التقرير أيضا أن المصدر الرئيسي للمياه لغالبية الأسر في الجنوب هو شراؤها من متجر، بدلا الحصول عليها عبر شبكة عامة.[18]
مما فاقم الوضع، بدأت البصرة وأجزاء أخرى من جنوب العراق تعاني أزمات نقص شديد في المياه ابتداء من 2009، والتي تفاقمت على الأرجح بسبب آثار تغيّر المناخ على درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار.[19]
أصبح نقص المياه حادا مرة أخرى في 2015، وتكرر في 2017 عندما ساهمت سيطرة داعش على مناطق على ضفاف نهر الفرات في سوريا في انخفاض تدفق المياه عبر الحدود إلى العراق.[20] بعد سيطرة داعش على ذلك الجزء من النهر، ساهمت المستويات المنخفضة للأمطار والثلوج في شتاء 2017 -2018 في حدوث أزمة حادة في المياه، مما تسبب في إصابة الآلاف من سكان البصرة بالمرض وتدمير الأراضي الزراعية في صيف 2018.[21]
نتيجة لتدهور إمكانية الحصول على المياه النظيفة، من بين مظالم أخرى، خلال صيف 2018، بدأ سكان البصرة يتظاهرون بأعداد كبيرة ضد سوء تقديم الخدمات والفساد السياسي.[22] ردت السلطات بحجب الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في العراق، واستخدمت القوة المفرطة ضد المتظاهرين، مما أسفر عن مقتل تسعة أشخاص على الأقل وجرح المئات، واعتقالات تعسفية، قبل أن تُفرج في نهاية المطاف عن المتظاهرين من دون أي تُهم.[23]
بسبب انخفاض المياه من المنبع إلى شط العرب، شهد النهر مع مرور الوقت تسربا كبيرا لمياه البحر، خاصة في أشهر الصيف. من التوصيات الأكثر شيوعا من قبل سلطات البصرة للتصدي لهدا التسرب هي بناء سد جنوب البصرة على شط العرب لمنع تسرب مياه البحر (يشار إليه في كثير من الأحيان باسم اقتراح "سد أبو فلوس")، والذي قد يشمل ممرا للسماح للسفن بالعبور.[24]
لكن الخبراء الدوليين الذين استشارتهم هيومن رايتس ووتش حذروا جميعا من هذا الاقتراح. قال خبير مياه دولي يعمل في العراق لـ هيومن رايتس ووتش إن إقامة سد على مصب النهر له آثار بيئية وملاحية كبيرة وينبغي تجنبه.[25] حذر من أن السد قد يدفع البحر إلى قضم الشاطئ بقوة أكبر، مما يسرع من آثار الارتفاع الحالي في مستوى البحر.
أشار الخبراء إلى أنه بسبب نقص الضوابط على إلقاء مياه الصرف الصحي والتلوّث الصناعي والزراعي في أعلى النهر، من المرجح أن ينتهي الأمر بالسد إلى تخزين المياه الراكدة والشديدة التلوّث خلف جدرانه.[26] بالإضافة إلى ذلك، تساعد موجات المد الحالية في النهر في تدفق كميات كبيرة من النفايات الصلبة التي يرميها السكان إلى القنوات التي تغذي شط العرب.[27]
حركة مد وجزر المياه القادمة إلى شط العرب في اتجاهين يُعقد أيضا الأمور.[28] قال الخبراء إنهم لا يعرفون أي مثال آخر في العالم لبناء سد على مصب النهر بهدف منع تسرب مياه البحر.
.IIالمشكلة: نقص المياه المأمونة للسكان ومصادر الرزق
تقاعست السلطات العراقية، لما يقرب من 30 عاما، عن ضمان حصول البصرة على مياه بنوعية وكمية مناسبتين. أدى انخفاض كمية المياه القادمة من المنبع إلى تسرب مياه البحر من الخليج إلى شط العرب، وهو النهر الذي تقع عليه البصرة. في الوقت نفسه، أصبحت المياه القادمة من المنبع أكثر تلوّثا بما في ذلك بملوّثات لا تستطيع محطات المعالجة التقليدية إزالتها. نتيجة لذلك، لم يتمكن سكان البصرة من استخدام مياه الصنبور للشرب أو للطهي لعدة عقود بسبب مخاوف من التلوّث ومستويات ملوحة المياه، ويستخدمونها فقط للاغتسال، وغسل الأطباق والفواكه والخضروات. اضطر المزارعون لري أراضيهم بمياه النهر المالحة، مما أضرّ بمحاصيلهم.
عجْز العراق عن إدارة موارده المائية ومعالجتها بشكل سليم، وعن إنفاذ أنظمة مكافحة التلوّث، وتزويد سكان محافظة البصرة بمياه شرب مأمونة، له تأثير على مجموعة من حقوقهم، وهو ما أصبح واضحا للغاية خلال أزمة 2018. أثّر سوء إدارة المياه المستمر لعقود على حقوق السكان في الماء، والصرف الصحي، والصحة، والملكية والتعليم. قد تكون أزمة 2018 تسببت أيضا بالتهجير، رغم أن الصلة بين الماء والتهجير في العراق تتطلب مزيدا من الدراسة.
الملوحة
نتيجة لعدم كفاية المياه المتدفقة من الفرات ودجلة إلى مجرى شط العرب المائي، أظهرت الاختبارات ارتفاع تركيز الملح بثلاثة أضعاف في الأنهار الرئيسية في العراق خلال نصف القرن الماضي، مما أدى إلى مياه نهرية ضاربة إلى الملوحة بشدة.[29] هذا نتيجة لري الزراعة الكثيفة للغاية في المنبع في العراق وكذلك التبخر.[30] كما أدى نقص مياه النهر إلى تدفق ارتجاعي لمياه البحر إلى شط العرب، مما زاد من إجمالي مستويات المواد الصلبة الذائبة.[31] ستتم مناقشة هذا الموضوع لاحقا في هذا التقرير. هذا له تأثير كبير على قدرات الناس على البقاء وممارسة الزراعة في مناطقهم الأصلية.
سبل العيش: الزراعة وتربية الماشية ومصائد الأسماك
كان لنقص المياه وتدني نوعيتها تأثير كبير على القطاع الزراعي في محافظة البصرة. منذ وقت ليس ببعيد، كانت الزراعة - التمور في الجنوب، والقمح والشعير والخضروات في الشمال - مصدرا رئيسيا لكسب العيش لأكثر من 70 بالمئة من المجتمعات الريفية، وأكبر مَصدر للعمالة الريفية.[32] مع ذلك، فقد تغير هذا خلال العقد الماضي، إذ حصل البصراويون على كميات أقل من المياه العذبة. كنتيجة لذلك، جزئيا، استقر العديد من سكان المناطق الريفية، على مر السنين، في البصرة.[33]
تعتمد الزراعة في البصرة بشكل كبير على الري بمياه الأنهار والأراضي الرطبة، بما أن البصرة تتلقى عموما كمية غير كافية من الأمطار. قال الدكتور محسن دشر، أستاذ العلوم الزراعية في جامعة البصرة، إنه مع مرور السنوات، وبسبب الملوحة في المياه المستخدمة في الري، تراكم الملح في التربة.[34] أدى ذلك إلى موت النبات، وانخفاض إنتاج المحاصيل، وتأثيرات طويلة الأمد على استدامة الأراضي الزراعية للاستخدام المستقبلي.[35]
قال دشر إن أهم علامة على تسرب مياه البحر هي موت أشجار النخيل في البصرة. في السبعينيات، كان العراق ينتج سنويا أكثر من مليون طن من التمور، وبلغت صادرات البصرة السنوية وحدها 130 ألف طن.[36] قدّر أن 87 بالمئة من الأراضي الزراعية في البصرة فُقدت بالكامل أو جزئيا بسبب تسرب مياه البحر.[37] توقفت الآن معظم الأنشطة الزراعية.[38]
قال جعفر صباح، مزارع من أبو الخصيب، مدينة فقيرة جنوب شرق البصرة، إن الأرض، خلال السنوات الخمس الماضية، كانت تُظهر كل عام علامات على ارتفاع الملوحة.
كل عام كنت أحصل على 50 في المئة من إنتاج العام السابق، ثم في 2018، لم ينجُ أي شيء تقريبا. في 2018، كان مستوى الملوحة في المياه مرتفعا لدرجة أنني تمكنت من التقاط الملح من الماء بيدي. أموت من العطش وكذلك أطفالي. حصلت أربع حالات تسمم في عائلتي. لا أملك المال ولا أستطيع نقلهم إلى المستشفى. من أين سأحصل على المال؟[39]
وفقا لوزارة الزراعة، كان المزارعون في البصرة يستخدمون 38,607 هكتار لزراعة محاصيلهم في شتاء 2008 - 2009، و11,393 هكتار في صيف 2008.[40] بعد عشر سنوات، في شتاء 2017 - 2018، انخفضت المساحة إلى 16,386 هكتار، وفي صيف 2018 انخفضت إلى 3,237 هكتار.[41]
كما أثرت نوعية المياه على مصادر رزق مُربي الماشية من خلال التسبب في نفوق معظم الأبقار وجواميس المياه.[42] كان المزارعون يستخدمون عادة تبن القمح كعلف للحيوانات، لكن المياه المالحة عطلت إنتاج القمح، مما جعل علف الحيوانات نادرا وأعلى تكلفة.[43]
عند سؤاله عن هذه التطورات، قال عامر سلمان عبد الحسين، مدير مديرية زراعة البصرة، إن الوزارة ليس لديها برنامج لتتبع نفوق الحيوانات المرتبط بأزمة المياه.[44]
قال مهدي عبد الصياد حمزة، مزارع من الصالحية، إنه اعتاد أن يزرع على مساحة 1.5 هكتار عشرات المحاصيل، وقبل أزمة المياه في 2018 كانت لديه 6 أبقار، و20 دجاجة، و40 خروفا، ومزرعة أسماك بها 10 آلاف سمكة.[45] استخدم مياه النهر للحفاظ على أرضه وماشيته. في بداية الأزمة، بدأت المزروعات تموت، وخلال شهر واحد لم يتبق منها أي شيء. قال إن 14 دجاجة، و20 خروفا، وكل أسماكه نفقت، وكانت الأسماك تنزف من عيونها. قال إن أبقاره نجت لكنها في حالة صحية سيئة.
يمتلك جاسم محمد، مزارع من السيبة، 0.24 هكتار كان يزرع فيها 40 نخلة منتجة للتمور، والعنب، والعديد من أنواع الفاكهة الأخرى، ويربي فيها 6 أبقار.[46] قدّر خسارته بحوالي 6 ملايين دينار عراقي (5 آلاف دولار) في 2018،
أصيبت أبقاري جميعها بالمرض، وماتت أشجار العنب والفاكهة. تضررت أشجار النخيل لدرجة أن التمور التي أنتجتها بعد الأزمة كانت غير صالحة للأكل مما اضطرني إلى التخلص منها جميعا.[47]
قال إنه كان يشتري خلال الأزمة متر مكعب يوميا من المياه المُعالجة المنقولة بالسيارات الحوضية لأسرته وأبقاره، لأن الأبقار لم تعد قادرة على شرب مياه النهر. قال: "الطريقة الوحيدة التي نجونا بها هي استخدام معاشي التقاعدي من الجيش. كل هذا المال ذهب فقط نحو الحاجيات الأساسية للبقاء، ولم يتبق أي شيء لإعادة استثماره في الأرض".[48]
عبد الرحيم عبد الكريم عبد الواحد، مُزارع من الفيحاء، ناحية تقع على بعد 10 كيلومترات جنوب مدينة البصرة. يمتلك 0.5 هكتار استخدمها في زراعة العديد من الأعشاب، والزهور، وأشجار النخيل المنتجة للتمر. قال،
كنت أمتلك 50 شجرة نخيل، وكانت تعاني على مر السنين خلال الصيف لكنها تتعافى بحلول الشتاء. خلال أزمة العام الماضي، ماتت 41 شجرة، لذلك لم يتبق لي سوى 9 أشجار. كانت التمور التي تُنتجها الأشجار التسعة غير صالحة للأكل فاضطررت إلى رميها.[49]
بسبب الآثار على الزراعة في البصرة، هناك الآن كمية كبيرة من المنتجات الزراعية المستوردة من إيران تُباع في أسواق البصرة والتي يُقدّر التجار أنها تشكّل أكثر من 80 بالمئة من البضائع المعروضة للبيع.[50]
مع أن مديرية زراعة البصرة أنجزت تقييمات لخسائر المزارعين وقالت إنها عوّضتهم بناء على ذلك بعد أزمة 2009، وأن موظف في وزارة الزراعة في البصرة قال إن المزارعين في السيبة وأبو الخصيب تم تعويضهم عن أزمة 2018، قال محمد ومزارع آخر من السيبة إن لجنة جاءت في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 لتقييم خسائرهم، لكنهم حتى كانون الثاني/يناير 2019 لم يكونوا قد عرفوا ما إذا كانوا سيتلقون أي تعويض.[51]
أدى التأثير الضار لأزمة المياه على الممتلكات إلى توترات وعنف بين السكان. وفقا للمجلس النرويجي للاجئين، أبلغ سكان البصرة في سبتمبر/أيلول عن وقوع أعمال عنف محلية تتعلق بالحق في الموارد والمراعي لمواشيهم.[52] في إحدى الحالات، أفاد نازحون أن جواميسهم قُتلت رميا بالرصاص من قبل أفراد المجتمع المُضيف بسبب رعيها في مناطق يزرعها السكان. كانت هناك أيضا تقارير غير رسمية عن العنف المسلح بين المجتمعات المختلفة حول القضايا نفسها.[53]
التهجير
قد يكون نقص المياه وسبل العيش أدى أيضا إلى التهجير في البصرة.[54] بينما لا تتوفر سلطات البصرة على تقديرات تُشاركها، اضطر حوالي 4 آلاف شخص، وفقا للأمم المتحدة، إلى مغادرة منازلهم في أغسطس/آب 2018 لأنهم لا يحصلون على الكميات الكافية من المياه الصالحة للشرب.[55] حتى يناير/كانون الثاني 2019، كانت لا تزال هناك 208 عائلة مهجرة من البصرة، على الأرجح بسبب رداءة نوعية المياه أو عدم الحصول عليها، يعيش معظمها في المحافظات الجنوبية الأخرى.[56]
المجلس الدنماركي للاجئين، الذي يدعم العائلات النازحة من الجنوب، قلق لكون هذه العائلات غير قادرة على تسجيل أبنائها في المدارس لأنهم لا يحملون بطاقات الإقامة في مناطقهم الجديدة، ولا تتلقى مساعدة حكومية للعائلات النازحة داخليا لأنها غير مسجلة لدى "وزارة الهجرة والمهجرين"، وغالبا ما تعيش في مساكن غير دائمة، غالبا ما تكون غير رسمية (عشوائيات)، وبدون عمل ثابت.[57]
التلوّث
المواد العضوية، بما في ذلك المخلفات البشرية والحيوانية، والقمامة، والجريان السطحي التربة الملوّثة بالأسمدة الزراعية، ومخلفات النفط، وغيرها من أشكال النفايات، تلوّث المجاري المائية في البصرة. لا تستطيع محطات معالجة المياه العامة التقليدية معالجة جميع الملوّثات الموجودة في المياه، وفي بعض الحالات تُخفق في معالجة الملوّثات التي يمكنها إزالتها بشكل مناسب، بسبب نقص استخدام الكلور بشكل كاف. سيُناقش ذلك بشكل أوسع لاحقا في هذا التقرير. كان لذلك تأثير على صحة سكان البصرة.
الصحة
ظهرت الآثار الصحية الأكثر حدة لأزمة المياه في البصرة في صيف 2018. قال عامل في قطاع الرعاية الصحية في البصرة، الذي كان يدعم مستشفيات المدينة، إن وزارة الصحة سجلت 118 ألف شخص أصيبوا بالمرض، "بسبب المياه"، ما بين 12 أغسطس/آب، اليوم الذي أعلنت فيه السلطات عن الأزمة الجارية، ونوفمبر/تشرين الثاني، حيث استقبلت بعض المستشفيات 3 آلاف مريض يوميا خلال ذروة الأزمة.[58]
قال موظف في قطاع الصحة من أبو الخصيب يعمل في واحد من المستشفيين المحليين إن المستشفى حيث يعمل عالج خلال الأزمة أكثر من 3 آلاف مريض.[59] "جاء الناس إلى المستشفى وهم مصابون بالإسهال، والقيء، وآلام البطن. كل ما أمكننا القيام به هو علاج الأعراض لأننا لم نعلم بالضبط سبب مرضهم". قال موظف في قطاع الصحة عمل كمقدم إسعافات أولية في مستشفى في أبو الخصيب لمدة 16 يوما خلال الأزمة،
ما بين 500 إلى 700 مريض كانوا يأتون كل يوم خلال ذروة الأزمة. لم يكن لدينا وقت لمعاينتهم أو تشخيص حالتهم بشكل صحيح. كل ما أمكننا القيام به هو إعطاءهم حقن لتخفيف آلام المعدة، ووصف محلول ملحي لهم لمعالجة التجفاف، وإعطائهم دواء لتخفيف الغثيان.[60]
قال عامل رعاية صحية في البصرة وسكان مرضوا خلال الأزمة لـ هيومن رايتس ووتش إنهم أخرجوا من المستشفى في غضون 6 ساعات، حالما تم التأكد من عدم إصابتهم بالكوليرا، وتلقوا بعض العلاج للغثيان والإسهال، وعموما تعافوا بشكل تام في غضون ثلاثة إلى أربعة أيام.[61]
قال الدكتور شكري الحسن، محاضر في علوم البحار في جامعة البصرة، والخبير المستقل في الرعاية الصحية، إن العدد الحقيقي للذين مرضوا هو أعلى بكثير على الأرجح، بما أن العدد الرسمي هو عدد الذين ذهبوا إلى المرافق التي تديرها الحكومة. فهو لا يشمل الذين ذهبوا إلى العيادات الخاصة، أو الذين لم يذهبوا إلى أي مستشفى. كما يندرج ضمن الـ 118 ألف فقط أولئك الذين سجلتهم الوزارة من 12 أغسطس/آب فصاعدا.[62] قال الخبير إنه يعتقد أن العدد الحقيقي كان أقرب إلى 130 ألف مصاب. شدد العديد من الذين قابلناهم على أنهم بدأوا يمرضون قبل 12 أغسطس/آب، وقال بعضهم إن الناس كانوا لا يزالون يصابون بالمرض في يناير/كانون الثاني 2019.[63]
لم تحدد وزارة الصحة سبب المرض في أي من الحالات باستثناء اختبار براز المرضى للتأكد من عدم وجود الكوليرا، والذي استطاعوا إجراءه في جميع الحالات.[64] قال عامل رعاية صحية في البصرة إن الافتراض الذي كانت المستشفيات تعمل على أساسه هو أن مياه الصنبور، التي يحصل عليها الناس من شط العرب، كانت ملوّثة بمجموعة من الملوّثات ومستويات مفرطة من الملوحة. قال إن المرضى كانوا يُخبِرون الأطباء أنهم يستخدمون مياه الصنبور للاغتسال، وغسل أطباقهم والفواكه والخضروات، ولم يكونوا يشربونها.[65]
قال خبير مستقل في الرعاية الصحية إن العديد من الحالات كانت متجمعة حول محطات المعالجة العامة التي تستمد معظم مياهها من شط العرب بدلا من قناة البدعة، وهي قناة تنقل المياه العذبة إلى البصرة من أعلى نهر دجلة، عبر محطة الضخ آر زيرو. قال إنهم لاحظوا أن بعض الأحياء تتلقى المياه من محطتين منفصلتين، وأنه في هذه الحالات، ظهرت في الشوارع التي تتلقى المياه عبر محطة تعتمد على قناة البدعة عبر آر زيرو علامات مرض أقل بكثير من الشوارع التي تعتمد على محطة تضخ بشكل أساسي المياه المعالجة التي تستمدها من شط العرب. أشار إلى أن معدلات الإصابة بالمرض في مناطق مثل الزبير، والسيبة، والفاو، وهي مدن تقع جنوب البصرة، كانت أقل بكثير لأنها تعتمد على قناة البدعة وقناة كتيبان، وهي قناة للري تبدأ من أعلى شط العرب.[66]
تظهر البيانات التي راجعتها هيومن رايتس ووتش بشأن عدد المرضى الذين استقبلتهم مستشفيات مختلفة بين 12 أغسطس/آب و28 أكتوبر/تشرين الأول أن المستشفيات السبعة الموجودة في الأحياء التي تتلقى المياه من محطات المعالجة التي تعتمد بشكل أكبر على شط العرب شهدت أعداد من المرضى أكثر بـ 10.2 مرات مقارنة مع الأعداد التي استقبلتها المستشفيات الخمسة في الأحياء التي تتلقى المياه من محطات المعالجة التي تعتمد بشكل أكبر على قناة المياه العذبة.[67] استقبلت المستشفيات الـ 12 ما مجموعه أكثر من 109 ألف مريض خلال تلك الفترة.
قال موظف في قطاع الصحة في أبو الخصيب إن موظفي المستشفى حيث كان يعمل أخذوا عينات بول وبراز من المرضى، ولكن وزارة الصحة، حسب علمه، أجرت فقط اختبارات الكوليرا على العينات.[68] لا علم له بأية اختبارات أخرى قد تكون الوزارة أجرتها. قال إيد براون، خبير دولي في المياه وأستاذ فخري في جامعة أيوا الشمالية، إنه نظرا إلى الأعراض، كان ينبغي للمستشفيات، حالما تم استبعاد الكوليرا وغيرها من مسببات الأمراض البكتيرية والطفيلية، إجراء اختبارات للكشف عن وجود فيروسات.[69]
في الواقع، شهدت القادسية، 300 كيلومتر شمال غرب البصرة، في أكتوبر/تشرين الأول 2018 تفشي التهاب الكبد A وE بسبب تلوّث المياه، مما يبرز الصعوبات التي تواجه العراق في ضمان نوعية مياه مأمونة.[70]
نظريات عن سبب المرض
للتأكد مما تسبب بالمرض، استشارت هيومن رايتس ووتش العديد من الخبراء في نوعية المياه والأطباء العراقيين والدوليين. شارك الباحثون معهم بيانات من عينات المياه، التي أخذت أثناء الأزمة من مواقع مختلفة على طول شط العرب، ومن محطات معالجة المياه العامة والخاصة، ومن صنابير السكان.[71] كانت لدى الخبراء نظريات مختلفة حول الأسباب المحتملة للمرض، إلا أنهم اتفقوا جميعا على أن الماء هو السبب على الأرجح. أشاروا جميعا إلى أنه استنادا إلى العينات والبيانات الصادرة عن رقي أحمر، مديرة المختبر المركزي، حول القيود المفروضة على نظام ومعدات الاختبار، كان من الواضح أن السلطات لم تُجر اختبارات تتعلق بالعديد من المواد الضارة المحتملة التي قد تكون موجودة في المياه التي يتم إرسالها إلى منازل الناس.[72]
طرح الدكتور عبد الزهرة الحلو، أستاذ علوم المياه والبحار بجامعة البصرة، نظرية مفادها أن الناس تسمموا بسبب تكاثر الطحالب في المياه التي استهلكوها.[73] شارك معنا شريط فيديو صوره برفقة زملائه في 26 سبتمبر/أيلول تظهر فيه كتلة بنية اللون قادمة من نهر الخندق، قناة في وسط مدينة البصرة تصب في شط العرب وسط المدينة، وهي ما اعتقد أنه تكاثر الطحالب.[74] تُظهر صور الأقمار الصناعية التي حللتها هيومن رايتس ووتش الكتلة الملونة في الماء، قادمة من قناة صغيرة وسط مدينة البصرة تصب في شط العرب، من مارس/آذار إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2018.
بدت الكتلة ذات خصائص شبيهة جدا بتكاثر الطحالب وفقا لخبيرين دوليين في نوعية المياه راجعا الصور، بما في ذلك خبير بارز في تكاثر الطحالب الضارة.[75] أظهرت بعض الصور تيار تعكر من الجريان السطحي، والذي من شأنه أن يجلب المغذيات التي تستخدمها الطحالب في النمو. في المياه العذبة، الطحالب الخضراء المزرقة هي التي تتسبب تقريبا بشكل حصري بتكاثر الطحالب الضارة. في مياه البحر، يتسبب نوع مختلف من الطحالب يدعى السوطيات الدوّارة (dinoflagellates) في تكاثر الطحالب الضارة، والذي يسمى غالبا بالمد الأحمر.[76] لم تسمح الصور للخبراء بتحديد نوع الطحالب التي قد تمثلها الكتلة، لكن المياه في شط العرب كانت مالحة لدرجة أنهم لم يستبعدوا وجود طحالب بحرية.[77] لا يدمر الكلور بشكل فعال السموم الناتجة عن تكاثر الطحالب الضارة.[78]
لن تكون هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اكتشاف تكاثر الطحالب الضارة في شط العرب. في 2015، وفقا لبيان صادر عن وزارة الموارد المائية، أغلقت السلطات مؤقتا عدة محطات لمعالجة المياه التي تسحب المياه من شط العرب بسبب وجود تكاثر الطحالب الضارة في مياه البحر، أو المد الأحمر، التي قالت إنها تكاثرت بسبب ارتفاع معدلات التلوّث والملوحة في الماء.[79]
تختلف الأعراض الناتجة عن شرب المياه الملوّثة بتكاثر الطحالب بحسب نوع المياه إن كانت عذبة أم بحرية، لكنها تشمل ألم البطن، والحمى، والصداع، والقيء، والإسهال الدموي.[80] يتسرب الفوسفور الزائد من الإفراط في التسميد إلى المياه ويُغذي الطحالب كما تفعل مواد عضوية أخرى، بما في ذلك الفضلات البشرية والحيوانية، والقمامة.[81]
خلال الأزمة، كان حوالي 60 بالمئة من المصابين ذكورا، وكان عمر 70 بالمئة منهم بين 15 و45 عاما.[82] في العراق، لاحظت هيومن رايتس ووتش أن الرجال من هذه الفئة العمرية هم أكثر من يُحتمل أن يتناول الطعام في المطاعم مقارنة مع النساء أو الأطفال أو كبار السن. قال عامل في قطاع الرعاية الصحة في البصرة، الذي له أخ عمل في العديد من مطاعم المدينة، إن المطاعم غالبا ما تستعمل مياه الصنبور في الطهي بدلا من استعمال المياه المصفاة.[83] من المحتمل أن تكون المياه المحلاة بالتناضح العكسي قد أزالت فعليا السموم البيولوجية الشائعة لتكاثر الطحالب الضارة.[84]
أكدت أحمر، مديرة المختبر المركزي، أن مختبرها لا يملك معدات لاختبار وجود الطحالب الضارة.[85] كما أكدت السلطات وموظفو الأمم المتحدة، الذين حققوا في أسباب المرض وقت الأزمة، لـ هيومن رايتس ووتش أنهم لم يُنجزوا أبدا اختبارات لوجود الطحالب على عينات المياه التي أرسلوها إلى الخارج لاختبارها.[86]
أشار بعض الخبراء إلى أسباب أخرى محتملة، بما في ذلك أنه من المرجح أن يكون ارتفاع مستوى الملوحة في المياه مع مستويات كبيرة مقترنا بمياه الصرف الصحي غير المعالجة سببا رئيسيا محتملا لإصابة الأفراد بالمرض، مع استعمال الأسر لمياه الصنبور الملوّثة لغسل الفواكه والخضروات ووجوههم.[87] ركز آخرون على عدم كفاية كمية الكلور المستخدم في المعالجة، وتسرب المياه الجوفية الملوّثة بالبراز إلى أنابيب شبكة المياه، ووجود الكريبتوسبوريديوم والجيارديات.[88] مع ذلك، فإن تفشي البكتيريا، أو الكريبتوسبوريديوم أو الجيارديا يُظهر عادة أعراض على المصابين قد تستمر لفترة أطول، ربما أسابيع، بدلا من عدة ساعات أو بضعة أيام فقط.[89]
ركز بعض الخبراء على وجود النفايات الصناعية في المياه، مؤكدين أن عينات المياه المأخوذة على مر السنين أظهرت آثار لوجود الرصاص، والزنك، والكادميوم، والكبريتات، والبورون، والمغنيزيوم.[90] التسمم الحاد بالمعادن، مثل التسمم بالكادميوم والزئبق على سبيل المثال، يمكن أن يبدأ بالغثيان، والقيء، والإسهال.[91]
قال أحد الخبراء الدوليين إن الأعراض تشير إلى وجود فيروس معوي ينتقل من تلوّث الطعام و/أو المياه وينتشر أكثر من شخص لآخر.[92] رغم أن البيانات لم تسمح له بتحديد المصدر الأصلي للتلوّث، فإن براز شخص أو حيوان مريض الذي ينتهي به الأمر في مياه الشرب غير المطهرة بشكل صحيح يمكن أن يكون قد نشر الفيروس.
المدارس
رغم أن أزمة المياه كانت أكثر حدة خلال العطلة الصيفية، فمنذ بداية العام الدراسي 2018 - 2019، نُقل طلاب إلى المستشفى بسبب أعراض مشابهة لأعراض الأمراض المنقولة بالمياه مثل الإسهال، والقيء، والطفح الجلدي، والجرب.[93] قال عبد الرزاق صباح، مدير مدرسة في أبو الخصيب، إنه أخبر الطلاب، عندما فتحت المدارس أبوابها بعد العطلة، في 30 سبتمبر/أيلول، أنه يتعين عليهم إحضار مياه الشرب معهم من المنزل لأنه كان قلقا بشأن مياه الصنبور بالمدرسة.[94] رغم احتياطاته، قال: "في مدرستي، أصيب ما لا يقل عن 15 طفلا بالمرض، ربما بسبب مياه المدرسة، أو مياه المنزل".[95]
وفقا للمجلس النرويجي للاجئين، عندما بدأ العام الدراسي، كان أكثر من 277 ألف طفل في 800 مدرسة معرضين بشكل متزايد لخطر الإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه، بسبب الاكتظاظ في المرافق المتهالكة في ظروف شديدة الحرارة دون الحصول ما يكفي من المياه المأمونة.[96] أدت البنية التحتية المتردية للمدارس بسبب نقص الاستثمارات الكافية، مقترنة بارتفاع أعداد الأطفال في الفصول الدراسية المكتظة، إلى جعل المدارس مرتعا لتفشي الأمراض المنقولة بالمياه.
أدى هذا الوضع إلى عدم انتظام المواظبة على الدراسة، وربما إلى التسرب المدرسي، وفقا للمجلس النرويجي للاجئين، الذي أعاد تأهيل البنى التحتية للمياه في 12 مدرسة من بين الأكثر تضررا. المجلس النرويجي للاجئين قلق من ظهور نفس المشكلات في صيف 2019.[97]
تكلفة المياه
السكان الأكثر فقرا هم الأكثر تأثرا بتكلفة المياه المرتفعة، إذ يصبحون عرضة لمياه بشكل خاص لمياه الصنبور غير المأمونة، وكان هذا الوضع حادا للغاية خلال أزمة 2018. فخلال الأزمة، ارتفع سعر المياه المصفاة من المعامل والسيارات الحوضية الخاصة بشكل كبير. قال أحد أصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه لـ هيومن رايتس ووتش إنه كان في الحي الذي يسكن فيه في أبو الخصيب، يبيع المتر المكعب بـ 5 آلاف دينار عراقي (4 دولار)، لكنه خلال الأزمة رفع السعر بأكثر من الضعف.[98] وفقا لموظف في قطاع الصحة، في منطقة أخرى، كان أصحاب السيارات الحوضية يبيعون المتر المكعب من المياه المالحة من أجل البناء والري واستخدامات أخرى بـ 18 ألف دينار عراقي (15 دولار)، ومياه الشرب بـ 25 ألف دينار عراقي (21 دولار) للمتر المكعب.[99]
كان العديد من الذين مرضوا من منطقة أبو الخصيب، مدينة فقيرة جنوب شرق البصرة.[100] قال عامل في الرعاية الصحية من أبو الخصيب إن عائلته توقفت عن استخدام المياه للطهي ولكنها استمرت في استخدامها للغسيل لأنها لا تستطيع تحمل تكاليف البدائل، رغم علمه بالمخاطر.[101]
قال عبد الرزاق، مدير مدرسة في أبو الخصيب،
اعتدنا على أن تتحول مياه الصنبور إلى مياه مالحة بالفعل لمدة شهرين أو ثلاثة كل صيف، لكن في العام الماضي كان الوضع أسوأ من أي وقت مضى، بدأ لون المياه يتغير ليصبح بنيا. نتيجة لذلك، لم تستطع محطات المعالجة العامة أن تفعل أي شيء لجعلها أقل ملوحة وأرسلت لنا مياه الصنوبر السيئة، وأصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه كانوا يبيعون مياههم بأسعار مرتفعة. في منطقتنا وحدها، انتهى المطاف بـ 8 آلاف شخص في المستشفى بسبب المرض[102].
وصفت الأسر الأكثر فقرا التي قابلتها هيومن رايتس ووتش كيف عانت لتحمل تكلفة المياه المصفاة، وكذلك رسوم دخول المستشفى، والأدوية من الصيدليات.[103] غالبا ما كانت هذه العائلات تعيش في مساكن غير رسمية (عشوائية)، وعادة ما تكون مبان مؤقتة ذاتية البناء على أراض غير مصنفة على أنها سكنية وتُبنى دون ترخيص من الحكومة، أو في أحياء بعيدة عن وسط المدينة والطرق الرئيسية. نتيجة لذلك، قالت بعض العائلات إن السيارات الحوضية التي تنقل المياه المصفاة لا تصل إلى منازلهم إلا بشكل متقطع.
.IIIالسبب: عدم كفاية نوعية المياه وكميتها
منذ أزمة المياه الخطيرة الأولى في البصرة في 2009، أطلقت السلطات بضع مبادرات لتحسين إمداد المحافظة بالمياه، لكن شابها سوء الإدارة وغياب ميزانية طويلة الأمد. في نفس الوقت، لم تطبق السلطات بالصرامة الكافية القوانين والأنظمة الحالية المتعلقة بمعالجة المياه العامة وتوصيلها؛ والقطاع الخاص للمياه، بما في ذلك المحطات الخاصة للمعالجة بالتناضح العكسي ونقل المياه بالسيارات الحوضية؛ ومعالجة مياه الصرف الصحي؛ والتخلص الآمن من النفايات الصناعية والزراعية.[104] نتيجة لذلك، كانت نوعية وكمية المياه في البصرة غير كافية وتُشكلان خطرا على سكانها.
ساهم الفساد أيضا، وفقا للسكان، في تدهور نوعية وكمية المياه في البصرة عبر تقويض إنفاذ القوانين ذات الصلة بالمياه وعرقلة جهود الحكومة لبناء بنى تحتية مهمة متعلقة بالمياه.[105] أحد الاعتقادات الشائعة هي أن الأفراد العاملين في الصناعة أو الزراعة دفعوا رشاوى للسلطات المحلية طيلة عقد تقريبا للسماح لهم بالاستفادة بشكل غير قانوني من قنوات المياه العذبة لجر المياه منها، مُخلفين كميات قليلة للمحطات العامة لمعالجة المياه في البصرة. رأي آخر سائد بين السكان يقول إن الفساد طال بناء بعض منشآت المياه في البصرة، بما في ذلك مشروع ماء البصرة الكبير بشكل خاص، مما أدى إلى سنوات من التأخير في استكمال محطة كبيرة جديدة لتحلية المياه.
يواصل العراقيون استخدام المياه بشكل غير مستدام في الزراعة وفي المنازل. كما لعب بناء سدود في أعلى النهر وتغيّر المناخ دورا في تقليل منسوب المياه المتدفقة في أسفل مجرى النهر، مما أثر على نوعية وكمية المياه. خلال أزمة 2018، لم تُزود السلطات السكان بالمعلومات المناسبة، والأدوية المجانية، ولم تُجرِ تحقيقا دقيقا بما فيه الكفاية في الأسباب المحتملة للأزمة الصحية.
يمكن تقسيم تقاعس السلطات عن تزويد سكان البصرة بمياه مأمونة بما يكفي إلى عدم وفائها بالتزاماتها باحترام وحماية وإعمال حقهم في الماء.
عدم الإنفاذ
لا تُنفذ السلطات المحلية والاتحادية ولا تُطبق بشكل صحيح الإطار القانوني القوي للعراق الذي يمنع المؤسسات العامة والخاصة من إلقاء النفايات غير المُعالجة في أي من المجاري المائية في البلاد بما يتجاوز المعدلات التي تسمح بها وزارة الصحة. نتيجة لذلك، تمتلئ المجاري المائية، بما في ذلك شط العرب، بملوثات من النفايات البشرية والحيوانية والصناعية والزراعية. لا تقوم محطات المُعالجة التقليدية التي تُعالج مياه الصنبور في البصرة بالاختبارات الكافية للمياه لإزالة الملوّثات منها، وفي بعض الحالات لا تُضيف حتى الكلور الضروري أثناء المعالجة.
على مر العقود، وبما أن الدولة تقاعست عن تزويد السكان بالمياه العذبة المأمونة الكافية، ازدهر القطاع الخاص للمياه. حتى وقت قريب، تقاعست السلطات في البصرة عن توفير الإشراف المناسب على عمليات المحطات الخاصة للتحلية بالتناضح العكسي للمياه المصفاة وعلى أصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه، للتأكد من أنهم مشغلون مرخصون ويلتزمون بالمعايير المحلية والدولية لضمان المعالجة السليمة للمياه.
لم تضمن السلطات ربط جميع السكان بشبكة المياه والمجاري، مما شجّع العائلات غير المتصلة بالشبكة على الاستفادة منها بطريقة غير مشروعة. في الوقت نفسه، يستغل القطاع الخاص الزراعي وغيره من الشركات شبكة المياه بشكل غير قانوني للحصول على المياه العذبة مجانا، دون أن تتخذ السلطات أي تدابير لقمع الأنشطة غير المشروعة حتى أزمة 2018.
عدم تطبيق القوانين
هناك في العراق أكثر من دزينة قوانين تتعلق باستخدام المياه وإدارتها وتلوّثها، لكن السلطات تتقاعس عن تطبيق القوانين والأنظمة الرئيسية التي تهدف إلى ضمان نوعية مناسبة من المياه.[106] من بينها قوانين وأنظمة خاصة بإضافة الكلور في المياه أثناء معالجتها، وأنظمة اختبار عينات مياه من القطاعين العام والخاص، وحظر إلقاء النفايات البشرية والحيوانية والصناعية والزراعية غير المُعالجة في البيئة بما يتجاوز المعدلات التي تُحددها وزارة الصحة. إذا تم تطبيق هذه القوانين، ستفي الدولة بالتزامها بحماية المواطنين في سياق قطاع المياه الخاص، وإعمال حقهم في الماء في قطاع المياه العام.
أهم قانون يحمي البيئة العراقية هو "قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لعام 2009". تنص المادة 14 من القانون على أنه يحظر تصريف أية "مخلفات سائلة منزلية أو صناعية أو خدمية أو زراعية" في البر أو في أي من الموارد المائية للعراق.[107] وضعت المواد من 32 إلى 35 نظاما للسلطات يقضي بإنذار الملوّثين في غضون 10 أيام بعد خرقهم للقانون، وغلق مؤقت للمنشأة لمدة لا تزيد عن 30 يوما قابلة للتمديد حتى إزالة المخالفة، وكذلك غرامات تزايدية، وفي بعض الحالات عقوبة بالسجن.[108] تشترط هذه المواد أن يتخلص المتسبب في التلوّث من نفاياته المُلوثة بطريقة آمنة لتصحيح الوضع.
يُجرم "قانون العقوبات العراقي رقم 111 لعام 1969" الأفعال المتعمدة التي تنشر الأمراض الخطيرة، بما في ذلك التخلص من جثث الحيوانات، أو المواد القذرة، أو أشياء ضارة بالصحة العامة في أي مجرى من مجاري المياه.[109]
ينظم "نظام الحفاظ على الموارد المائية رقم 2 لعام 2001" الاستخدام غير المنزلي للمياه. ينص على قواعد متعلقة بإدارة الموارد المائية العراقية، واستخدامها، والمحافظة عليها. تحظر المادة 3 على الشركات تصريف أي شكل من أشكال النفايات في المجاري المائية العامة، ما لم تحصل الشركة على ترخيص لتصريف النفايات وفقا للمعايير والمواصفات التي وضعتها "دائرة حماية وتحسين البيئة"، والتابعة الآن لوزارة الصحة والبيئة.[110] كما يُوضح بالتفصيل كيفية التخلص من مياه الصرف الصحي أو إعادة تدويرها، وفوّض لدائرة حماية وتحسين البيئة إصدار قيود بيئية تتعلق بنوعية المياه العامة وكذلك نوعية المياه التي يتم تصريفها في المياه العامة، أو شبكات الصرف الصحي، أو مياه الأمطار.
تحظر المادة 9 التخلص من بعض المواد بالقرب من محطات معالجة المياه، مثل الملوثات التي تسبب تآكل المعادن، والمواد ذات اللزوجة العالية، وغيرها من المواد غير العفنة.[111] تحظر المادة أيضا التخلص من جثث الحيوانات، أو الفضلات البشرية والحيوانية، أو المواد المتحللة، أو أي نوع آخر من النفايات في المجاري المائية العامة أو ضفاف الأنهار. يُجيز النظام لمجالس المحافظات حماية وتحسين البيئة من خلال التنسيق مع المجالس المحلية، ويطالبها بتحديد مصادر التلوّث في المياه العامة، وتحديد طريقة المعالجة المقترحة، وكذلك وضع خطط لكل محافظة من أجل حماية المياه العامة من التلوّث وتحسين نوعيتها مع مرور الوقت.
وفقا للدكتور جاسم حميدي الفلاحي، وكيل وزارة الصحة والبيئة العراقية، فإن الإطار القانوني للعراق بشأن منع السلطات البلدية والمواطنين من تلويث المجاري المائية والشبكات العراقية قوي، لكن هناك تقاعس عن التنفيذ والمراقبة الفعالة.[112] قال إن ذلك يشمل عدم المراقبة السليمة للمحطات العامة والخاصة لمعالجة المياه، وكذلك معايير نقل المياه بالسيارات الحوضية الخاصة. كما يشمل عدم إنفاذ القيود على إلقاء النفايات البشرية والحيوانية والنفايات الصناعية والزراعية غير المعالجة في المجاري المائية العراقية.
تتمثل إحدى الثغرات الكبيرة في النظام القانوني العراقي في الغياب التام لنظام تحذيري أو إرشادي بشأن الصحة العامة والذي من شأنه أن يسمح للسلطات بإبلاغ السكان عندما تكون مياه الشرب ملوّثة، أو يحتمل أن تكون ملوثة، وما هي الخطوات التي ينبغي اتخاذها لتخفيف الضرر، وما هي البروتوكولات المعتمدة التي ينبغي للمسؤولين الحكوميين اتباعها للاستجابة للتحذيرات ورفعها.
معالجة المياه العامة
قال خبراء لـ هيومن رايتس ووتش إنهم قلقون من وجود ثغرات متعددة في معالجة وإدارة مياه الشرب العامة في البصرة. قالوا إن محطات المعالجة لا تُضيف ما يكفي من الكلور لجعل المياه مأمونة، ولا تُجري اختبارات متكررة أو شاملة بدرجة كافية للمياه. قالوا أيضا إن شط العرب يُستخدم كمصدر رئيسي للمياه على الرغم من ارتفاع مستويات التلوّث فيه.
تُحدد وزارة الصحة مستويات الكلورة المطلوبة للوقاية من الكوليرا بالنسبة لكل موسم.[113] قال موظف في محطة المعالجة في البراضعية، إحدى المحطات العامة الرئيسية لمعالجة المياه في البصرة، إن المحطات تُضيف 2.5 إلى 3 جزء في المليون من الكلور في فصل الشتاء، ومن 4 إلى 5 جزء في المليون في فصل الصيف.[114]
قال الموظفون في جميع المحطات العامة لمعالجة المياه الذين قابلناهم إنهم أضافوا الكلور طبقا للمعايير العامة لإضافة الكلور إلى مياه الصنبور، حوالي 4 جزء في المليون، وهي كمية تتفق مع المعايير الدولية.[115] مع ذلك، قال ستة خبراء قابلناهم إن لديهم معرفة مباشرة بمحطات عامة لمعالجة المياه لا تضيف الكمية المطلوبة من الكلور أو في بعض الحالات لا تضيف الكلور على الإطلاق.[116] راجع إيد براون، اختصاصي دولي في المياه وأستاذ فخري في جامعة أيوا الشمالية، بيانات مجموعة من عينات المياه التي تم اختبارها خلال الأزمة، لكنه لم يجد نتائج الاختبارات التي من شأنها أن تسمح له بالجزم حول ما إذا تم استخدام الكمية الكافية من الكلور خلال المعالجة أم لا.[117]
أوضحت الدكتورة بيث هوغلاند، اختصاصية في جيوكيمياء الماء (الكيمياء الأرضية للماء)، أن تركيزات عالية من المواد الصلبة العالقة (TSS) والكبريتيد، والنتريت، وبعض المركبات العضوية، وكذلك مستويات عالية من التعكر، يمكن أن تجعل الكلور أقل فعالية كوسيلة لقتل البكتيريا.[118] قالت إنه عندما يحدث تعكر شديد في الماء، فإنه يحتوي على مزيد من الجزيئات التي يمكن أن تلتصق بها الملوّثات، بما في ذلك البكتيريا. توصي "منظمة الصحة العالمية" بأن يكون تعكر إمدادات المياه أقل من 5 وحدات قياس التعكر النيفليومترية (NTU) لتكون الكلورة أكثر الوسائل فعالية لمعالجة المياه. أوضحت بيانات عينات المياه من فترة الأزمة أن التعكر في محطات معالجة المياه كان يصل إلى 28.2 وحدة قياس التعكر النيفليومترية (NTU).[119] من أجل معالجة هذا التباين، تحتاج محطات المعالجة إلى زيادة استخدامها للكلور.
أشار من قابلناهم إلى عدة أسباب وراء استخدام محطات المعالجة لمستويات غير كافية من الكلور. قال الدكتور دشر إنه خلال زياراته لثلاث محطات معالجة عامة خلال أزمة 2018، رأى أن مضخات الكلور لا تعمل، وقال الموظفون هناك إنهم لا يملكون المال لشراء الكلور.[120] أوضح زهير جواد هاشم، مدير دائرة ماء البصرة، أن غاز الكلور منظم بشكل صارم بسبب مخاوف تتعلق بجماعات مثل داعش تحاول سرقة الغاز لأغراض عسكرية. يتطلب الكلور حراسة عسكرية خلال نقله، وبالتالي يصعب الحصول عليه.[121] نتيجة لذلك، وعلى مدى السنوات العديدة الماضية، تأخرت وزارة البلديات والأشغال العامة في بغداد، المسؤولة عن شراء الكلور للمحافظات، عن القيام بذلك.[122] قال إنه بسبب التأخير نفد غاز الكلور مرة واحدة على الأقل من مديرية ماء البصرة، وإنه اضطر إلى التواصل مع المحافظات المجاورة، وطلب مساعدة مخازنها.
قال خبيران حكوميان فحصا عينات المياه الخارجة من المحطات العامة للمعالجة، والمنازل أسفل الشبكة، إنهما كثيرا ما يجدان أن المياه تحتوي على الكلور الكافي عند خروجها من محطات المعالجة، لكن لا يتبقى فيها أي كلور في أسفل الشبكة.[123] يُستهلك الكلور لأنه يتفاعل مع أي مادة تعقيم عضوية عن طريق قتل البكتيريا الحية والكائنات الحية الأخرى المسببة للأمراض.[124] في حالة وجود مادة عضوية ميتة، يُستهلك الكلور الحر وبالتالي لا يعود متوفرا لقتل مسببات الحية للأمراض.[125]
تنص المادة 64 من "قانون الصحة العامة رقم 89 لعام 1981"، على الإجراءات التي يجب أن تنفذها السلطات المسؤولة عن توفير مياه الشرب للمواطنين، بما في ذلك ضمان فحص جميع مشاريع إمدادات المياه والترخيص لها.[126] تشترط المادة 67 أن يكون لكل محطة معالجة "مختبر متكامل لإجراء الفحوص الميكرويولوجية والكيميائية والفيزيائية لتحديد كفاءة مراحل التصفية"، وكذلك مختبر على المستوى المركزي لإجراء اختبارات ثانية، لإجراء اختبارات منتظمة. تتوفر محطة واحدة فقط، من بين 339 محطة عامة لمعالجة المياه، في البصرة على مختبر لفحص عينات المياه، وهو المختبر المركزي التابع لدائرة ماء البصرة الذي يتواجد في نفس المجمع مع محطة البراضعية لمعالجة المياه، والذي يُستخدم لفحص العينات من جميع المحطات العامة.[127]
أكدت رقي أحمر، مديرة المختبر المركزي لدائرة مياه البصرة، أن مختبرها يأخذ عينات بشكل منتظم من محطات المعالجة في جميع أنحاء البصرة ويفحصها نيابة عن وزارة الصحة ووزارة البلديات والأشغال العامة لضمان استخدام كمية كافية من الكلور.[128] قالت إن وزارة الصحة كانت تُجري اختباراتها الخاصة قبل الأزمة، لكن الآن مختبرها هو الذي يفحص جميع العينات، ويُجري اختبار المواد الصلبة الذائبة (بما في ذلك الكاتيونات والأنيونات التي تشكل المواد الصلبة الذائبة مثل الألومنيوم، والبوتاسيوم، والصوديوم، والكبريتات، والكلورين والمغنيزيوم)، والتعكر، والمواد الصلبة العالقة التي تشبه التعكر، والصلابة، ودرجة الحرارة، والقلوية.
لا يعلم زهير جواد هاشم، مدير دائرة ماء البصرة، ولا العاملين في المحطات الأربعة التي زرناها، بوجود أي نظام تحذيري في الحالات التي أظهرت فيها نتيجة اختبار عينة الماء أن المياه لم تُعالج بشكل سليم.[129] افترضوا جميعا أنه إذا وجدت السلطات أي مشاكل في العينات التي فحصتها، ستُبلِغ المحطة لاستبدال بعض المعدات وتصحيح الخلل.[130] قال موظف في محطة البراضعية: "لماذا نُكلّف أنفسنا عناء التحذير؟ لا أحد يشرب ماء الصنبور على أية حال".
تتمثل إحدى التحديات الرئيسية التي تواجه المحطات العامة لمعالجة المياه في البصرة في اعتمادها على شط العرب كمصدر للمياه بسبب ارتفاع مستويات المواد الصلبة الذائبة في مياهه، بالنظر إلى أنها محطات تقليدية وليست محطات تحلية. محطة البراضعية العامة لمعالجة المياه، التي بُنيت في 1957 وتم توسيعها في 1964، هي إحدى محطات معالجة المياه الرئيسية في وسط البصرة، وتقدم خدماتها لأكبر مستشفيين في المدينة، والفنادق الرئيسية، ووسط المدينة، وتعالج 3,800 متر مكعب في الساعة. قالت نائبة مدير المحطة إن المحطة تمكنت خلال الأزمة من الحصول على 30 بالمئة فقط من مياهها من قناة البدعة، واعتمدت على شط العرب للحصول على الـ70 بالمئة الأخرى، والتي وصلت مستويات المواد الصلبة الذائبة فيها في وسط البصرة إلى 22 ألف جزء في المليون في تلك المرحلة.[131]
قالت إنهم، واعتبارا من أكتوبر/تشرين الأول 2018، يعمدون إلى تقنين المياه العذبة من محطة الضخ آر زيرو، والتي تتزود بدورها من المياه العذبة من قناة البدعة. بموجب نظام التقنين الجديد، يُزوَّد كل حي بمياه من محطة آر زيرو لمدة يوم واحد من كل ثلاثة أيام تقريبا، في حين تُزوَّد الأحياء الأخرى بمياه من شط العرب. قال الدكتور محسن دشر، أستاذ العلوم الزراعية بجامعة البصرة، إن هذا التقنين يعني أن بعض الأحياء تحصل على مياه مالحة في صنابيرها لمدة 4 أيام متتالية ثم تحصل على مياه عذبة ليوم واحد.[132]
امتدت المشكلة إلى محطات أخرى. في 2001، حدد "الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة" في العراق الحد الأقصى لمستوى الملوحة في مياه الشرب في ألف جزء في المليون من المواد الصلبة الذائبة.[133] قال الدكتور شكري الحسن إنه أجرى خلال الأزمة اختبارات للمياه من شط العرب ثم من صنبور منزله، ووجد أنها تحتوي على 22 ألف جزء في المليون من المواد الصلبة الذائبة، وهو أمر أكده مختبر البراضعية المركزي، الذي أجرى أيضا اختبارات على المياه في مختلف محطات المعالجة في وسط البصرة.[134] أظهر لنا موظف في قطاع الصحة رسما بيانيا قال إنه حصل عليه من وزارة الموارد المائية يُظهر معدلات المواد الصلبة الذائبة ما قبل المعالجة في 9 محطات معالجة عامة في محافظة البصرة يوم 1 أغسطس/آب 2018. كانت المعدلات في القرنة، مدينة تقع على بعد 65 كيلومتر شمال البصرة حيث يلتقي نهري دجلة والفرات ليصبحا شط العرب، تصل إلى 1,763 جزء في المليون، ووصلت المعدلات عند تغيير المواقع نزولا على طول شط العرب، إلى 14,164 في وسط مدينة البصرة، وإلى 28 ألف جزء في المليون في سيحان، جنوب البصرة.[135] قال الدكتور ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، إن المعدلات في العينات التي شاهدها وصلت إلى 41 ألف جزء في المليون في أبو الخصيب خلال الأزمة.[136]
النفايات البشرية والحيوانية
تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة في دجلة والفرات وشط العرب، في البصرة وفي المنبع، من قِبَل السكان والسلطات البلدية (هو أمر محظور بالكامل بموجب القانون العراقي)، يؤثر على نوعية المياه في المحافظة، وكذلك في أماكن أخرى من العراق.[137] في مؤتمر صحفي عُقد في فبراير/شباط 2019، ذكر رئيس الوزراء أن حوالي 5 ملايين متر مكعب في اليوم من مياه الصرف الصحي غير المعالجة تُضخ مباشرة في دجلة.[138] بناء على بيانات اختبار عينات المياه التي تمت مشاركتها مع هيومن رايتس ووتش، تسربت مياه الصرف الصحي غير المعالجة أيضا إلى المياه الجوفية في البصرة، لكن لم يتم توضيح الحجم الفعلي للمشكلة لأن السلطات في البصرة لا تفحص المياه بشكل صحيح لتحديد الملوّثات الضارة من مياه الصرف الصحي غير المعالجة.[139]
تعود مشكلة التصريف غير القانوني لمياه الصرف الصحي جزئيا إلى أن بعض سكان البصرة يعيشون في مساكن غير رسمية (عشوائيات) وغير متصلة قانونيا بشبكات المياه أو الكهرباء أو شبكات الصرف الصحي. تشير دراسة برلمانية أجريت في 2014 إلى أن 338,400 من سكان البصرة يعيشون في 47,869 مسكنا غير رسمي.[140]
تقوم بعض الشركات، بما في ذلك المطاعم، بتصريف مياه الصرف الصحي مباشرة في المجاري المائية في البصرة، الأمر الذي لاحظه الباحثون أثناء وجودهم في البصرة. أشارت رقي أحمر، مديرة المختبر المركزي، إلى قناة مجاري مفتوحة بجوار محطة البراضعية العامة لمعالجة المياه، وقالت إن السلطات أغلقتها خلال الأزمة ولكنها اضطرت بعد ذلك إلى إعادة فتحها لأن مياه الصرف الصحي بدأت تتسرب إلى الشارع. على الرغم من طلباتها، لم تتمكن هيومن رايتس ووتش من التأكد مما إذا تمت معاقبة أي فرد أو شركة بسبب التصريف غير القانوني لمياه الصرف الصحي غير المعالجة.[141]
تتم حاليا، وفقا للسلطات، معالجة حوالي 60 في المئة فقط من مياه الصرف الصحي في البصرة في أحسن الأحوال، بينما يتم تصريف الباقي مباشرة في شط العرب.[142] أجرى خبير مياه دولي زار البصرة في أوائل 2019 تحقيقات ميدانية واكتشف تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة فوق نقاط سحب معالجة المياه وأخذ عينات من المياه من مواقع مختلفة ثبت أنها تحتوي على بويغات الكريبتوسبوريديوم والجيارديا.[143] تأتي الكريبتوسبوريديوم والجيارديا من الفضلات البشرية والحيوانية المصابة بالمرض، وتسبب أمراض في الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والأمعاء.[144] أكدت رقي أحمر، مديرة المختبر المركزي، أنهم لا يقومون باختبارات لتحديد وجود بويغات الكريبتوسبوريديوم أو الجيارديا في عينات المياه، وليس لديهم المعدات المناسبة لإجراء مثل هذه الاختبارات.[145]
في "المساهمات المقررة المحددة وطنيا"، وهي مسودة لخطة عمل وطنية تجاه تغير المناخ، التي قدمها العراق قبل اعتماد "اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ" في 2015، التزمت الحكومة في 2015 برفع قدرة معالجة مياه الصرف الصحي إلى 2.078 مليار متر مكعب في السنة بحلول 2035.[146] في خطوة إيجابية نحو الشفافية، ونتيجة للأزمة، بدأت وزارة الصحة والبيئة في فبراير/شباط 2019 بإصدار نشرات أسبوعية عن نوعية المياه في دجلة والفرات وشط العرب.[147] منذ ذلك الحين، تُظهر النشرات في كثير من الأحيان أن مؤشر نوعية المياه في أجزاء مختلفة من الأنهار لا يصل إلى عتبة نوعية المياه المقبولة التي حددتها الوزارة بناء على مجموعة من المتغيرات بما في ذلك مستويات الملوحة، والفوسفات، ومستويات الحموضة، وعلامات أخرى.[148]
أظهرت نشرة توثق نوعية المياه من 8 إلى 14 فبراير/شباط 2019 ارتفاعا في الملوثات العضوية والبكتيريا في دجلة، وأشارت إلى مستويات عالية جدا من بكتيريا القولون البرازية والبكتيريا المسببة للأمراض.[149] وفقا للنشرة، نتج هذا عن الأمطار والفيضانات التي جرفت الملوثات المتراكمة من محطة الرستمية، أقدم وأكبر محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي في العراق، إلى نهر دجلة.[150] أشارت النشرة أيضا إلى وجود مستويات كبيرة من مياه الصرف الصحي في نهري ديالى ودجلة بالقرب من بغداد، وواسط، وميسان، والبصرة.[151] كما وجدت النشرات الأخرى مياه الصرف الصحي غير المعالجة في دجلة.[152]
قال الدكتور شكري الحسن، محاضر في علوم البحار بجامعة البصرة، إنه عندما أعرب عن قلقه المتزايد بشأن الكميات المفرطة من مياه الصرف الصحي غير المعالجة وغيرها من أشكال التلوّث التي يتم تصريفها في شط العرب خلال العقد الماضي أمام موظفين من مديرية التلوّث في وزارة البيئة، أخبروه أنهم يقدمون تقارير عن ذلك للمسؤولين في بغداد لكنهم لم يتلقوا أي ردود على تقاريرهم.[153]
راجع إيد براون، اختصاصي المياه والأستاذ الفخري في جامعة أيوا الشمالية، بيانات مجموعة من عينات المياه التي تم اختبارها خلال الأزمة، وأشار إلى أن المختبرات، وبخلاف ما كان يتعيّن عليها القيام به، لم تكن تُجري اختبارات للعقديات البرازية والنترات والتي تُعتبر اختبارات روتينية في بلدان أخرى.[154] كانت البيانات غير حاسمة بشأن ما إذا كانت السلطات تُجري بشكل روتيني اختبارات الإشريكية القولونية و/أو القولونيات البرازية.
بالإضافة إلى الصرف الصحي، تُرمى نفايات صلبة أخرى في المجاري المائية في البصرة. تُظهر صور الأقمار الصناعية التي راجعتها هيومن رايتس أن أكوام القمامة بدأت تتكوّن على طول القنوات في أنحاء البصرة والتي تصب في شط العرب وسط مدينة البصرة، بما في ذلك في منطقة تضم عددا كبيرا من شركات إنتاج الأغذية، من مارس/آذار 2018 إلى فبراير/شباط 2019.
وفقا للدكتور ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، أنهى مكتب المحافظ العقد المُبرَم مع شركة كويتية كانت تتولى جمع القمامة في البصرة منذ سنوات.[155] بلغت قيمة العقد 69 مليار دينار عراقي (57.8 مليون دولار) سنويا.[156] قال إن الشركة توقفت اعتبارا من 1 مارس/آذار 2018 عن جمع القمامة في جميع أنحاء البصرة، دون توضيح أسباب ذلك، أكثر من التلميح إلى مناورات سياسة بين الأطراف المختلفة. قال إنه نتيجة لذلك، بدأ السكان والشركات يلقون كميات كبيرة من النفايات في شط العرب. قال إن وزارة البلديات والأشغال العامة ومكتب المحافظ، وظفوا منذ ذلك الحين بشكل مشترك عمالا لإدارة جمع القمامة بأنفسهم.
تشجع المواد العضوية، بما في ذلك نفايات الطعام، وبراز الحيوانات، والنباتات الميتة، ومخلفات النفط في النفايات والجريان السطحي، نمو الطحالب في الأنهار وتستهلك الكلور المستخدم في معالجة مياه الشرب أثناء جريانها عبر نظام التوزيع.[157]
النفايات الصناعية والزراعية
تحظر القوانين العراقية على الشركات تصريف مخلفات النفط في المياه الضحلة.[158] تحظر عليها أيضا تصريف مياه الصرف الصحي في المياه العامة بما يتجاوز المعدلات التي تحددها وزارة الصحة.[159] مع ذلك، يبدو أن هذه القوانين لا تُطبق بشكل جيد. على الرغم من مخاوف من تلوّث شط العرب بالنفايات الصناعية والزراعية، لا تقوم السلطات بإجراء اختبارات كافية على عينات المياه للتأكد من وجود ملوثات ضارة محتملة في المياه.
أظهرت صور الأقمار الصناعية التي حللتها هيومن رايتس ووتش تسربا نفطيا مُحتملا في شط العرب بالقرب من حقل نهر بن عمر للنفط والغاز، وهو موقع تديره "شركة نفط البصرة"، شركة نفط حكومية، على بعد حوالي 25 كلم عن مدينة البصرة أعلى النهر، من 15 إلى 25 يوليو/تموز.[160] لم تتمكن هيومن رايتس ووتش من تحديد متى بدأ التسرب النفطي بدقة، لكن في 15 يوليو/تموز، بدا أنه يمتد 24 كيلومترا على طول النهر. لم يُبلِّغ المسؤولون الحكوميون أو وسائل الإعلام عن التسرب أبدا، ولم يعلم به أي من موظفي قطاع الماء الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش لأجل هذا التقرير.
بالإضافة إلى الأدلة عن وجود تسرب نفطي في 2018، تشير تقارير إعلامية منشورة في 2016 و2017 إلى حدوث تسربين نفطيين على التوالي في شط العرب: في 2016، أعلنت مديرية ماء البصرة أنها علقت تشغيل بعض المحطات العامة لمعالجة المياه وتزويد بعض الأحياء بالمياه لمدة ثلاثة أيام، بعد تسرب النفط من محطة كهرباء النجيبية الغازية.[161] في 2017، أعلنت السلطات أنها أوقفت تسرب مخلفات نفطية إلى شط العرب مرة أخرى من محطة النجيبية، والتي سبق تغريمها بعد تسرب 2016.[162]
تفرض تسربات النفط مخاطر صحية جدية. سيتسبب ابتلاع المواد الهيدروكربونية والمعادن الموجودة في النفط الخام في تلف الكبد على المدى القصير، والعديد من الآثار الصحية الخطيرة الأخرى، بما في ذلك أنواع مختلفة من السرطان، على المدى الطويل.[163]
حددت صور الأقمار الصناعية التي راجعتها هيومن رايتس ووتش أيضا تسربا محتملا آخر للنفط في قناة في وسط البصرة من 28 إلى 29 أكتوبر/تشرين الأول 2018 بالقرب من محطة وقود، والذي انجرف حوالي 200 متر شرقا نحو شط العرب. لم يتم أيضا الإبلاغ عن هذا الحادث في ذلك الوقت. يوجد خطا أنابيب تحت الأرض غير محددين على طول قنوات في وسط البصرة كانا يطلقان دوريا ما يشتبه الباحثون في كونه كميات كبيرة من النفايات السائلة في القناة من يوليو/تموز إلى أكتوبر/تشرين الأول 2018.
قال اثنان ممن قابلناهم إن رائحة البنزين تنبعث أحيانا من مياه الصنبور في منازلهم.[164] في إحدى المضخات الواقعة على شط العرب والتي تزود محطة معالجة عامة بالمياه، استطاع الباحثون شم رائحة البنزين ولاحظوا طبقة براقة على سطح الماء. مباشرة عبر النهر في عبادان، إيران، توجد بنية تحتية صناعية رئيسية تضم محطة لتنقية المياه، ومصفاة نفط، وشركة بتروكيماويات.[165] في سبتمبر/أيلول 2018، نشر سكان البصرة على يوتيوب عدة فيديوهات يظهرون فيها وهم يُشعلون النار في مياه الصنبور.[166] يمكن أن ينتج هذا عن وجود الميثان في الماء، والذي قد يكون مصدره العمليات الصناعية، أو وجود النفط في الماء بعد تسرب نفطي، أو عن النفط الذي تسرب إلى أنابيب متشققة داخل الشبكة من المياه الجوفية.[167] تجمع بعض الطحالب النفط، وإذا أنتجت الطحالب غشاء سميكا، سيُحاصَر الميثان من الرواسب السفلية فيتراكم تحت الطحالب. في ظروف مؤاتية، يمكن أن يشتعل الميثان المحاصَر ويحترق.[168]
حددت هيومن رايتس ووتش 13 موقعا زراعيا شمال البصرة، على الجانب الإيراني من شط العرب، حيث يُزرع قصب السكر، وحيث يتم تكرير السكر وإنتاج العسل الأسود (المولاس)، والورق، وعلف الحيوانات.[169] يمكن أن تفرِض زراعة قصب السكر تهديدات بيئية من بينها آثار سلبية على التنوع البيولوجي، والجريان السطحي للمغذيات، وتسرب المبيدات الحشرية والمواد الكيميائية إلى التربة، وكميات مفرطة من المغذيات في المجاري المائية من الأسمدة وتفريغ الملوثات العضوية من مصانع السكر ومصافي الإيثانول.[170] تُظهر نتائج عينات المياه التي حصلت عليها هيومن رايتس ووتش من فترة الأزمة أن السلطات التي كانت تفحص مياه محطات المعالجة في ذلك الوقت لم تكن تُجري اختبار لكشف وجود النترات، أو الفوسفات، أو الملوّثات العضوية.[171]
أشارت النشرات الأسبوعية لوزارة الصحة والبيئة لعام 2019 بشأن نوعية المياه إلى ارتفاع مستويات الفوسفات في دجلة في البصرة، وميسان، وواسط في فبراير/شباط 2019.[172] أشارت النشرات نفسها أيضا إلى وجود مستويات عالية من النترات في الفرات في المثنى، وكذلك مستويات عالية من الفوسفات في شط العرب.[173] واصلت نشرتان لاحقتان إظهار مستويات عالية من الفوسفات والنترات في نهري دجلة والفرات وشط العرب.[174]
قال الدكتور ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، إن المحافظ دعا خلال الأزمة في سبتمبر/أيلول فريقا من العلماء من "مركز النهرين للتدريب على بصمة الحامض النووي والعدلي" في جامعة النهرين في بغداد إلى البصرة لإجراء اختبارات على المياه السطحية والجوفية، والطين في 54 موقعا على طول شط العرب.[175] قال إن العلماء وجدوا أن مستويات الكادميوم تصل إلى 165 جزءا في المليار، وهو ما يعادل 53 ضعفا الكميات المسموح بها في الماء.
قال إنهم عثروا أيضا على مستويات عالية من الزئبق والرصاص تصل إلى عشرة أضعاف الحد الأقصى. كما عثروا على الكبريتات والنترات بتسعة أضعاف الحد الأقصى، والبورون. قال إنهم وجدوا خلال بحثهم أن ارتفاع الملح والحمض في الماء زاد من ترشيح الكادميوم من مكونات أخرى في الماء.
وفقا للمعايير العالمية والمنصوص عليها في قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لعام 2009، ينبغي على كل صناعة تزويد السلطات التنظيمية بقياسات المكونات السائلة بما في ذلك المعادن الثقيلة إذا كانت ذات صلة بالصناعة.
القطاع الخاص للمياه
المحطات الخاصة لمعالجة المياه
منذ عقود، يشتري البصراويون مياه الشرب من محطات التحلية الخاصة بالتناضح العكسي. قال الدكتور ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، إن البصرة تضم ما يزيد عن 100 محطة تناضح عكسي خاصة، كما تُعرف محليا - ربما أكثر من 300 محطة بحسب عامل معونة في قطاع المياه.[176] يُطلب من هذه المحطات الخضوع لاختبار عينات المياه شهريا، لكن يبدو أن بعض المحطات لا تزال تستخدم القليل جدا من الكلور أثناء عملية المعالجة والتوزيع. فشل بعضها في اختباراتها بسبب وجود البكتيريا البرازية لكن لم تُغلقها السلطات، وبعضها لم يتمكن نهائيا من التسجيل لدى السلطات.
وصف صاحب محطة خاصة للمعالجة بالتناضح العكسي في أبو الخصيب عملية التصفية النموذجية لهذه المحطات: قال إن محطته تأخذ مياه الصنبور، وتسمح للرواسب بالاستقرار، ثم تضخ المياه عبر مصاف قطنية ثم عبر غشاء نصف نافذ لإزالة الملح تحت ضغط مرتفع، من خلال عملية التناضح العكسي.[177] قال إنها تضخ بعد ذلك المياه في حاويات تخزين حيث يضيف الموظفون الكلور، قبل بيع المياه لأصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه المستقلين ومن القطاع الخاص.
بسبب الأغشية التي تستخدمها، من المفترض أن تقوم محطات التناضح العكسي في البصرة فقط بتحلية مياه تحتوي على 4,500 طن من المواد الصلبة الذائبة.[178] إذا كانت المياه تحتوي على مستويات أعلى من هذه المواد، تحتاج المحطات إلى تصفية المياه عدة مرات، مما يعني أنها تحتاج إلى استبدال الأغشية المُكلفة بوتيرة أكبر وأن ترفع سعر بيع المياه المعالجة أو تحاول تحقيق وفورات بشكل آخر.[179] تتمثل التكلفة الرئيسية للعمليات في شراء الكلور. قال خمسة خبراء قابلناها إنهم على معرفة مباشرة بأن محطات خاصة لمعالجة المياه لا تضيف ما يكفي من الكلور، أو في بعض الحالات لا تضيف الكلور على الإطلاق، من أجل توفير التكاليف.[180] كما أوضح عامل معونة في قطاع المياه أن العديد من محطات التناضح العكسي تستخدم تقنية الأشعة فوق البنفسجية أو الأوزون لتنقية المياه عوض الكلور لأنها أقل تكلفة، على الرغم من أن هذه العمليات لا توفر حماية ضد المواد الضارة التي تتسرب إلى المياه لاحقا، على سبيل المثال في خزان المياه.[181]
لا يوجد أي دليل قاطع على إصابة أي شخص بالمرض بسبب المياه المصفاة التي يؤمنها القطاع الخاص للمياه خلال أزمة 2018، لكن العديد من الأشخاص الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش قالوا إنهم يعتقدون إنهم أو أقاربهم أصيبوا بالمرض بسبب مياه معالجة بالتناضح العكسي، وشدد آخرون على أن المياه يمكن شراؤها فقط من محطات محددة، لأنه لا يمكن الوثوق بجميع المحطات.[182] قال موظف في قطاع الصحة من أبو الخصيب، إن سبعة من أفراد أسرته أصيبوا بالمرض خلال أزمة 2018 على الرغم من أنهم كانوا يستخدمون فقط المياه المعالجة بالتناضح العكسي بما فيه لغسل الفواكه والخضروات والأطباق، مما دفعه إلى الشك في أن محطة التناضح العكسي قد لا تكون تُعالج المياه بما فيه الكفاية أو أن السيارات الحوضية التي تنقل المياه ملوّثة.[183]
قال مهدي حميد سيلان، عامل من منطقة تدعى الصالحية، إنه هو وعائلات أخرى يشترون المياه المصفاة للشرب والطهي، لكنه يعاني أيضا بانتظام من آلام في المعدة بسبب تلك المياه، ولا يعتقد أنها تُعالَج بشكل صحيح. خلال الأزمة مَرِض عدة أشخاص من عائلته.[184]
وزارة الصحة والبيئة مسؤولة عن مراقبة نوعية مياه المحطات الخاصة عن طريق إجراء اختبارات منتظمة للعينات.[185] قال أحمد حنون، مدير دائرة البيئة، إنه في حالة فشل محطات التناضح العكسي الخاصة في اختبار، تعطيها وزارة الصحة والبيئة إنذارا لمدة 10 أيام ويجب عليها التوقف خلال هذه الفترة عن العمل وحل المشكلة، قبل أن تعود الدائرة لفحص المياه مرة أخرى.[186] إذا فشلت مرة أخرى، تتخذ الدائرة إجراءات قانونية إما بتغريم المحطة أو إجبارها على الإغلاق.[187]
مع ذلك، يبدو أن الوزارة لا تتبع دائما هذه الإجراءات. حصلت هيومن رايتس ووتش على وثيقة مؤرخة في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2018 والتي أظهرت نتائج فحوصات مخبرية لعينات مياه مأخوذة من ثلاث محطات خاصة لمعالجة المياه بالتناضح العكسي أجراها مختبر سلامة الغذاء العراقي.[188] أظهرت الوثيقة أن العينات الثلاثة لا تستجيب للمعايير بسبب وجود البكتيريا البرازية ومستويات منخفضة من الحموضة. بعد النتائج السلبية، قال الشخص الذي قدم لنا الوثيقة بشرط عدم الكشف عن هويته إنه طُلِب من المحطات الثلاثة بتبديل الفلاتر، والفواصل، والمصافي قبل إعادة فحص المحطة.[189] كان يعرف شخصيا شخصا يعمل في إحدى المحطات وأكد أنها تفشل دائما في الاختبارات منذ ذلك الحين إلى يناير/كانون الثاني 2019 لكنها لا تزال تعمل. قال إنه بعد كل اختبار فشلت فيه المحطة، يتم إبلاغها مرة أخرى بتغيير بعض المعدات، ولكنها كانت تعود إلى معالجة المياه على ما يبدو من تغيير المعدات. لم تتمكن هيومن رايتس ووتش من التحقق بشكل مستقل من الحالات.
مما يثير القلق بشكل أكبر، قال الدكتور شكري الحسن إنه يعلم بوجود العديد من محطات التناضح العكسي الخاصة غير المسجلة لدى وزارة الصحة في وقت الأزمة، وبالتالي كانت تعمل خارج القانون ولم تكن جزءا من نظام الفحص، وهو الشيء الذي أكده زهير جواد هاشم، مدير ماء البصرة.[190]
نقل الماء بالسيارات الحوضية
يعتمد سكان البصرة على شراء الماء المُصفّى من المحطات الخاصة للمعالجة بالتناضح العكسي، الذي يزودهم به أصحاب السيارات الحوضية والذين يضطلعون أيضا بدور مشغلين من القطاع الخاص. في 1993، أصدرت وزارة البيئة مجموعة من التعليمات المنظمة لقطاع نقل المياه بالسيارات الحوضية في العراق.[191] تفرض هذه التعليمات على أصحاب السيارات الحوضية الحصول على ترخيص لبيع المياه، يتم تجديده كل 3 أشهر، بعد خضوعهم لفحص طبي سنوي وخضوع الخزان إلى عمليات تفقد كل 3 أشهر. كما تنصّ على أنه يُسمح لهم بنقل نوع واحد من المياه ولا يستطيعون الجمع بين أنواع متعددة، مثل مياه البناء أو الريّ أو الشرب. يتعين عليهم أيضا شراء الماء الذي ينقلونه ويبيعونه من نفس المحطة. خرق التوجيهات قد يؤدي إلى عقوبات شديدة أو السجن، بحسب التعليمات.
تنص "دلائل جودة مياه الشرب" الصادرة عن منظمة الصحة العالمية على ناقلي المياه تنظيف خزاناتهم عند تغيير السوائل التي ينقلونها لتجنب التلوّث، وإضافة الكلور إلى الماء عند نقطة تسليمه إلى المستخدمين.[192]
غير أن بعض السائقين في البصرة ينقلون أنواع مختلفة من المياه دون أن يعقموا صهاريجهم بين الرحلات بشكل صحيح يتماشى مع أفضل الممارسات واللوائح العراقية، ودون أن يخضعوا لفحوص مناسبة من قبل أصحاب محطات معالجة المياه بالتناضح العكسي للتأكد من حصولهم على تراخيص، بينما أفادت تقارير أن آخرين يدفعون رشاوى لتجنب خضوع صهاريجهم للاختبارات الدورية (الرجاء الاطلاع على القسم التالي حول الفساد). كما أنهم لا يضيفون الكلور إلى الماء عند نقاط التسليم بحسب ما علمت هيومن رايتس ووتش، ولا يراقبون مستويات الكلور المتبقي عندما ينقلون الماء إلى حاويات التخزين.
لا توجد أدلة مباشرة على إمكانية تسبب السيارات الحوضية، التي تنقل عموما بين 8 و20 متر مكعب من الماء المصفى إلى منازل الناس، في أمراض أثناء أزمة 2018. لكن 3 خبراء مطلعين بشكل مباشر على نقل الماء بالسيارات الحوضية قالوا إنهم يعرفون حالات محددة يقوم فيها أصحاب السيارات الحوضية بنقل مياه شط العرب للريّ يوما، ثم في اليوم التالي ينقلون ماء الشرب المصفى، دون أن ينظفوا صهاريجهم كما يجب.[193] بشكل عام، ينقل أصحاب السيارات الحوضية في البصرة 3 أنواع مختلفة من المياه: مياه البناء التي يجلبونها مباشرة من النهر؛ ومياه للري والحيوانات التي يجلبونها من القنوات المفتوحة (بشكل غير قانوني)؛ ومياه الشرب المصفّاة.[194] بعضهم يستخدم نفس السيارات الحوضية لنقل كل هذه الأنواع.
قال عبد العظيم ياسين، عامل، إنه شاهد خلال عمله في موقع بناء أحد أصحاب السيارات الحوضية يجلب ماء النهر للموقع، وفي اليوم التالي شاهد نفس الشخص يزوّد حيّه بالماء المصفى.[195] أقرّ عبد الرزاق، أحد أصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه منذ 12 عاما، بأنه يعرف شخصيا زملاء له ينقلون أنواعا مختلفة من المياه بشكل منتظم، لكنه قال إنه يفترض أنهم يشطفون صهاريجهم عند تغيير مصادر المياه.[196]
تراقب وزارتا الصحة والبلديات والأشغال العامة عمل السيارات الحوضية لنقل المياه. قال كاظم دايغ، أحد أصحاب السيارات الحوضية، إنه حصل على ترخيص من وزارة الصحة لتشغيل سيارة حوضية بعد أن أجرى فحص دم، وفتشت الوزارة شاحنته بحثا عن الشقوق والصدأ وأي علامات على وجود طلاء مقشر، وأخذت عينة مياه من السيارة.[197] قال وشخص آخر يملك سيارة حوضية إنهما كانا يذهبان للخضوع للاختبارات المتعلقة بالمياه التي ينقلانها مرة كل 3 أو 4 أشهر.[198] غير أن محطات التناضح العكسي الخاصة لا تطلب من أصحاب السيارات الحوضية تراخيصهم قبل تزويدهم بالمياه.[199] قال صاحب هذه المحطة الخاصة: "لا أطلب التراخيص من أصحاب السيارات الذين يأتون إلى هنا. أنا أملأ أي صهريج يبدو نظيفا".[200] قال عبد الرزاق إنه يعرف العديد من أصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه الذين لا يحملون تراخيص من وزارة الصحة، لكنهم لا يجدون صعوبة في إيجاد محطات تملأ صهاريجهم بالماء.[201]
قال د. شكري الحسن إن الكثير من أصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه الذين ليس لديهم تراخيص لا يجدون صعوبة في إيجاد الماء الذي يشترونه ثم يبيعونه لأن الطلب مرتفع جدا.[202] في نفس الوقت، لا يبدو أن الشرطة المحلية تستهدف أصحاب السيارات الذين ليس لديهم تراخيص. قال أحمد حنون، مدير عام دائرة حماية وتحسين البيئة في وزارة الصحة والبيئة إن إدارته قدمت عدة بلاغات أثناء الأزمة لشرطة المرور المحلية، تدعوها فيها إلى سحب تراخيص أصحاب السيارات الحوضية والتثبت منها.[203] لم يقدّم أي تفاصيل عما إذا تحركت شرطة المرور في هذا الاتجاه وعما توصلت إليه، لكن بحسب دايغ لم يُسجّل أي ارتفاع في عدد اختبارات أصحاب السيارات الحوضية من الحي أثناء الأزمة.[204]
في تطوّر إيجابي، صرح د. ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، في منشور على فيسبوك بأن الحكومة المحلية تمهل أصحاب السيارات الحوضية المخصصة لنقل المياه مهلة لغاية 15 يوليو/تموز للحصول على التراخيص والموافقات المناسبة لكي يستمروا في العمل. دعا القرار الأجهزة الأمنية وشرطة المرور والسلطات الأخرى إلى اتخاذ تدابير لحجز أصحاب السيارات الحوضية المخالفة.[205]
السكن العشوائي وسحب الماء بطريقة سريّة
أكثر من 338,400من سكان البصرة يعيشون في مساكن غير رسمية (عشوائية)، وهم أكثر من يعاني من انعدام الأمن المائي في المحافظة.[206] نتيجة لإقصائهم من شبكة المياه الرسمية، يلجأ بعضهم إلى سحب الماء بشكل غير قانوني من هذه الشبكة إن كانت توجد أنابيب تحت منازلهم.
قال موظف في محطة البراضعية العامة لمعالجة المياه إنهم حتى حدوث الأزمة كانوا يحصلون فقط على 30 بالمئة من الماء الذي ترسله لهم محطة الضخ آر زيرو بسبب الاستغلال غير القانوني.[207] قال هو وزهير جواد هاشم، مدير ماء البصرة، إن النسبة صارت في حدود 60 بالمئة اليوم، لكن الـ 40 بالمئة المتبقية مازالت مفقودة بسبب السحب غير القانوني. قال هو وخبراء آخرون إن العائلات التي تعيش في مساكن عشوائية تستخدم مياه الشبكة، وكذلك تفعل محلات غسل السيارات ومحطات التناضح العكسي الخاصة والمحطات الخاصة لصنع الثلج بالتناضح العكسي.[208]
ينصّ "قانون الهيئة العامة للماء والمجاري رقم 27 لسنة 1999"على ربط جميع الممتلكات الخاصة الموجودة في منطقة فيها شبكة مياه ومجاري بهذه الشبكة.[209] غير أنّ قيام الناس ببناء مساكن عشوائية في مناطق بعضها غير مُصنف على أنه سكني يحول دون تطبيق هذا القانون عليها.
الاستغلال غير القانوني للقنوات
تعمد الشركات منذ سنوات عديدة إلى أخذ المياه مباشرة من القنوات المفتوحة لضخه للمصانع والمزارع.[210] بعد سنوات من التراخي، وخلال أزمة 2018، يبدو أن السلطات اتخذت بسرعة خطوات للحد من هذه الممارسة، فأبرزت أن الإرادة السياسية كانت على ما يبدو المعرقل الوحيد لمعالجة هذه المشكلة. غير أنه رغم ذلك، لم تُتخَذ خطوات لمعاقبة الذين يسرقون المياه.
في دراسة لحالات فردية، وثقت هيومن رايتس ووتش الاستغلال غير القانوني للقنوات باستخدام صور الأقمار الصناعية في 5 مواقع على الأقل على طول قناة كتيبان بين 2017 و2018، وحددت 3 مواقع أخرى ربما تم فيها أيضا سحب الماء بطريقة غير قانونية على طول القناة نفسها في 2016 و2017 و2018. كل المواقع التي تم تحديدها تقع بين أبو الخصيب والسيبة، والصور أظهرت ما بدا أنها مضخات وأنابيب تُستخدم لسحب الماء من القناة إلى مواقع زراعية وتجارية مختلفة. أقرّت "قيادة عمليات البصرة"، الخاضعة لرقابة مشتركة من رئيس الوزراء ووزير الدفاع، بوجود العديد من هذه المواقع على طول القناة.[211] كما حددت هيومن رايتس ووتش 3 مواقع فيها استغلال غير قانوني للماء على طول قناة البدعة، جنوب مدينة البصرة مباشرة، وفي أبو الخصيب، أحدها استمرّ من 2008 إلى 2017. أظهرت الصور في كل موقع أنه تم بناء قنوات تسحب المياه مباشرة من قناة البدعة إلى خزانات من صنع الإنسان.
زار الباحثون موقعا سابقا لسحب الماء من قناة كتيبان كان قد ظهر في مقطع فيديو بتاريخ 4 يوليو/تموز 2018 وظهر فيه محمد التميمي، النائب الأول لمحافظ البصرة، يتفقد أنبوبا بدا أنه لنقل الماء مباشرة من القناة جنوب البصرة لضخه على بعد عشرات الأمتار في بركة كبيرة لتربية الأسماك.[212] أكدت صور الأقمار الصناعية أن بركة الأسماك، التي أنشئت ثم وُسّعت بين 2008 و2014، كانت تسحب الماء من 26 مايو/أيار إلى 3 يوليو/تموز 2018. لكن الصور تظهر أنه بعد يوليو/تموز 2018، وبمجرد أن اتخذت السلطات إجراءات ضدّ سحب الماء في وقت ما بين 4 و11 يوليو/تموز، جفّ الموقع وظلّ غير مستخدم منذ ذلك الحين. شاهد الباحثون على مسافة 1.36 كيلومتر جنوب الموقع الأول مضخة مياه مهجورة وأنبوبين مقطوعين كانا يُستخدمان في نقل الماء من القناة إلى موقع مجهول. تُظهر صور الأقمار الصناعية أن الأنبوب كان موجودا حتى مايو/أيار أو يونيو/حزيران 2017.
يوجد هذا الموقع قرب طريق رئيسية وجسر، وكان ظاهرا جدا للسلطات المحلية.[213]
كنتيجة لسحب الماء بطريقة غير مشروعة من قناة البدعة، قال موظف في محطة البراضعية العامة لمعالجة المياه إن المحطة كانت قبل 2003 قادرة على الحصول على كل المياه التي تحتاج إليها من قناة البدعة، لكن سحب الماء بطريقة غير مشروعة خرج عن السيطرة بعد ذلك، فلم تعد القناة قادرة على توفير الماء الكافي للمحطة، ما دفع المحطة إلى سحب الماء من شط العرب.[214]
ينصّ "قانون الري لسنة 1962" وتعديلاته على أنّ وزارة الموارد المائية هي المسؤولة عن مراقبة وتشغيل وحماية البحيرات والأنهار، وكذلك مراقبة وتحسين مجاري المياه الطبيعية والاصطناعية.[215] جميع الذين قابلناهم تقريبا قالوا إن وزارة الموارد المائية هي المسؤولة عن منع سحب المياه من قناتي البدعة وكتيبان، وكان يتعين عليها الاتصال بالأجهزة الأمنية لاتخاذ التدابير اللازمة قبل ذلك بكثير.[216]
غير أن حسن الجنابي، وزير الموارد المائية السابق، قال إن السلطات المحلية هي المسؤولة عن إخطار الشرطة المحلية والأجهزة الأمنية الأخرى ومطالبتها بالتحرك.[217] قال زهير جواد هاشم، مدير ماء البصرة، إن المسؤولية كانت مشتركة: برأيه كانت المسؤولية عن مراقبة ومنع سحب الماء بطريقة غير مشروعة من أيّ مورد مائي داخل المحافظة، تقع بشكل مشترك على عاتق مكتبه والمحافظ والأجهزة الأمنية.[218] ألقى د. ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، باللوم أيضا على قوات الأمن، وقال إن سحب الماء بطريقة غير مشروعة كان نتيجة عدم اتخاذ قيادة عمليات البصرة لإجراءات صارمة.[219]
بالنسبة لسحب الماء مباشرة من شبكة المياه، على عكس المجاري المائية، مثل السحب من الأنابيب التي تخرج من محطة آر زيرو ومحطات المعالجة في البصرة، قال جميع الذين قابلناهم إن وزارة البلديات والأشغال العامة كانت مسؤولة عن تحديد المتورطين في سحب الماء بطريقة غير مشروعة ومطالبة الأجهزة الأمنية بالتحرك.[220] قال د. ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، إنه يعلم أن أشخاصا يسحبون الماء من الأنابيب بطريقة غير شرعية، بما في ذلك لمشاريع زراعية كبيرة، كانوا يدفعون رشاوى لموظفين في مديرية الماء حتى لا يبلّغوا عنهم.[221] لكن شخصا آخر من الذين قابلناهم لام مكتب المحافظ، وقال إن المحافظ والسلطات المحلية مشغولين بالحفاظ على الأصوات التي تنتخبهم ولا يرغبون بالتالي في اتخاذ إجراءات صارمة قد تثير غضب أشخاص مهمين في دوائرهم الانتخابية.[222]
خلال السنوات القليلة الماضية، وحتى في الحالات التي تمّ فيها التبليغ عن الاستغلال غير القانوني واتخاذ السلطات المحلية بالبصرة إجراءات لمنعه، لم تُتخذ أي خطوات لمعاقبة سارقي المياه، بل عمد البعض منهم أحيانا إلى استئناف هذا النشاط في وقت لاحق. قال حسن يوسف، مديرة محطة سيحان لمعالجة المياه التي تقع على ضفة قناة كتيبان، إن المزارعين كانوا في 2012 يسحبون الماء بطريقة غير شرعية من القناة فبلّغ عنهم عدة مرات، لكن رغم بعض الإجراءات التي اتُخذت بشأنهم استمروا في هذه الممارسة لأنهم لم يعاقبوا: "كتبنا عدة رسائل إلى مكتب المحافظ للتبليغ عن ذلك، فأرسل المحافظ أحيانا لجنة لإزالة الأنبوب، دون إجبار الموقع الزراعي على الإغلاق، فيعمد المزارعون بعد ذلك مباشرة إلى تركيب أنبوب جديد".[223]
أثار عدم تحرّك السلطات ضدّ السحب غير الشرعي للمياه المستشري والصارخ شبهات بأن أشخاصا كانوا ربما يدفعون فعليا رشاوى للمسؤولين ليغضوا الطرف عنهم.[224] غير أن رئيس "لجنة النزاهة" بمكتب محافظ البصرة قال إن فريقه لم يفتح إطلاقا أي تحقيق في الفساد في قطاع المياه. كما نفى مدير زراعة البصرة علمه بالسحب غير الشرعي للمياه لأغراض زراعية.[225]
قال د. ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، إن القضاء نهائيا على الاستغلال غير القانوني للموارد المائية كان ضروريا لضمان نوعية أفضل للماء المتدفق في صنابير سكان البصرة.[226]
عقب أزمة الماء في 2018، اتخذت سلطات البصرة على ما يبدو اجراءات إضافية للقضاء على هذه الممارسة. عند بداية الأزمة، قال الوزير السابق حسن الجنابي إن وزارته نسقت مع قيادة عمليات البصرة لمحاولة منع سحب الماء بطريقة غير شرعية من قناتي البدعة وكتيبان، وقطعت السلطات الكهرباء عن مواقع تُشغل مضخات غير قانونية على طول القناتين.[227] بحسب مفيد عبد الزهراء، مدير مكتب وزارة الموارد المائية في البصرة، تستمر قيادة عمليات البصرة أيضا بعد الحملة في تسيير مروحيات فوق القناتين لمراقبة الاستغلال غير القانوني للمياه.[228] قال 4 خبراء قابلناهم إن القوات المسلحة تمكنت من إحداث تأثير كبير على عمليات سحب الماء، لكن المتورطين فيها لم يُعاقبوا، وقالوا إنهم ليسوا متأكدين من أنّ هذه النتيجة ستدوم على المدى البعيد.[229] حتى أبريل/نيسان 2019، أظهرت صور الأقمار الصناعية حللتها هيومن رايتس ووتش أن عمليات السحب غير القانونية للمياه لم تُستأنف في المواقع المذكورة.
سوء الإدارة والفساد
أساءت السلطات كثيرا إدارة الموارد المائية في العراق، لذلك لا توفر الأنهار وقنوات المياه العذبة كميات كافية من المياه الجيدة النوعية لمحطات معالجة المياه العامة في المحافظة. كما أساءت السلطات تصميم وإعداد ميزانيات وتنفيذ مشاريع هندسية لمعالجة أزمة المياه، وتقديم حلول هندسية لتحسين نوعية وكمية الماء. تسبب الفساد في الشركات المحلية والمؤسسات الحكومية في منع استكمال الحلول الهندسية في الوقت المحدد، ومراقبة قطاع الماء الخاص كما يلزم.
سوء إدارة الموارد المائية في أعلى النهر
المياه العذبة المتدفقة إلى شطّ العرب من نهري دجلة والفرات تحول دون تسرّب مياه البحر. التراجع المتواصل لهذا التدفق زاد من ملوحة شط العرب، ما جعل الاعتماد على النهر كمصدر أولي للمياه في البصرة أمرا غير مقبول على نحو متزايد.
بحسب بيانات قدمتها وزارة الموارد المائية تتبّع كميات المياه المتدفقة من أعلى النهر إلى شطّ العرب طيلة 2018، سجّل التدفق أدنى مستوى له ذلك العام في يناير/كانون الثاني 2018. في ذلك الشهر، كان سدّ قلعة صالح، المشيّد على نهر دجلة، 120 كيلومترا شمال مدينة البصرة، يضخّ الماء بمعدّل 37 متر مكعب في الثانية إلى أسفل النهر، لكن مدينة البصرة كانت تستلم 32 متر مكعب في الثانية فقط، وهو معدّل يسمح بتسرب مياه البحر إلى شط العرب.[230] جميع الخبراء الذين قابلناهم في البصرة وبغداد أكدوا أن منع تسرب مياه البحر مشروط بتدفق 50 متر مكعب في الثانية من أعلى النهر إلى شط العرب.[231] أظهرت بيانات وزارة الموارد المائية تدفقات مائية أكبر في أشهر الصيف، حين ترسل وزارة الموارد المائية ما بين 53 و98 متر مكعب في الثانية من ناظم سدّ قلعة صالح إلى البصرة، فتستلم هذه الأخيرة ما بين 46 و88 متر مكعب في الثانية.[232]
أشار د. عبد الزهراء الحلو، أستاذ علوم المياه والعلوم البحرية بجامعة البصرة، إنه حتى لو كانت كميات المياه التي ذُكر أن الوزارة كانت ترسلها إلى نهر دجلة صحيحة، ومع تجاهل نسبة خسارة معينة من الماء قبل مدينة البصرة، تبقى هذه الكمية غير مرتفعة بما يكفي لتمنع تسرب ماء البحر.[233] قال إنّ المسافة بين محافظة ميسان والبصرة تحتاج إلى 35 متر مكعب في الثانية لتشغيل مصافي النفط الرئيسية في البصرة وأشغال بناء مشروع ماء البصرة الكبير في الهارثة، 20 كيلومتر شمال البصرة، والمناطق الزراعية على طول الضفتين شمال المدينة. قال إن وزارة الموارد المائية كانت تأخذ 5 أمتار مكعبة أخرى في الثانية من النهر لتغذية قناة كتيبان للريّ. كل ذلك لا يترك سوى القليل من الماء لسكان البصرة.
تراجع تدفق الماء قد يكون أسوأ من المُعلن عنه رسميا. قال 5 ممن قابلناهم وشاركوا في مراقبة تدفق المياه من دجلة أثناء أزمة 2018 لـ هيومن رايتس ووتش إنهم يعتقدون أن السلطات تُضخّم بشكل غير دقيق كميات الماء التي ترسلها عبر النهر إلى البصرة.[234] أما بالنسبة إلى إمدادات الماء من دجلة، زعموا إن وزارة الموارد المائية لا تقدم تقارير دقيقة عن كميات الماء التي ترسلها عبر النهر- حيث أنها أقلّ من ذلك في الحقيقة، ما يتسبب في تسرب مياه البحر وارتفاع مستويات الملوحة. قال أحدهم إنه زار في أبريل/نيسان 2017 سدّ قلعة صالح، فقال له مسؤولون إنهم يُرسلون 50 متر مكعب في الثانية من المياه، لكنه عندما عاد إلى البصرة قالت له مديرية ماء البصرة إنهم خفضوا التدفق.[235] هذه الادعاءات تتماشى مع المستويات العالية جدا من المواد الصلبة الذائبة في مياه شط العرب أثناء الأزمة.[236] لا أحد من الأشخاص الخمسة الذين قابلناهم له صلات بالسلطات المحلية أو الاتحادية.
أثناء أزمة الماء في 2018، وبحسب بيانات قدّمتها وزارة الموارد المائية، كانت الوزارة تضخّ للبصرة ما يتراوح بين 53 و98 متر مكعب في الثانية بين مايو/أيار ونوفمبر/تشرين الثاني 2018 من ناظم قلعة صالح. كانت البصرة تستلم فقط بين 46 و88 مترا مكعبا في الثانية، ما يعني أن كمية
تتراوح بين 4 و10 أمتار مكعبة في الثانية كانت تُستخدم قبل وصول الماء إلى مدينة البصرة، على طول 41 كيلومتر على مسار النهر.[237] هذه الأرقام تتعارض مع ما لاحظه 4 ممن قابلناهم، الذين راقبوا تدفق الماء، وقالوا إن التدفق من سدّ الكوت تراجع في بداية الأزمة من 90 إلى 25-30 متر مكعب في الثانية.[238] قال علاء هاشم البدران، سكرتير لجنة إنعاش الأهوار في مجلس محافظة البصرة، إن البصرة كانت تستلم أثناء الصيف فقط بين 20 و30 متر مكعب في الثانية من دجلة، وهي كميات تبعد كل البعد عن الكميات الكافية لمنع تسرب مياه البحر.[239] نتيجة لذلك، بلغ ماء البحر المتسرّب أثناء الأزمة منطقة القرنة التي تقع على بعد 165 كيلومتر من الخليج، وهو أعلى مستوى مسجل على الاطلاق.[240]
لمعالجة المشكلة القديمة المتمثلة في تسرب ماء البحر إلى شط العرب، اعتمدت البصرة تاريخيا على قناتي كتيبان والبدعة، اللتان صُممتا لنقل المياه العذبة إلى السكان للاستخدام المنزلي والريّ. لكن القناتين لم تقدما ما يكفي من المياه للبصرة كما توجد مخاوف بخصوص نوعية المياه فيهما.
كتيبان
قناة كتيبان هي قناة ريّ تتفرّع عن شطّ العرب وتنقل الماء بمعدل 30 متر مكعب في الثانية جنوب مدينة البصرة.[241] قال د. ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، إن الحكومة الاتحادية حاولت توفير مورد بديل للمياه العذبة ذات النوعية الجيدة للري، فأنفقت 400 مليار دينار عراقي (333 مليون دولار) في 2008 لبناء القناة، التي تتفرع عن شط العرب في كتيبان، على مسافة 40 كيلومتر شمال البصرة، وتمتد على مسافة 128 كيلومتر على طول شط العرب.[242] المياه في شطّ العرب عند بداية قناة كتيبان تُسجل بالفعل مستويات مرتفعة من المواد الصلبة الذائبة بسبب تسرب مياه البحر، ما يتسبب في تلوّث قناة الريّ.[243]
يعمل حسن يوسف مديرا لإحدى المحطات العامة لمعالجة المياه في البصرة، هي محطة سيحان، قرب ناحية السيبة الواقعة على قناة كتيبان للري وشط العرب، 50 كيلومترا جنوب البصرة. تعتمد المحطة جزئيا على مياه القناة. قال يوسف إن المحطة تقليدية، وليست محطة تحلية، ولذلك فهم لا يستطيعون فعل أي شيء باستثناء تصفية المياه ومعالجتها بالكلور بعد وصولها من القناة وشط العرب وقبل ضخها إلى المنازل.[244] أقصى مستوى لنسبة الملوحة في مياه الشرب مُحدد بألف جزء من المليون من المواد الصلبة الذائبة في العراق، لكن مستوى هذه المواد في القناة ارتفع إلى 16ألف جزء من المليون أثناء الأزمة، بينما اقترب من 50 ألف جزء من المليون في شط العرب.[245] قال:
اضطررنا إلى التبديل بين المصدرين [شط العرب وقناة كتيبان] بسبب كثرة انقطاعات الكهرباء، التي كانت تتسبب في توقف المضخة في القناة عن العمل، ولم نكن نحصل على ما يكفي من المياه من القناة. في وقت لاحق من الأزمة، تدخلت "العتبة" [مؤسسة دينية خاصة مرتبطة بآية الله العظمى علي السيستاني] وحسّنت تزويد مضخة المياه في القناة ومحطة المعالجة بالكهرباء، ما أحدث فرقا كبيرا. لكن حتى آنذاك، لا نحصل على ما يكفي من المياه من القناة في أشهر الصيف لنعتمد عليها دون سواها، ولذلك كنا مضطرين لسحب بعض المياه من شط العرب.[246]
قال إنه لمّا أثر انقطاع الكهرباء على مضخات المياه، بدأت رائحة "عفن" تنبعث من القناة.[247] حتى يناير/كانون الثاني 2019، كانت المحطة تحصل فقط على نصف كمية المياه التي كانت تأتيها من القناة لمعالجتها، ويأتيها النصف الآخر من شطّ العرب.
قناة البدعة للري ومحطة الضخ آر زيرو
بحسب علاء هاشم البدران، سكرتير لجنة إنعاش الأهوار في مجلس محافظة البصرة، يعتمد نصف سكان البصرة تقريبا – مليوني شخص – على المياه المتدفقة من قناة البدعة للري إلى محطة الضخ آر زيرو.[248] شيدت وزارة الموارد المائية القناة ومحطة التخزين في 1997. تبدأ قناة البدعة في مدينة الكوت، على مسافة 280 كيلومتر شمال شرق البصرة، وتمتد جنوبا إلى الناصرية والأهوار المركزية وهور الحمّار حتى محطة الضخ آر زيرو. يتم بعد ذلك ضخ المياه من محطة آر زيرو إلى ما يتراوح بين 6 و12 محطة معالجة رئيسية في البصرة، كلها تقع على شط العرب.[249] القناة، التي ليس لها غطاء يحفظ المياه، قادرة على إيصال 7 أمتار مكعبة في الثانية إلى محطة آر زيرو.[250] لكن بحسب البدران، كانت وزارة الموارد المائية ترسل 7 أمتار مكعبة في الثانية فقط عبر قناة البدعة في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، ولكنها كانت ترسل كمية أقل من ذلك بكثير في أشهر الأزمة الأخرى وعلى مدار السنة.[251]
قال وزير الموارد المائية السابق حسن الجنابي إن نظام القناة المفتوحة هذا كان بمثابة تدبير قصير المدى، وليس حلا طويل المدى.[252] صيانته باهظة جدا، ويتسبب في خسائر مائية جراء التبخر والتسرب وسحب المياه بشكل غير قانوني من القناة.[253] كما تتلوّث المياه بملوّثات تدخل إليها على طول القناة.[254]
قال د. ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، إن أحد أسباب التسرب في السنوات الأخيرة هو عدم إنفاق وزارة الموارد المائية لما يكفي من المال لصيانة قناة البدعة، وعدم إنفاق مديرية ماء البصرة لما يكفي من المال على محطة آر زيرو.[255] قال إن محطة آر زيرو كانت تعمل فوق طاقتها طيلة السنوات الخمس الماضية، واشتغلت أثناء الأزمة دون انقطاع، ما تسبب في تضرر أجزاء من إنشاءاتها. قال إن هذا التضرر جعلها تعمل الآن بنصف طاقتها فقط.
سوء إدارة الحلول الهندسية
رغم أزمة المياه الحادة والطويلة، تقاعست السلطات عن توفير ميزانيات وتنفيذ مشاريع ناجحة لتقديم حلول هندسية لتحسين نوعية المياه وكميتها. قصّة بناء 8 محطات تحلية في الفاو وسيحان تُلخّص سوء إدارة السلطات للتمويل المخصص للمشاريع الهندسية في قطاع المياه.
محطات التحلية في الفاو وسيحان
قال زكي عزيز غربان، نائب رئيس مجلس ناحية السيبة وموظفون في محطة سيحان لمعالجة المياه القريبة من السيبة، لـ هيومن رايتس ووتش إن بغداد قررت عقب أزمة المياه الأولى في البصرة في 2009 بناء 4 محطات تحلية في سيحان و4 أخرى في الفاو، قرب مصبّ الخليج، بتمويل من مكتب رئيس الوزراء.[256] كانت محطات سيحان الأربع تهدف إلى تحلية ما مجموعه 400 متر مكعب من المياه في الثانية.[257] قال 4 أشخاص على معرفة مباشرة بالمشروع إنه على حدّ علمهم، لم تُجرِ الحكومة الاتحادية والشركات المشاركة في المشروع أي تقييم هندسي للتربة والأرض قبل أن توقّع وزارة البلديات والأشغال العامة عقود بناء المحطات.[258] نتيجة لذلك، لم تكن المحطات التي بُنيت صالحة لتحلية المياه في هذه المناطق لأن المياه كانت تحتوي على الكثير من الوحل.
بسبب طريقة بنائها، لم تتوفر في المحطات منشآت تسمح باستقرار الوحل وإضافة كبريتات الألومنيوم كوسيلة لإزالة الوحل من المياه.[259] نتيجة لذلك، لم تستطع المحطات العمل بعد بنائها. بقيت دون استخدام لعقد من الزمن تقريبا، حتى أزمة 2018، عندما عقدت العتبة، المؤسسة الدينية الخاصة المرتبطة بآية الله العظمى علي السيستاني، اتفاقا مع السلطات لإعادة تأهيل المحطات وتشغيلها.[260] لما زار باحثو هيومن رايتس ووتش البصرة في يناير/كانون الثاني 2019، كانت محطتان فقط من بين المحطات الأربع في سيحان تعملان وتجريان تحلية المياه القادمة من قناة كتيبان بدلا من شط العرب، بسبب عدم وجود الوحل في قناة المياه.[261]
عدم كفاية مخصصات الميزانية والاستثمارات والتدريب
على مدى عقود، لم تخصص الدولة على ما يبدو ما يكفي من الإنفاق في الميزانية لتشييد بنية تحتية جديدة للمياه والصرف الصحي وصيانة البنية التحتية الحالية، بما فيها محطات معالجة المياه وقنوات المياه العذبة وشبكة الأنابيب. استمرّ هذا الوضع حتى بعد أزمة المياه في البصرة في 2009.
كما تقاعست السلطات عن تدريب وتوظيف عدد كاف من الأشخاص لتشغيل وصيانة البنية التحتية في هذه المواقع، ولم تُجهّز مختبر البصرة المركزي كما يجب لاختبار عينات الماء من جميع محطات المعالجة العامة بحثا عن المجموعة الكاملة للمواد البيولوجية والكيميائية الضارة، ولمراقبة الالتزام بالقوانين والأنظمة.
شبكة مياه متضررة
حصلت شبكة مياه البصرة على أدنى مستوى من الاستثمار في الصيانة في العقود الخمسة الماضية رغم ارتفاع مستويات المواد الصلبة الذائبة في المياه التي تُسبب أضرارا.[262] نتيجة لذلك، صارت شبكة الأنابيب الحديدية والبلاستيكية والمصنوعة من مادة كلوريد البوليفينيل (PVC) والخرسانة التي تنقل الماء من محطات المعالجة إلى منازل الناس في حالة سيئة. خلُص خبير مياه دولي زار البصرة في مطلع 2019 وأجرى فحوصات إلى أن نسبة التسرب في شبكة الأنابيب بلغت 50 بالمئة.[263]
قال وزير الموارد المائية السابق حسن الجنابي إن ما زاد الوضع سوءا هو الانقطاع المتكرر للكهرباء في البصرة، مثل بقية مناطق العراق، الذي يؤدي بدوره إلى الانقطاع المتكرر لتدفق الماء في شبكة الأنابيب. أحيانا عندما يتوقف التدفق، يتسبب تغيّر الضغط في الأنابيب في تسرب المياه الجوفية المحيطة إلى شبكة الأنابيب، جالبا معه الوحل والصرف الصحي ونفايات أخرى والتي تذهب مباشرة إلى صنابير الناس.[264] أظهرت مقاطع فيديو نشرها سكان البصرة على يوتيوب بين أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2018، لما كانت هناك انقطاعات كهربائية متكررة، الماء يخرج موحلا من الصنابير.[265] قال إيد براون، الأستاذ الفخري في جامعة آيوا الشمالية، إن بعد تسرب المياه الجوفية الملوثة بالبراز إلى شبكة الأنابيب، حتى لو أضاف السكان الكلور للماء القادم من الصنابير، لن يعالج ذلك بشكل فعال الملوّثات الجديدة التي تدخل إلى النظام.[266]
قال صباح البزوني، رئيس مجلس محافظة البصرة، إن المساكن العشوائية التي تم بناؤها على أراض فوق شبكة الأنابيب هي من أكبر العراقيل التي تواجه إصلاح الشبكة. إصلاح الأنابيب بات يتطلب هدم بعض المنازل حتى يسهل الوصول إلى الأنابيب.[267] أضاف زهير جواد هاشم، مدير ماء البصرة أن الدخول إلى الأنفاق المؤدية إلى الأنابيب خطر جدا لأنها لم تخضع لصيانة.[268] قال علاء هاشم البدران، سكرتير لجنة إنعاش الأهوار في مجلس محافظة البصرة، إنه اطلع على تقديرات بأن إعادة إنشاء شبكة أنابيب البصرة قد تكلف ما يصل إلى نحو 11 مليار دولار.[269]
في وثيقة المساهمات المحددة وطنيا تجاه اتفاق باريس بشأن تغيّر المناخ لعام 2015، التزمت الحكومة بإعادة تأهيل وتوسيع شبكة الأنابيب التي تنقل ماء الصنابير إلى منازل الناس بحلول 2035 لضمان توصيل أفضل وتقليص الخسائر من التسرب.[270] قال زهير جواد هاشم إن الميزانية التي خُصصت له من أجل الأزمة صُرفت في 3 أشهر بسبب حجم التجهيزات التي اضطر إلى تبديلها.[271] قال إن في السنوات الخمس السابقة للأزمة، لم تكن لديه الميزانية للقيام بأي صيانة لشبكة المياه.[272] أغلب شبكات المياه لها بندان في الميزانية: أحدها للتشغيل والصيانة الاعتيادية والآخر للاستثمار في رأس المال. إذا كانت ميزانية التشغيل والصيانة منخفضة جدا، تُصرف غالبا على العمليات الأساسية، مثل تسديد أجور الموظفين وشراء لوازم التطهير أو دفع تكاليف الطاقة. إذا لم تخضع الشبكة إلى صيانة روتينية لإصلاح التسربات وصيانة المضخات، تصبح في حاجة إلى استثمارات رؤوس أموال كبيرة للقيام بالإصلاحات.
توجد في البصرة 339 محطة عامة لمعالجة المياه، جميعها تقليدية ولا تستطيع معالجة نسب الملوحة العالية في مياه الخليج.[273] كان لتسرّب ماء البحر إلى شطّ العرب آثار كارثية على هذه المحطات حتى صارت في حالة متردية. بحسب موظفي المحطات الأربع التي زارتها هيومن رايتس ووتش، فإن الكمية الكبيرة من المواد الصلبة الذائبة في الماء تتسبب في تآكل البلاستيك والمعادن عندما تلامسها. بسبب نسبة التآكل العالية التي تسببها المياه، باتت المحطات في حاجة إلى تغيير بعض أجزائها على جناح السرعة.[274]
اختبار عينات الماء
المختبر المركزي لمديرية ماء البصرة هو المختبر الوحيد لاختبار عينات الماء من جميع محطات المعالجة في المحافظة.[275] قال مديران لمحطتين إن موظفين من وزارتي الصحة والبلديات والأشغال العامة يزورون المحطتين مرة كل أسبوع أو أسبوعين لأخذ عينات من الماء واختبارها في المختبر المركزي. [276]
قالت رقي أحمر، مديرة المختبر المركزي، إن المختبر يعاني من نقص شديد في الموارد وتنقصه التجهيزات اللازمة لاختبار العينات بحثا عن العديد من المواد الضارة المحتملة التي قد تكون سببا في الأزمة الصحية المستمرة، بما في ذلك المعادن الثقيلة الخطيرة وتكاثر الطحالب والكريبتوسبوروديوم.[277] قد يتسبب الكلور والتلوّث العضوي في تفاعل تنتج عنه مادة ثانوية مُسرطنة، غير أن أحمر قالت إنهم يفتقرون إلى التجهيزات اللازمة لاختبار ذلك.[278] قالت إن المختبر لديه تجهيزات بالأشعة فوق البنفسجية، لكن ليس لديه القدرة على تأكيد نتائجها.[279]
تدريب وتوظيف مشغلي المحطات
قال مدير محطة معالجة المياه العامة في سيحان إن التوظيف يُعتبر تحديا لأن الوزارة لا ترسل له موظفين مدربين جيدا على معالجة الماء بالكلور وكبريتات الألمنيوم.[280] قال: "نتيجة لذلك، يتعين على العدد القليل من الموظفين المُدرَبين العمل لساعات طويلة جدا، أحيانا بدوام مدته 24 ساعة، فقط للحفاظ على مخرجات محطة المعالجة". قال موظف في محطة البراضعية إن الوزارة زادت من تدريب الموظفين على استخدام الكلور وذلك في إطار تغيير مرحب به بعد أزمة 2018.[281]
في مثال صارخ عن نقص الموظفين وقلة التدريب، دفع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في 2011 تكاليف بناء محطة تنقية في خور الزبير تبلغ قدرتها على التصفية 25 متر مكعب في الثانية.[282] قال خبير قام بتقييم عمل المحطات أثناء أزمة 2018 إنه زار المحطة في أغسطس/آب 2018 فتفاجأ بأن العمل لم يبدأ فيها أبدا.[283] قال إن مدير المحطة أخبره أن السبب هو أن مديرية ماء البصرة لم ترسل أي موظف للعمل في المحطة.
حتى الموظفين المتاحين ربما لم يحصلوا على التدريب اللازم. في إشارة إلى غياب المعرفة المناسبة بنوعية المياه لدى موظفي محطات المعالجة العامة، أو على الأقل غياب القدرة على التواصل الفعال، قال أحد المديرين: "لا أعرف ما الذي يختبرونه وماذا يفعلون إذا كان الاختبار سلبيا. أفترض أنه إذا كان هناك مشكلة في الاختبار، فإنهم يُعلمون الوزارات والسلطات البلدية".[284]
أشار خبير دولي زار البصرة بعد أزمة 2018 إلى أن أغلب موظفي ومشغلي المحطات العامة ليس لديهم "إجراءات تشغيلية موحدة" مكتوبة. قال "يجب ترسيخ الاجراءات التشغيلية الموحدة، وتدريب الآلاف من موظفي المحطات عليها في أسرع وقت ممكن، وإلا فإن أفضل المحطات ستصير في حالة مزرية وغير منتجة".[285]
الفساد
تُشير التقارير السنوية لـ هيئة النزاهة العراقية، وهي هيئة حكومية لمراقبة الفساد، إلى أن الفساد لا يزال مشكلة متفشية في البلاد. في 2017، قالت الهيئة إنها حققت وأصدرت مذكرات اعتقال لمئات المشتبه فيهم بارتكاب جرائم تتعلق بالفساد، وأدانت 37.[286] في تقريرها السنوي لعام 2018، قالت الهيئة إنها حققت في 221 من مشاريع الأشغال العامة المتأخرة أو غير المُنجَزة بقيمة 1.5 مليار دولار، وفتحت تحقيقات جنائية في 41 منها، قدرت قيمتها بمليار دولار.[287] هذه التقارير لا تقدّم معلومات كافية للتأكد مما إذا كانت هذه الحالات تشمل قطاع الماء، لكن مسؤولا في البصرة قال لـ هيومن رايتس ووتش إن وزير البلديات والأشغال العامة أحال المدير السابق لمشروع ماء البصرة الكبير، الذي نتناوله أدناه، إلى الهيئة.
نقل المياه بالسيارات الحوضية
العديد من الأشخاص الذين قابلناهم يعتقدون أن بعض سائقي السيارات الحوضية الذين يوصلون مياه الشرب يدفعون رشاوى للمسؤولين لتجنب التفتيش والاختبارات المطلوبة. بما أن نوعية المياه القادمة من الشبكات العامة ليست جيدة بما يكفي للشرب أو الطهي، يعتمد جميع سكان البصرة على محطات المعالجة الخاصة التي تصفي الماء بتقنية التناضح العكسي. ثم تُنقل هذه المياه إلى الناس في سيارات حوضية خاصة. بينما ينص القانون على إخضاع سيارات المياه إلى التفتيش والسائقين إلى اختبارات طبية، بما يشمل اختبار نقص المناعة المكتسبة، للحصول على تراخيص، قال خبير إنه يعرف شخصيا سائقين قالوا إنه تمكنوا من دفع رشاوى لمسؤولين في إدارة التلوّث بوزارة البيئة للحصول على تراخيص دون اجراء أي اختبارات لصهاريجهم.[288] قال شخص آخر من سكان البصرة إنه على دراية شخصية بهذه الممارسة، وإن نظام الترخيص يفرض على أصحاب السيارات الحوضية دفع رسوم لمرة واحدة قيمتها 22 ألف دينار عراقي (18 دولار)، تتبعها رسوم أخرى بـ 25 ألف دينار (21 دولار) للفحص الطبي السنوي، ثم رسوم بقيمة 72 ألف دينار (60 دولار) لتفتيش الصهريج مرة كل 3 أشهر، وهم يعتبرونها باهظة ويفضلون تجنبها.[289]
مشروع ماء البصرة الكبير
في 2008، وافقت "الوكالة اليابانية للتعاون الدولي" (الوكالة اليابانية) على مشروع يرمي إلى تحسين نوعية وكمية المياه في البصرة. في 11 يونيو/حزيران 2008، وقع "البنك الياباني للتعاون الدولي" مع الحكومة العراقية اتفاق قرض بقيمة 42,969 مليون يان ياباني (395 مليون دولار) لتمويل الجزء الأول من المشروع الذي كان من المفترض أن تبلغ تكلفته الاجمالية 72,944 مليار ين ياباني (672 مليون دولار).[290] كان يُفترض أن تُنجز وزارة البلديات والأشغال العامة المشروع، الذي يشمل إعادة تأهيل وبناء محطات لمعالجة المياه في الهارثة، 20 كيلومتر شمال البصرة، في نوفمبر/كانون الثاني 2014.[291] وعد المشروع بزيادة إمدادات المياه للبصرة بـ 195,800 متر مكعب يوميا في غضون سنتين من انتهاء المشروع، وتخفيض مستويات المواد الصلبة الذائبة إلى 900 جزء في المليون والتعكر إلى 10 وحدات تعكر نفلومترية (NTU) أو أقل، وخفض تسرب المياه في النظام إلى 30 بالمئة.[292]
غير أنه من غير الواضح متى انطلقت أعمال البناء في المشروع الذي لم يبدأ العمل بعد. بحسب نائب محافظ البصرة، د. ضرغام الأجودي، لم تبدأ أعمال البناء إلا في 2012، ولما زار الموقع في 2015، لم يلحظ علامات تقدم تُذكر.[293] صور القمار الصناعية للموقع التي حللتها هيومن رايتس ووتش أكدت تقدما بطيئا في أعمال البناء في الموقع حتى ديسمبر/كانون الأول 2015.
قال د. الأجودي إنه كان قلقا للغاية من أن التأخير في أعمال البناء سببه سوء استخدام أموال القرض، ودفع في اتجاه إنشاء لجنة تحقيق. أنشأ مكتب المحافظ هذه اللجنة، لكنها لم تجد تأخيرا كبيرا أو فسادا، وخلصت إلى أن المحطة ستُفتح في 2016، بحسب الأجودي.[294] لم تتمكن هيومن رايتس ووتش من الحصول على نسخة من التقرير الذي أعدته اللجنة.
رغم توقعات اللجنة، ما زالت المحطة لم تُفتح بعد. غياب الشفافية من قبل الحكومة العراقية والوكالة اليابانية بشأن العراقيل التي عطلت تقدم المشروع يُصعّب تحديد الأسباب الدقيقة للتأخير. في مراسلة كتابية مع هيومن رايتس ووتش بتاريخ 24 مايو/أيار 2018، ذكرت الوكالة اليابانية أسبابا متعددة للتأخير: "تدهور الوضع الأمني، تغيير النطاق وإعادة المناقصة"، دون أي تفاصيل أخرى.[295] غير أن 5 أشخاص على معرفة مباشرة بالمشروع زعموا أن الفساد هو الذي تسبب في كل هذا التأخير أو فاقمه. قال مسؤولان حكوميان في البصرة وبغداد وخبير دولي في المياه لـ هيومن رايتس ووتش إن أشخاصا عراقيين مسؤولين عن المشروع أخبروهم أن بعض المسؤولين تعمدوا تأخير المشروع لإطالة العقود المربحة مع المقاولين المحليين.[296] زعم دبلوماسيان دوليان درسا المشروع الياباني أن سلطات الجمارك رفضت دخول قطع البناء اللازمة لأن اليابانيين رفضوا دفع رشاوى لهم.[297] قال أحد الخبراء إنه على معرفة مباشرة بحالات تم فيها تأخير إصدار - أو البت في - تأشيرات لخبراء يابانيين لأنهم رفضوا دفع رشاوى.[298]
قال مسؤول في البصرة إن المسؤولين عمدوا إلى التأخير لتمديد فترة أجور العمال.[299] قال آخر إن وزارة البلديات والأشغال العامة أحالت يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني مسؤولا كبيرا على صلة بالمشروع إلى هيئة النزاهة لمزاعم تتعلق بالفساد.[300]
ذكرت الوكالة اليابانية أنها "لم تحصل على أي معلومات بشأن الاحتيال والفساد المزعومين" المرتبطين بالمشروع، وإنها طالبت بالتزام الأطراف المشاركة في المشروع منذ بدايته بمتطلبات الامتثال الخاصة بها.[301]
ذكر بيان علني للوكالة اليابانية في مايو/أيار 2018 أن الشريحة الأولى من اتفاق القرض التي تبلغ قيمتها حوالي 400 مليون دولار صُرِفت للحكومة العراقية.[302] تُبرز وثائق الوكالة اليابانية أن الشريحة الثانية من اتفاق القرض، بمجموع 173 مليون دولار، انطلقت في أغسطس/آب 2018، وأن الكلفة الاجمالية للمشروع ارتفعت إلى 97,670 مليار ين (872 مليون دولار).[303] لم تقدم الوكالة اليابانية أي تفسير علني لما بدا أنه فجوة 4 سنوات من التقدم في المشروع بين 2014 و2018. في مراسلاتها الكتابية مع هيومن رايتس ووتش في 24 مايو/أيار 2018، لم تشرح الوكالة اليابانية سبب ارتفاع التكاليف، لكنها قالت إن التكاليف قد تتغير أكثر بسبب "بعض إجراءات الشراء".[304]
أشغال البناء لم تنته بعد، ورغم طلباتها المتكررة للمسؤولين اليابانيين والعراقيين، لم تتمكن هيومن رايتس ووتش من تحديد متى ستنتهي، ولا حجم الأموال المخصصة للمشروع التي صُرفت. قالت الوكالة اليابانية لـ هيومن رايتس ووتش إنها تتوقع أن يبدأ المشروع في توفير الماء "في أقرب وقت ممكن".[305] قال خبير دولي على صلة بالمشروع إنه من غير المرجح أن يتم الانتهاء من بناء المحطة قريبا. قال إنه على حد علمه، ستستمر أشغال البناء لمدة 12 شهرا آخر على الأقل، تليها فترة تجهيز تدوم عامين قبل أن يتم وضع المشروع في العمل.[306]
استخدام غير مستدام للمياه في الزراعة والمنازل
رغم الموارد المائية المحدودة في العراق، لم تتخذ السلطات التدابير الكافية لتثقيف المزارعين على الممارسات الزراعية التي تتميز بكفاءة استخدام المياه، ولا العائلات على الاستخدام المسؤول للمياه في المنازل.
الممارسات الزراعية
تستهلك الزراعة من 70 إلى 80 بالمئة من مجموع مياه العراق.[307] بسبب نقص المياه وتدهور نوعيتها، لم يعد استخدام الري التقليدي بالغمر في الممارسات الزراعية خيارا في العراق. في وثيقة المساهمات المحددة وطنيا المتصلة باتفاق باريس بشأن تغيّر المناخ لعام 2015، ذكرت الحكومة أنها ستعتمد أنظمة الريّ الممكننة بالتنقيط والريّ بالرش في كافة أنحاء البلاد بكلفة تُقدّر بـ 45.5 مليار دولار على مدى السنوات العشرين المقبلة.[308] لكن على حد علم هيومن رايتس ووتش، فإن هذه المبادرة لم تنطلق بعد. كما ذكرت وثيقة المساهمات المحددة وطنيا أن العراق سيواجه خطر تراجع إنتاجه الزراعي بما يصل إلى 20 بالمئة بين 2015 و2035 إذا لم يُطبّق هذه التغييرات الزراعية.[309]
بحسب بول شلينكيه، منسق أول للاستجابة لحالات الطوارئ لدى منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في العراق، فإن النظام الزراعي بأكمله في جنوب العراق ينبغي أن يتحوّل من الزراعة التقليدية إلى البيوت الخضراء أو البلاستيكية المحمية ، مع استخدام طرق الري التي تتميز بكفاءة استخدام المياه بتقنيات التقطير والرش والزراعة المائية في ظل المخاوف بشأن نقص المياه.[310] قال شلينكيه إن الحكومة الاتحادية ستحتاج إلى استثمار مبالغ كبيرة، قدّرها بمئات الملايين، لمساعدة المزارعين في تغيير طرق الريّ التي يعتمدونها إلى طرق تتلاءم أكثر مع نقص المياه في العراق.
عقب أزمة 2018، وافقت وزارة الزراعة على أنها وبينما تستمر في تحديد نسبة الأراضي المخصصة للزراعة في كل محافظة، ستضطلع وزارة الموارد المائية بهذا الدور فيما يتعلق بإنتاج القمح.[311] بسبب أزمة 2018، بول شلينكيه، منسق أول للاستجابة لحالات الطوارئ لدى الفاو، إنهم حظروا زراعة الذرة والأرز والدخن في الجنوب خلال ما تبقى من العام. قال إنهم لم يبقوا هذا الحظر ساري المفعول في 2019، رغم أن الأرز – على سبيل المثال – يستهلك كميات كبيرة من المياه، وبالتالي يُكلّف إنتاجه محليا أكثر من شرائه من الخارج.[312]
للحفاظ على الماء، يتعين على العراق ربط زراعة القمح في الجنوب بالريّ بتقنية الرش. زراعة القمح تستهلك كميات كبيرة من المياه عند استخدام الري الغمري التقليدي. قال شلينكيه إنه سيكون من الأجدى اقتصاديا شراء القمح من الخارج بتكلفة أقل بكثير.[313] إلا أنه تحدث عن التعقيدات المتعلقة بذلك، فالقمح محصول يحصل على دعم حكومي كبير، وتشتريه الحكومة من المزارعين لدعم "نظام التوزيع العام" الذي تشمل سلته أيضا توزيع الطحين. قال إن العراق في حاجة إلى الانتقال من المحاصيل التقليدية إلى المحاصيل الأقل استهلاكا للمياه والأصناف التي تتحمل الأملاح.[314]
الاستخدام المنزلي للمياه
قال الممثل عن فريق دولي لمهندسين أمضوا أسابيع في البصرة في 2018 لتقييم الوضع المائي إن تقييمهم أبرز أن المعدلات الحالية لاستهلاك المياه في البصرة تقدر بحوالي 0.3 متر مكعب أو 300 لتر للشخص الواحد يوميا، وهي نسبة أعلى بكثير من معدلات الاستهلاك في أوروبا.[315] يعود ذلك جزئيا إلى أن رسوم استهلاك المياه في العراق منخفضة جدا، وتقارب 0,01 دولار للمتر المكعب.[316] لم تتخذ أغلب السلطات المحلية والاتحادية خطوات لتثقيف السكان حول الاستخدام المسؤول للمياه ومحاولة تغيير عاداتهم المائية.[317] على سبيل المثال، فرضت سلطات السليمانية، في إقليم كردستان، على جميع السكان في يونيو/حزيران 2018 تركيب عدادات مياه لتسجيل الاستهلاك في محاولة لخفض الاستهلاك المفرِط، وفرضت غرامات على السكان الذين لم يركبوا العدادات.[318]
يعاني السكان بالفعل وبشكل منتظم من تبعات مخاطر الاستهلاك المفرط للمياه. قال مهدي حامد سيلان، عامل من منطقة تُسمى الصالحية، إن حيّه فيه نحو 60 عائلة نادرا ما تحصل على ماء الصنبور.[319] قال: "منذ 2003، كلّ صيف ينقطع الماء كليا على منطقتنا، فهي تقع عند نهاية الشبكة، وتنضب المياه عندما تصل إلينا. لذلك نجلب ماء الغسيل والري مباشرة من نهر صغير هنا، تأتيه المياه من شطّ العرب".
قال زكي عزيز غربان، نائب رئيس المجلس المحلي في ناحية السيبة، التي يسكنها حوالي 17 ألف شخص، لـ هيومن رايتس ووتش إنه يوجد خط أنابيب من محطة آر زيرو إلى المنطقة ويمرّ من أبو الخصيب.[320] قال إنه خلال الأزمة كان كل الماء يُستخدم في أبو الخصيب ولا يصل منه شيء إلى السيبة.
نقص المعلومات والرعاية الصحية والتدابير التصحيحية الكافية
لم تستجب السلطات المحلية والوطنية كما ينبغي لأزمة المياه في البصرة في 2018. لم تفعل شيئا يُذكر لتزويد المستشفيات بالأدوية اللازمة، ولم تُلغ رسوم دخول المرضى الوافدين إلى المستشفيات. لم تُطلق حملة اعلامية مناسبة لتحذير الناس من نوعية مياه الصنابير أو لإبلاغهم من أين يمكنهم الحصول على النصح بشأن مصادر المياه المأمونة أو العلاج الطبي. لم تحقق السلطات أيضا بشكل مناسب في أسباب الأمراض. منذ انتهاء الأزمة في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، لم تنشر أي معلومات تشرح للسكان لماذا مرِض ما لا يقل عن 118 ألف شخص، وتُبيّن الخطوات التي اتخذتها منذ ذلك الوقت لتجنب أزمة أخرى في السنوات القادمة.
في محاولة لوقف ضخّ المياه الملوّثة إلى منازل الناس، أصدر مجلس المحافظة في 4 سبتمبر/أيلول أمرا يمنع مديرية الماء من جلب الماء من شطّ العرب.[321] غير أن زهير جواد هاشم، مدير مديرية ماء البصرة، قال إن ذلك كان مستحيلا ببساطة، "لم يكن هناك بديل آخر للكثير من الناس في البصرة. كيف يُعقل أن ننفّذ ذلك؟".[322]
في 19 مارس/آذار 2019، عيّن رئيس الوزراء هادي العامري، واحد من أعلى قادة "قوات الحشد الشعبي"، الذي كان يرأس الكتلة السياسية التي حصلت على المرتبة الثانية في الانتخابات البرلمانية لسنة 2018، للإشراف على استكمال مشاريع الماء والكهرباء في البصرة قبل صيف 2019.[323] لم تتمكن هيومن رايتس ووتش بعد من الحصول على معلومات حول خطته لتنفيذ المهمة.
الحصول على الرعاية الصحية
فرضت المستشفيات الخاصة والعامة رسوم دخول على الأشخاص الذين جاؤوها للعلاج أثناء الأزمة، رغم أن وزارة الصحة أصدرت بيانا أكدت فيه العكس.[324] اختلفت الرسوم من مستشفى إلى أخرى، لكن سكانا من البصرة قالوا لـ هيومن رايتس ووتش إنهم كانوا مطالبين بدفع بين ألفي و7 آلاف دينار عراقي (بين 1.6 و6 دولارات) عن كل مريض من العائلة.[325]
قال عامل رعاية صحية من البصرة إن الوزارة زادت من مخزون أكياس المحاليل الملحية في مستشفيات البصرة الرئيسية بعد أسبوع من بداية الأزمة.[326] لكن باستثناء المحاليل الملحية، ورغم أنه كان يتعيّن على المستشفيات العامة توزيع الأدوية مجانا، قال العديد من الأشخاص لـ هيومن رايتس ووتش إنهم لما ذهبوا إلى المستشفيات، اكتشفوا أن الأدوية التي وُصِفت لهم قد نفذت، فاضطروا لشرائها من الصيدليات المحلية، فأنفقوا نحو 19 ألف دينار عراقي (16 دولار) كلما مرِض أحد أفراد العائلة.[327] قال مهدي عبد السيد حمزة، مزارع من الصالحية، إنه إضافة إلى رسوم الدخول وكلفة الدواء، اضطرت عائلته إلى دفع حوالي 25 ألف دينار عراقي (20 دولار) كلما مرض فرد منها لسيارة أجرة لتنقله من وإلى المستشفى لأنهم يعيشون في منطقة نائية.[328]
تقاعس عن توفير المعلومات
في البيان الوحيد من نوعه الصادر عن وزارة الصحة طيلة الأزمة، في 25 أغسطس/آب، عقدت وزيرة الصحة آنذاك عديلة حمود مؤتمرا صحفيا في البصرة قلّلت فيه من أهمية الأزمة الصحية.[329] قالت إنه لا يوجد تفشي للكوليرا، وإن جميع الحالات كانت خفيفة، وإنه تم تقديم العلاجات اللازمة، دون تقديم أي معلومات ملموسة عما تستطيع العائلات فعله لتجنب المرض.[330]
قال موظف في قطاع الصحة إن وزارة الصحة أطلقت حملة إعلامية لتحذير الناس، بدعم من منظمات مثل "الهلال الأحمر العراقي" والمجلس النرويجي للاجئين و"منظمة الأمم المتحدة للطفولة"، لكنها لم تصل إلى جميع السكان، ووصلت فقط إلى الذي كانوا مرضى أو يعتنون بمرضى. تضمنت الحملة ملصقات ومطويات وُضِعت في المستشفيات تحذر السكان من مخاطر المياه الملوّثة وتقدم لهم تعليمات بشأن الأساليب الأساسية للوقاية من الكوليرا.[331]
قال عامل إغاثة إنهم كانوا في مسعاهم لتقديم توجيهات للعامة بشأن خطوات الوقاية من الكوليرا، يطلبون من الناس غسل أيديهم، رغم أنهم كانوا يعلمون جيدا أن غسل اليدين قد يكون مصدرا إضافيا للعدوى.[332]
قال هو وشخص آخر من سكان البصرة إن وزارة الصحة شاركت في حملة عامة، واستلم كلاهما رسائل نصية من الوزارة تدعو الناس إلى استخدام الماء من مصادر مأمونة فقط.[333] لكن الرسائل لم تتضمن أي معلومات اتصال في حالات الطوارئ أو خط ساخن أو صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي أو رابط إلى موقع إلكتروني لكي يتمكن الناس من الحصول على معلومات أكثر حول المخاطر أو تدابير التخفيف.
قالت رجاء كاظم، من أبو الخصيب ولها ابنة أصيبت بالمرض، إنها استلمت رسالة نصية من وزارة الصحة.[334] تتذكر أن "الرسالة قالت بما معناه 'احذروا الماء الملوّث. لم تتضمن أي معلومات حول كيفية الحصول على المياه المأمونة، أو رابطا إلى موقع إلكتروني للحصول على مزيد من المعلومات، أو رقم خط ساخن يمكن الاتصال به إن كانت لدينا أسئلة أو عندما يمرض أحد معارفنا". أغلب الأشخاص الآخرين الذين قابلناهم لغرض هذا التقرير لا يتذكرون استلام رسائل نصية أو مشاهدة أي معلومات أخرى من السلطات المحلية أو الاتحادية.
انتقد خبراء محليون هذه الاستجابة، وفي احدى الحالات، قال د. شكري الحسن، أستاذ محاضر في علوم المياه بجامعة البصرة، إنه بمجرد أن رأى الأطباء تجمعات من الحالات، كان يتعيّن على الوزارة تحذير العائلات من استخدام ماء الصنابير بتاتا في جميع المناطق المرتبطة بمحطات المعالجة التي تحصل على الكثير من مياهها من شط العرب.[335]
منذ الصيف الماضي، لم تنشر السلطات أي معلومات قاطعة حول أسباب الأزمة، والخطوات التي اتبعتها لتجنب أزمات أخرى مستقبلا. أخذت العديد من الهيئات الحكومية عينات مياه للاختبار، لكنها جميعا قالت إن نتائجها سرية.[336] قال أحمد حنون، مدير مديرية البيئة في البصرة، إنه خلُص، اعتمادا على العينات التي أخذتها مديريته، إلى أن المستويات المرتفعة من مياه الصرف الصحي، إلى جانب المعالجة غير الفعالة للمياه في المحطات، هي التي تسببت في مرض الناس.[337] لكنه قال إنه لم يكن مسموحا له إطلاع هيومن رايتس ووتش على أي معلومات عن عينات المياه التي تم اختبارها، والتي لم تُنشر للعلن.
خارج العراق، أجرت منظمة الصحة العالمية اختبارات على عينات جمعها فريقها من مواقع متعددة في البصرة، وأعدت تقريرا اعتمادا على النتائج التي توصلت لها.[338] غير أن موظفين حكوميين وآخرين تابعين للأمم المتحدة أخبروا هيومن رايتس ووتش بأن ملكية التقرير تعود إلى وزارة الصحة، وبالتالي ليس للمنظمة الحق في إطلاع الآخرين عليه.[339] أبقت الحكومة التقرير سريا.
قال د. ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، إن التقرير الذي أعدته "جامعة النهرين" اعتمادا على تحليلها لعينات مياه أخذت أثناء الأزمة، اعتُبر أيضا سريا ولم يُسمح بنشره.[340] أطلع هيومن رايتس ووتش على بيان صحفي أصدره مكتبه في 9 ديسمبر/كانون الأول، البيان العام الوحيد من نوعه، يُلخّص النتائج التي توصلت إليها الجامعة دون تقديم تفاصيل كثيرة عن البيانات الخاصة بعينات المياه.[341]
تقاعس عن التحقيق بشكل مناسب
سارعت الحكومة إلى التحقيق واستبعاد الكوليرا كسبب للمرض بعد اختبار عينات براز من المرضى.[342] قال د. أدهم رشاد اسماعيل، ممثل منظمة الصحة العالمية في العراق بالإنابة، إن المستشفيات تمكنت من استبعاد الكوليرا. وجدوا بعض حالات بكتيريا الإشريكية القولونية في العينات، لكن عدد الحالات لم يكن أعلى من المعدلات الطبيعية.[343]
غير أن سلطات قطاع المياه في البصرة لم تُجر في أي وقت مسحا لبؤر المرض وبالتالي لم تعزل الماء الموجود في أنابيب تلك المناطق عن الأحياء الأخرى لمنع تفشي المرض.[344] على حد علم هيومن رايتس ووتش، لم يفعل المسؤولون شيئا لمحاولة تحديد المواقع أو الأغذية المستهلكة أو مصادر المياه أو أي خصائص مشتركة أخرى بين المرضى، وهو النهج المعياري في التحقيقات المتعلقة بتفشي الأمراض، وما كان عليهم فعله.[345]
كان تعامل الحكومة مع أزمة المياه في البصرة في تناقض واضح مع حدث آخر استجدّ أواخر 2018، لما عُثر على الملايين من أسماك الكارب المُستزرعة نافقة في ناحية المسيب بمحافظة بابل. اعتبر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي هذه الحالة قضية أمن قومي، وشكّل فورا فريق أزمة للتحقيق واتخاذ التدابير العلاجية المناسبة.[346] خلُص الفريق إلى أن النفوق كان سببه مرض قاتل هو فيروس "الهربس كوي" (Koi Herpes Virus)، وليس التلوّث، وأصدر بيانا عاما تفصيليا ذكر فيه نتائج تحقيقاته.[347]
عوامل مساهمة أخرى
من العوامل الأخرى التي ساهمت في أزمة مياه البصرة تراجع معدلات التدفق في الأنهار بسبب إقامة السدود العراقية في أعلى النهار وإقامة السدود والمشاريع الزراعية في إيران، وربما إقامة السدود في تركيا وانخفاض هطول الأمطار في العقود الأخيرة، الذي يرجح أنه ناتج عن تغيّر المناخ، من دون وجود سياسات للتخفيف من هذه التأثيرات.
قدّر فريق من المهندسين أن كمية المياه الموجودة في أنهار العراق المتدفقة من الدول المجاورة كانت تاريخيا تتراوح بين 92 و98 بالمئة، لكنها كانت في 2018 في حدود 82 بالمئة فقط.[348]
بناء السدود في تركيا
يصعب تحديد تأثيرات بناء السدود في تركيا على تراجع تدفق المياه نحو العراق، وبالتالي تأثيرها على البصرة، لأسباب متعددة منها أن الفرات يعبر سوريا أولا ثم العديد من السدود في أعلى النهر عندما يدخل العراق. وبالمثل، فإن نهر دجلة عليه سدود داخل العراق قبل البصرة.
يُعدّ "مشروع جنوب شرق الأناضول" (Guneydogu Anadolu Projesi) واحدا من أكبر مشاريع تطوير أحواض الأنهار في العالم. أظهر تحليل تاريخي لصور الأعمال الصناعية أجرته هيومن رايس ووتش، أن المشروع أدى إلى بناء أكثر من 20 سدا في حوض تجميع نهر الفرات منذ ثمانينات القرن الماضي، ومنها "سدّ أتاتورك" (1992) و"سد البسلان – 1 باراجي" (Alpaslan-1 Baraji dam) (2009). استمر التشييد حتى 2015. تبيّن صور الأقمار الصناعية أن هذا النظام الهائل من السدود الكهرومائية كان له تأثير كبير على تدفق المياه إلى سوريا والعراق، لكن بسبب نقص بيانات قياس النهر في سوريا، وتحديدا في "سد الطبقة"، من الصعب للغاية تقييم الأثر التاريخي على تدفق الماء نحو البصرة.
يقع "سدّ ايليسو" (Ilısu dam)، أكبر سدّ مخطط له ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول، على نهر دجلة جنوب شرق تركيا، وقد يؤثر أيضا على التدفقات السنوية إلى دجلة داخل العراق.[349] منذ 2016، يتفاوض المسؤولون الأتراك والعراقيون على خطط تركيا لملأ سدّ ايليسو، مع توقع الخبراء بحصول تراجع أكبر في التدفق السنوي لنهر دجلة بعد امتلاء هذا السدّ.[350] ظلّ سدّ ايسليو فارغا حتى مارس/آذار 2019، لكن بحلول أبريل/نيسان 2019 بدأ في الامتلاء بسبب ارتفاع ذوبان الثلج وتساقط الأمطار. أعلن الرئيس طيب رجب اردوغان أنه سيمتلئ في يونيو/حزيران 2019.[351] إلا أن السد لكي يعمل كسد كهرمائي، عليه أن يسمح بتدفق المياه إلى أسفل النهر بطريقة منظمة.
إضافة إلى سدّ ايليسو، مازال بناء السدود المرتبطة بمشروع جنوب شرق الأناضول مستمرا داخل حوض تجميع مياه دجلة في تركيا. تُظهر صور الأقمار الصناعية أنه تم بناء 9 سدود في إطار هذا المشروع منذ 1997، 6 منها بُنيت بعد 2011، وتشمل سد ايليسو. كما يُظهر تحليل هيومن رايتس ووتش لصور الأقمار الصناعية، أنه يوجد حاليا ما لا يقل عن 6 سدود جديدة قيد الإنشاء، يُرجح أن يتم تشغيلها بحلول 2020، وسدّ سابع مخطط له في منطقة سيزر.
تظهر صور الأقمار الصناعية أنه يوجد سدّان جديدان على نهر الزاب في تركيا بدأ تشغيلهما في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، مما سيؤثر على الأرجح على التدفق إلى نهر دجلة جنوب الموصل.
في يناير/كانون الثاني 2019، عيّنت تركيا وزير الغابات والمياه السابق فيصل أروغلو مبعوثا خاصا إلى العراق لحل قضايا تقاسم المياه بين البلدين.[352]
المشاريع الزراعية في إيران
يُرجح أن يكون لنشاط بناء السدود الكهرومائية المرتبطة بالمشاريع الزراعية في أحواض 3 أنهار كبيرة في إيران منذ أواخر التسعينات تأثير سلبي كبير على تدفق المياه في نهر دجلة من البصرة ونحو شطّ العرب. يُظهر تحليل تاريخي لصور الأقمار الصناعية أجرته هيومن رايتس ووتش أنه حتى 1997 كان يوجد سدان فقط يشتغلان داخل حوض تجميع نهر سيروان، الذي يتدفق جنوبا إلى سدّ حمرين العراقي. لكن بعد 1997، تم تشييد 12 سدّا جديدا، 9 منها عقب 2011، وأحدها صار شغالا في 2019 بحسب صور الأقمار الصناعية.
تظهر الصور أيضا أنه لم تكن توجد أي سدود في حوض تجميع نهر الكرخ حتى 2001، تاريخ بناء أول وأكبر سد هناك. بعد ذلك، تم بين 2011 و2017 بناء 5 سدود إضافية من جهة منبع النهر. أما في حوض نهر كارون، فتُظهر الصور أنه كانت توجد 4 سدود شغالة حتى 2001. بين 2002 و2013، تم تشييد 8 سدود أخرى، وأبرزها سد "گُتوَند عُلیا" في 2012. قال د. ضرغام الأجودي، نائب محافظ البصرة، إن 75 بالمئة من المياه التي تستهلكها البصرة كانت تأتي من نهر كارون (قبل بناء السدود عليه) وتتدفق نحو شط العرب.[353]
أكّد مسؤولون عراقيون الأثر السلبي للسدود الكهرومائية في إيران على تدفق المياه إلى شط العرب. غير أنه يُرجح أن يكون تأثير المشاريع الزراعية الإيرانية بنفس أهمية – إن لم يكن أكثر – أثر السدود على خفض تدفق المياه.[354] إضافة إلى البناء السريع للسدود الكهرومائية، كشفت صور الأقمار الصناعية عبر الزمن توسعا كبيرا في مساحة الأراضي المخصصة لمزارع السكر وتربية الأسماك التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، على مدى أكثر 25 عاما.[355] أظهرت الصور أن استهلاك الماء في صناعة السكر الإيرانية في هذه المنطقة كان له أثر كبير على تراجع تدفق المياه نحو شط العرب. منذ منتصف التسعينات، بدأت مزارع السكر تتوسع في منطقة شوش، حيث يقترب نهرا الكرخ وكارون من بعضهما. تسارع هذا التوسع في مطلع الألفية، بإضافة مزارع جديدة نحو الجنوب على طول النهرين.
تُظهر الصور أنه تم إنشاء 3 مزارع كبيرة للسكر ومزرعة لتربية الأسماك بين 2000 و2009 جنوب مدينة الأهواز، بمساحة إجمالية تتجاوز 100 ألف هكتار.[356]
أبرز تحليل الصور أن ريّ هذه المزارع يتم عبر شبكة متطورة تبلغ آلاف الكيلومترات من القنوات السطحية وعشرات محطات الضخ التي تسحب بنشاط الماء من نهري الكرخ وكارون. رغم أن هيومن رايتس ووتش لا تستطيع تحديد كمية الماء المستهلك، من الواضح من نطاق وكثافة تحويل المياه لزراعة السكر التجارية كما يظهر في صور الأقمار، أن الأثر الإجمالي على انخفاض تدفق المياه نحو شط العرب كان كبيرا.
تُظهر صور الأقمار الصناعية أيضا زيادة ملحوظة في الغطاء النباتي منذ 2001 على طول ضفتي نهري دز وكارون في إيران، من مصبّي "سد دز" وسد گُتوَند عُلیا على التوالي. بالإضافة إلى مزارع قصب السكر الرئيسية، تُظهر الصور تكاثرا لمزارع الأسماك ومساحات زراعية أخرى على طول آخر 80 كيلومتر تقريبا من نهر كارون، قبل تدفقه إلى شط العرب في العراق. قبل وصوله إلى شط العرب، يواصل نهر كارون تدفقه نحو مصبه الرئيسي – نهر بهمنشير – الموازي لشط العرب داخل إيران. أظهرت صور الأقمار الصناعية تزايدا في المناطق المزروعة بين 2000 و2017 على طول نهر بهمنشير، وفي تناقض صارح، أظهرت تراجعا في الأراضي المزروعة على الضفة اليُمنى لنهر شط العرب، بعد تقاطعه مع نهر كارون في العراق.
كما تُظهر صور الأقمار الصناعية أيضا قناة تم تشييدها بين 1991 و2000، وهي الآن قيد العمل وتتدفق بموازاة نهر كارون في إيران. هذه القناة تحوّل المياه من نهر كارون إلى نهر بهمنشير. تُبرز الصور ارتفاعا في المحاصيل ومزارع الأسماك منذ عام 2000 على ضفتي القناة.
تغيّر المناخ
إضافة إلى التحديات الكثيرة التي تواجه تدفق المياه في البصرة، يُهدد تغير المناخ بتدهور نوعية المياه وتراجع كميتها.[357] العراق واحد من أكثر بلدان المنطقة عرضة لتغيّر المناخ.[358] بات يعاني فعلا من آثار هذا التغيّر عبر ارتفاع درجات الحرارة التي تتسبب في التبخر، وتراجع الأمطار، وتغيّر أنماط الطقس التي تسهم في نقص المياه.[359] كما تشهد مناطق مستجمعات مياه نهري دجلة والفرات تراجعا في هطول الأمطار،[360] ما أثر على نوعية مياه النهرين حتى صارت المياه التي ازدادت ضحالتها أكثر عرضة للتلوّث بمياه الصرف الصحي والصناعات البترولية.[361] أبرزت أبحاث أن الجفاف المتكرر وتراجع الأمطار، الذي يؤدي إلى زيادة التبخر ونقص المياه، زادا من نسبة الملوحة في شط العرب.[362] كما يتسبب ارتفاع درجات الحرارة في احتمال تكاثر الطحالب الضارة.[363]
بحسب خبراء، من المرجح أن تتفاقم ندرة المياه العذبة وارتفاع مستوى البحر في العراق بمرور الوقت نتيجة تغيّر المناخ.[364] يتوقع الخبراء أن تشهد معظم أنحاء العراق تراجعا في المتوسط السنوي لهطول الأمطار، مع ارتفاع درجات الحرارة وموجات حر شديد، وتراجع الجريان السطحي، وارتفاع مستوى البحر في الخليج.[365] يُتوقع أيضا ارتفاع مستويات الملوحة مع ارتفاع مستوى البحر مستقبلا.[366] ندرة المياه والتلوّث وارتفاع درجات الحرارة كانت دائما مرتبطة بتفشي الأوبئة، مثل الكوليرا.[367]
قبل اعتماد اتفاق باريس بشأن تغيّر المناخ، قدم العراق في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 مساهماته المحددة وطنيا، وهي خطة عمل وطنية لمواجهة تغيّر المناخ.[368] بعد أكثر من عامين من دخول اتفاق باريس حيز التنفيذ، لا يزال العراق واحدا من حوالي 10 بلدان فقط لم تصادق عليه.[369] نتيجة لذلك، لم يقدّم العراق تحديثا لمساهماته المحددة وطنيا. لكن في 2019، أوصى مجلس الوزراء العراقي البرلمان باعتماد مشروع قانون للمصادقة على اتفاق باريس.[370]
التزمت الحكومة العراقية في وثيقة المساهمات المحددة وطنيا بإنشاء مركز متخصص في تغير المناخ يضع استراتيجيات للتخفيف من تغيّر المناخ والتكيّف معه في البلاد.[371] تضمنت الوثيقة هدفا يقضي بخفض انبعاثات غازات الدفيئة بـ 14 بالمائة بين 2020 و2035.[372] كما تضمنت مجموعة من الالتزامات لتحسين نوعية وكمية المياه في ضوء التغيرات المتوقعة الناتجة عن تغيّر المناخ.
تماشيا مع الرغبة في إدارة الموارد المائية بشكل أفضل، قدمت وثيقة المساهمات المحددة وطنيا مجموعة مفصلة من التدابير الرامية إلى تخفيف تأثيرات تغيّر المناخ، مثل إعادة تأهيل العديد من السدود الرئيسية وبناء سدود جديدة، تحسين أنظمة التحكم في الفيضانات، وتعزيز مراقبة استهلاك المياه، بما يشمل استخدام العدادات.[373] كما التزمت باستخراج المزيد من المياه من الموارد الجوفية.[374] لزيادة كمية مياه الشرب المتاحة، التزمت الحكومة بزيادة قدرات معالجة المياه العامة لتصل إلى 6.4 مليار متر مكعب سنويا بحلول 2035، بما يتماشى مع ارتفاع معدلات الاستهلاك لدى السكان.[375]
على حدّ علم هيومن رايتس ووتش، لم تُنشئ الحكومة بعد مركزا لتغيّر المناخ ولم تشرع في تنفيذ أي من الالتزامات الواردة في وثيقة المساهمات المحددة وطنيا بطريقة فعالة. لم تتضمن الوثيقة أي التزامات لتحقيق إشراف أفضل على الملوثات في المياه أو البيئة بشكل عام، أو على قطاع المياه الخاص أو الاستخدام غير القانوني للماء، مثل السحب غير القانوني من الأنابيب والقنوات. لم تناقش أيضا أهمية إعمال حق المجتمعات المهمشة، مثل الأشخاص الذين يعيشون في المساكن العشوائية، في الماء.
.IVالالتزامات القانونية الدولية
صادق العراق على العديد من معاهدات حقوق الإنسان التي تتضمن التزامات تتعلق بالحق في الماء والصرف الصحي والصحة، ومنها "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، و"اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة" (سيداو)، و"اتفاقية حقوق الطفل"، و"اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة"، و"العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية".[376]
يضمن "الدستور العراقي" حق كل فرد في "العيش في ظروف بيئية سليمة" ويُلزم الدولة بـ "حماية البيئة والتنوع الأحيائي والحفاظ عليهما".[377] كما ينصّ على التزام الحكومة الاتحادية بتفيذ "السياسات المتعلقة بمصادر المياه من خارج العراق، وضمان مناسيب تدفق المياه وتوزيعها العادل داخل العراق، وفقا للقوانين والأعراف الدولية".[378] يُلزم أيضا السلطات الاتحادية والمحلية بـ "رسم السياسة البيئية لضمان حماية البيئة من التلوّث، والمحافظة على نظافتها، بالتعاون مع الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم" و"رسم سياسة الموارد المائية الداخلية، وتنظيمها بما يضمن توزيعا عادلا لها".[379]
أعربت "اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، التي تراقب التزام الحكومات بالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في 2015 عن قلقها تجاه احترام العراق للحق في الماء، بما في ذلك العائلات التي تسكن في مستوطنات عشوائية، ونقص مياه الشرب المأمونة ومرافق الصرف الصحي. أوصت اللجنة العراق بأن "يُكثف جهوده، بالتعاون مع البلدان المجاورة، في سبيل إبرام اتفاقات بشأن استخدام الأنهار استخداما عادلا ومنصفا داخل إقليمه". كما أوصت العراق بوضع استراتيجية بشأن التأهب للجفاف تكون قائمة على حقوق الإنسان وتأخذ في عين الاعتبار "المبادئ التوجيهية للسياسات الوطنية لإدارة الجفاف" التي وضعت في عام 2014، وأن تتخذ خطوات فعالة، عدا تقديم تعويضات إلى المزارعين – من أجل مساعدة الفئات الأكثر تأثرا بالجفاف. كما أوصت اللجنة بأن يتخذ العراق تدابير وقائية لمكافحة ووقف تفشي الاسهال والكوليرا، بسبل منها توفير التحصين (اللقاحات) والمعلومات المتعلقة بإجراءات الصرف الصحي الأساسية.[380]
الحق في الماء
الحق في الماء مكفول للجميع دون تمييز. لكل شخص الحق "في الحصول على كمية من الماء تكون كافية ومأمونة ومقبولة ويمكن الحصول عليها ماديا وميسورة ماليا لاستخدامها في الأغراض الشخصية والمنزلية".[381] أكدت عدة قرارات صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة و"مجلس حقوق الإنسان" على أن الحق في مياه الشرب المأمونة منبثق عن الحق في مستوى العيش اللائق.[382] الحق في مستوى العيش اللائق مكفول في صكوك حقوق الإنسان التي صادق عليها العراق، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، اتفاقية سيداو، اتفاقية الأشخاص ذوي الإعاقة، واتفاقية حقوق الطفل.
لاحظت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقها العام رقم 15 بشأن الحق في الماء أن من جوانب المحتوى الأساسي للحق في الماء أن يكون الماء اللازم للاستخدام الشخصي والمنزلي مأمونا. وبالتالي ينبغي أن يكون خاليا من الكائنات الدقيقة، والمواد الكيميائية والمخاطر الإشعاعية التي تشكل تهديدا لصحة الشخص.[383]
لاحظت اللجنة أيضا أن "انتهاك الالتزام بتنفيذ" الحق في الماء يحصل في حال "عدم إنفاق كميات كافية أو سوء تخصيص الموارد العامة، مما يؤدي إلى عدم تمتع الأفراد أو المجموعات، لا سيما المجموعات، المحرومة أو المهمشة، بالحق في الماء".[384]
كما لاحظت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي أن الدولة ملزمة في حالات الطوارئ "بأن توفر بصورة مباشرة خدمات ملائمة".[385] لاحظت أيضا أن انتهاكات الحق في الماء قد تكون ناتجة عن عدم التحرك لتنفيذ خطط واستراتيجيات شاملة لضمان التحقق الكامل للحقوق على المدى الطويل أو عدم تنظيم الفاعلين غير التابعين للدولة، وكنتيجة غير مقصودة للسياسات والبرامج والتدابير الأخرى.[386]
الدولة ملزمة أيضا بـأن:
تمنع أطرافا ثالثة من أن تعرقل بأي شكل من الأشكال التمتع بالحق في الماء. وتشمل الأطراف الثالثة الأفراد والمجموعات والشركات وغيرها من الكيانات وكذلك الوكلاء الذين يتصرفون تحت سلطة هذه الأطراف. ويتضمن الالتزام أمورا منها اعتماد التشريعات اللازمة والفعالة وغيرها من التدابير للقيام، مثلا، بمنع أطراف ثالثة من حرمان السكان من الوصول بصورة متساوية إلى الماء الصالح للشرب، ومن تلويث الموارد المائية واستخراج الماء منها بصورة غير عادلة، بما في ذلك الموارد المائية الطبيعية والآبار ونظم توزيع المياه.
يجب على الدول، في حالة قيام أطراف ثالثة بتشغيل خدمات الإمداد بالمياه أو السيطرة عليها (مثل شبكات نقل المياه بواسطة الأنابيب، وصهاريج المياه، والوصول إلى الأنهار والآبار) أن تمنع هذه الأطراف من أن تحول دون الوصول ماديا وعلى قدم المساواة وبصورة ميسورة ماليا إلى كميات كافية من الماء المأمون والمقبول. ولمنع حدوث مثل هذه التجاوزات، ينبغي وضع إطار تنظيمي فعال ينسجم مع أحكام العهد ومع هذا التعليق العام، ويتيح مراقبة مستقلة، ومشاركة حقيقية للجمهور، وفرض عقوبات في حالة عدم الامتثال.[387]
لمواجهة أزمة المياه التي لم تتم معالجتها إلى حدّ كبير، ومن شبه المؤكد أنها ستتفاقم، يتعين على السلطات المحلية والاتحادية أن تفي بالتزامات العراق لاحترام وحماية وإعمال الحق في الماء:
الالتزام بالاحترام
التزام الاحترام يفرض على الدول الكف عن التدخل المباشر وغير المباشر في التمتع بالحق في الماء. على سبيل المثال، يتعين على الدول الكف عن تلويث موارد المياه أو قطع خدمات المياه والصرف الصحي بشكل تعسفي أو غير قانوني.
الالتزام بالحماية
التزام الحماية يفرض على الدول منع الأطراف الثالثة من التدخل في الحق في الماء. يتعين على الدول اعتماد وإنفاذ تشريعات لضمان التزام الأطراف الفاعلة في القطاع الخاص – مثل محطات تنقية المياه أو محطات التناضح العكسي أصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه – بمعايير حقوق الإنسان المرتبطة بالحق في الماء.
الالتزام بالإنفاذ
التزام الإنفاذ يفرض على الدول اعتماد التدابير التشريعية، والإدارية، والمالية، والقضائية والترويجية وغيرها من التدابير اللازمة للإنفاذ الكامل للحق في الماء. يتعين على الدول، من بين أمور أخرى، اعتماد سياسة وطنية خاصة بالماء تعطي الأولوية في إدارة المياه للاستخدامات الشخصية والمنزلية الأساسية؛ تُحدّد أهداف توسيع خدمات المياه، مع التركيز على المجموعات المحرومة والمهمشة؛ تدرس الآثار الحالية والمستقبلية لتغير المناخ على خططها؛ تحدّد الموارد المتاحة لتحقيق أهدافها والسُبل الأقل كلفة لاستخدامها؛ تُحدد المسؤوليات والإطار الزمني لتنفيذ التدابير؛ وتراقب النتائج والنواتج، بما في ذلك ضمان سبل الانتصاف المناسبة للانتهاكات.[388]
الحق في الصرف الصحي
لكل فرد الحق في الصرف الصحي، دون تمييز "للحصول بشكل مادي وبتكلفة ميسورة، وضمن جميع ميادين الحياة، على خدمات الصرف الصحي الآمنة والصحية والمأمونة والمقبولة اجتماعيا وثقافيا، التي توفر الخصوصية وتضمن الكرامة".[389] كما هو الشأن للحق في الماء، ينبثق الحق في الصرف الصحي عن الحق في التمتع بمستوى معيشة لائق.[390]
ذكرت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي أن على الدول "أن تضمن عدم تأثير إدارة المواد البرازية البشرية سلبا على حقوق الإنسان".[391]
الحق في الصحة والبيئة الصحية
الحق في أعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه مكفول في المادة 25 من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" والمعاهدات الدولية الملزمة للعراق، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتفاقية حقوق الطفل.[392]
فسّرت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في تعليقها العام رقم 14 بشأن الحق في الصحة، العهد الدولي بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أنه يشمل:
ضرورة كفالة إمدادات كافية من مياه الشرب المأمونة والإصحاح الأساسي، ووقاية السكان والحد من تعرضهم للمواد الضارة مثل الأشعة والمواد الكيميائية أو غير ذلك من الظروف البيئية المؤذية التي تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على صحة الإنسان.[393]
ذكرت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن "انتهاكات الالتزام بإنفاذ" الحق في الصحة تحصل في حال "قلة المصروفات أو سوء توزيع الموارد على نحو ينتج عنه عدم تمتع أفراد أو فئات... بالحق في الصحة".[394]
يشمل الحق في الصحة الحق في بيئة صحية في الطبيعة.[395] ينطوي الحق في بيئة صحية على الالتزام "بدرء المخاطر الصحية الناجمة عن المياه غير الصحية والسامة".[396] تفرض "المبادئ الإطارية بشأن حقوق الإنسان والبيئة"، التي أعدها المقرر الخاص المعني بمسألة التزامات حقوق الإنسان المتعلقة ببيئة آمنة وصحية ومستدامة، وتفسر الحق في بيئة صحية، على الدول "أن تحترم وتحمي الحق في حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع السلمي في سياق المسائل البيئية".[397] تؤكد المبادئ على ضرورة أن "تتيح [الدول] للناس سبل الحصول على المعلومات البيئية بجمع المعلومات ونشرها، وبتوفير إمكانية حصول أي شخص عليها، عند الطلب، وبيسر وفعالية وفي الوقت المناسب".[398]
الحق في الملكية
الحق في الملكية مكفول في المادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.[399] الحكومة ملزمة باتخاذ تدابير لحماية حقوق المزارعين في أراضيهم ومحاصيلهم، بما يشمل تخفيف العوامل التي تمنعهم من التمتع بهذا الحق، مثل الأضرار التي تلحق بالممتلكات بسبب سياسات الحكومة. يحمي الدستور العراقي الحق في الملكية ويضمن "الانتفاع بها واستغلالها والتصرف بها، في حدود القانون".[400]
الحق في المعلومة
لاحظت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقها العام رقم 15 بشأن الحق في الماء أن الالتزام الأساسي للدول تجاه الحق في الماء هو حق الأفراد في التماس وتلقي ونقل المعلومات المتعلقة بمسائل المياه.[401] كما لاحظت اللجنة أنه ينبغي أن "تتاح للأفراد والمجموعات إمكانية الوصول التام وعلى قدم المساواة إلى المعلومات المتعلقة بالمياه وخدمات المياه والبيئة التي تملكها السلطات العامة أو أطراف ثالثة".[402]
ذكرت اللجنة أيضا في تعليقها العام رقم 14 بشأن الحق في الصحة أن من "الالتزامات ذات الأولوية" للدول تجاه الحق في أعلى مستوى من الصحة يمكن تحقيقه:
توفير التعليم وإتاحة الحصول على المعلومات المتعلقة بالمشاكل الصحية الرئيسية في المجتمع، بما في ذلك طرق الوقاية والمكافحة.[403]
.Vسبل المضي قُدُما
بحسب الخبراء المحليين والدوليين في نوعية المياه في العراق، ستعاني البصرة من أزمات مياه حادة في السنوات المقبلة في حال عدم وجود أي حلول استراتيجية بسبب شح المياه الذي تفاقم بسبب تغير المناخ، واستمرار تلوّث المجاري المائية، والاستخدام المفرط للماء في المنازل والزراعة والصناعة في العراق.[404] بالنظر إلى التزامات الحكومة باحترام وحماية وإنفاذ حقوق سكان البصرة، بما يشمل الحق في الماء والصحة والبيئة الصحية، يتعين على السلطات المحلية والاتحادية الانخراط جدّيا في البحث عن مقاربات لحل التحديات الطويلة الأمد التي تواجه قطاع المياه في البصرة لكي تنفذ التزاماتها المتعلقة بتزويد السكان بالماء المأمون والصرف الصحي، وكذلك ماء الري، وحماية حقوقهم في الصحة والبيئة الصحية والتعليم، وتجنب المزيد من التهجير المحتمل.
يتعين على السلطات المحلية والاتحادية في جميع المستويات أن تقرّ بالحق في الماء وبالتزاماتها لضمان وصول جميع الناس ماديا وبصورة ميسورة ماليا إلى كميات كافية من الماء المأمون والمقبول، وتمكين ضحايا الانتهاكات من الحصول على سبل انتصاف فعالة ضدّ المسؤولين عن الانتهاكات. ينبغي تمكين الأفراد، وكذلك الهيئات الناظمة التابعة للدولة، من الوصول إلى آليات تظلّم محلية فعّالة، وإلى آليات إنفاذ قضائية إذا استنفذوا الآليات المحلية.
أثناء أبحاثها المتعلقة بالانتهاكات المرصودة في هذا التقرير، اطّلعت هيومن رايتس ووتش على مجموعة من الخيارات التي اقترحها مهندسون دوليون ومحليون لمعالجة تحديات الماء في البصرة بطريقة شاملة وفعالة وأطول أمدا.[405] بينما ذكر الخبراء مزايا وعيوب كل مقترح، أكدوا جميعا أن السلطات – قبل أن تستثمر في أيّ منها – مطالبة بإجراء دراسة شاملة لتحديد حل أوحد أو مجموعة الحلول التي ستخدم البصرة على أفضل وجه على الأمد الطويل.[406]
بسبب تعقيد المشكلة التي تواجه البصرة، توصي هيومن رايتس ووتش السلطات الاتحادية والمحلية بتشكيل فرقة عمل متعددة الاختصاصات ومستقلة لتقييم أوجه القصور التي أدت إلى الأزمة الصحية في البصرة عام 2018، والمشاكل الحادة والطويلة الأمد التي تواجه توفير الماء للناس والزراعة في البصرة والمناطق المجاورة، والفجوات الحاصلة على مستوى التنظيم والمراقبة، وإهمال القطاعين العام والخاص، وتحويل المياه بطريقة غير مشروعة، والتأثيرات المتوقعة لتغير المناخ، وغيرها من المواضيع. يتعين على فرقة العمل إعداد تقييمها مع إتاحة الفرصة لمشاركة واسعة.
ينبغي أن تكون لفرقة العمل اختصاصات واضحة تشمل تنفيذ المهام التالية (وحتى إذا لم يتم إنشاء هذا الفرقة، يتعين على السلطات المحلية والاتحادية إيجاد طريقة لتنفيذ هذه المهام بمطلق الأحوال):
- مراجعة نتائج التقارير المُنجزة أثناء الأزمة الصحية في 2018 وتقييم ملاءمة التدابير المتخذة لمواجهتها؛
- نشر نتائج التقارير المُنجزة أثناء الأزمة الصحية لسنة 2018 للعلن، وإطلاع الناس على جميع التدابير التي اتُخِذت لضمان عمل السلطات على منع حدوث أزمات مياه على الأمد الطويل؛
- مراجعة جميع الاستراتيجيات الحالية لإدارة الموارد المائية، وخاصة في دجلة وشط العرب، وتحديد ملائمة أعمال تنفيذها الحالية؛
- تحليل البيانات المناخية الحالية للمنطقة وتأثيراتها المتوقعة على نوعية وكمية الماء؛
- النظر في جميع الأنظمة القانونية والتنظيمية التي تحكم ماء البصرة، وتقييم مستوى تنفيذها؛
- التحقيق في المصادر المحتملة للتلوّث البيئي، بما يشمل الأدلة التي جمعتها هيومن رايتس ووتش حول تسرب النفط قرب حقل نهر ابن عمر للنفط والغاز من 15 إلى 25 يوليو/تموز 2018؛
- تقييم مدى تعرض المنطقة لخطر تكاثر الطحالب الضارة؛
- تقديم خطوات واضحة تتبعها السلطات لتنفيذ استراتيجيات المياه المتفق عليها سابقا على مدى عدة عقود من الزمن أو وضع استراتيجية جديدة تركّز على الحاجة القصوى لتحسين تدفق شط العرب ومستواه الصحي؛
- الحرص على أن تؤدي جهود المفاوضات الإقليمية إلى وضع إطار يضمن التقاسم والتوزيع العادل للموارد المائية بين إيران والعراق وتركيا وسوريا؛
- الحرص على أن تؤدي جهود المفاوضات المحلية إلى وضع إطار يضمن التقاسم والتوزيع العادل للموارد المائية ضمن العراق؛
- التحديد الواضح للسلطات المسؤولة عن ملاحقة سحب الماء بطريقة غير قانونية وتنظيم تسجيل واختبار ومعاقبة محطات المياه الخاصة وأصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه. يتعين على سلطات بغداد محاسبة المسؤولين المحليين إذا لم يقوموا بمسؤولياتهم؛
- التحقيق في الحالات التي تتوفر فيها مزاعم موثوقة بحصول السلطات على رشاوى مقابل غض الطرف عن انتهاكات القوانين المتعلقة بالمياه أو في إطار مشاريع البنية التحتية المتعلقة بالمياه، وتحديد الجهة التي يتعين عليها التحرك لمواجهة المخالفات؛
- تقديم إرشادات حول محتوى أي حملة يتعين على السلطات الوطنية إطلاقها لتثقيف العراقيين حول الاستخدام المسؤول للماء وأساليب الاقتصاد في استهلاك المياه بهدف تغيير السلوكيات المحلية بخصوص المياه. يتعين ألا تقتصر الحملة على المناطق المتضررة في البصرة، بل ينبغي أن تشمل كل البلاد، مع اقتراح آليات لتحسين مراقبة استخدام الماء على مستوى الأسرة. يتعين أن تتضمن الحملة إجراءات لتجنب التأثير غير المتناسب على المجتمعات الفقيرة والمهمشة؛
- تقديم توصيات واضحة وقابلة للتنفيذ لإنشاء نظام تحذير صحي عام يقدّم تحذيرات ذات مستويات واضحة حول مياه الشرب، بما في ذلك التحذيرات الوقائية، مع تحديد المسؤوليات وبروتوكول لإنشاء تحذير ورفعه، والتواصل بوضوح حول الخطوات التي يتعين على الأفراد اتباعها لخفض المخاطر؛
- ضمان حصول جميع السكان الذين لا يحصلون على كميات كافية من الماء المأمون على سبل انتصاف فعالة ضدّ المسؤولين الذين تقاعسوا عن توفير ذلك، على أن يشمل ذلك آليات تظلّم إدارية وشبه قضائية محلية فعالة، وآليات قضائية عند استنفاذ الآليات الأولى؛ يجب أن تضمن سبل الانتصاف المذكورة تحركا طارئ عند انقطاع الوصول إلى المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي؛
- عند ظهور أزمة جديدة، الحرص على أن تفهم السلطات وأن تكون مسؤولة عن اتخاذ الخطوات الكفيلة بتخفيف الأعباء المالية وغيرها من الأعباء التي تواجه السكان الأكثر تأثرا وتهميشا، مع ضمان حصولهم على الماء؛
- قبل الشروع في تنفيذ التوصيات المتعلقة بأي أعمال هندسية كبرى جديدة، إنشاء فريق من الخبراء الهندسيين لإجراء دراسة شاملة لمشاكل المياه جنوب العراق، تتضمن دراسة كمية ونوعية المياه المتاحة والمطلوبة، ووضع محطات المعالجة العامة وشبكة التوصيل، وكذلك الآثار الحالية والمتوقّعة للتغير المناخي على نوعية وكمية المياه. بعد إجراء هذه الدراسة فقط تستطيع السلطات الموافقة على استراتيجية قد تشمل زيادة الموارد المائية عبر محطات تحلية المياه، وقد تنطوي على استثمارات كبيرة في إعادة تأهيل محطات المياه العامة وشبكة الأنابيب في البصرة وتغطية قناتي البدعة وكتيبان. يتعين على السلطات في جميع المستويات الالتزام بضبط الفساد في هذه المشاريع، مع الحذر من تسبب هذه الممارسات في تعطيل إنجاز المشاريع.
وبعد أن تضع السلطات استراتيجية، عليها ضمان توفير التمويل وحسن الإدارة والإشراف والتنظيم الملائمين والمسؤولين للاستراتيجية وتطبيق المعايير البيئة.
بحسب المهندسين وخبراء المياه الدوليين الذين استشرناهم، يجب أن تكون أولوية فرقة العمل هذه تحقيق إدارة أفضل لتدفق المياه إلى شط العرب لتجنب تسرب مياه البحر وخفض التلوّث وضمان تحويل القنوات المفتوحة التي تزوّد البصرة بالماء إلى قنوات مغلقة لتجنب الملوّثات وخسارة المياه .[407] اقترح فريق من المهندسين الدوليين حلولا متنوعة: على المدى القصير وفي حال حدوث أزمة جديدة، يستطيع العراق استئجار مجموعة من محطات التحلية العائمة التي يُمكن أن تُصنّع في الخارج ثم تُنقل إلى العراق في غضون 3 أشهر، وبالتالي تفادي بعض أوجه التعثر التي تسببت في ما يقرب من عقد من التأخير في بناء مشروع ماء البصرة الكبير.[408] غير أن المهندسين أكدوا على ضرورة إجراء دراسة ملائمة قبل بدء أي أعمال هندسية. قال رئيس الفريق: "إذا رفضوا تخصيص الوقت الكافي لإجراء دراسة مناسبة، كل ما سيحدث هو أنهم سينفقون الكثير من المال على أعمال بناء سريعة ومؤقتة، ثم سيجدون أنفسهم في نفس الوضع بعد سنوات قليلة".[409] قال إن الدراسة وتنفيذ استراتيجية متفق عليها يتطلبان عدة سنوات، وينبغي للسلطات أن تُطلق هذه العملية الآن حتى تتجنب حدوث أزمة بعد عدة سنوات.
تشمل التوصيات الإضافية ما يلي:
توصيات إلى السلطات العراقية
إلى البرلمان
- المصادقة على اتفاق باريس لضمان تحديث المساهمات المحددة وطنيا بما يستجيب لتأثيرات أزمة المياه على الفئات المهمشة وفي ضوء التأثيرات المتوقعة لتغير المناخ، ولإنفاذ حقهم في الماء عند التخطيط للتكيّف.
- المصادقة على "اتفاقية بازل بشأن مراقبة نقل النفايات الخطرة عبر الحدود والتخلص منها" (اتفاقية بازل) و"اتفاقية حماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود والبحيرات الدولية" بما يتماشى مع توصيات مجلس الوزراء إلى البرلمان في 21 مايو/أيار 2019.
إلى جميع السلطات المعنية بتخزين المياه ومعالجتها وتوصيلها
- ضمان شروع الحكومة في تنفيذ التزاماتها التي ضمّنتها في وثيقة المساهمات المحددة وطنيا بشأن اتفاق باريس حول تغير المناخ في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بما يشمل زيادة معالجة المياه والصرف الصحي، تحسين البنية التحتية لتخزين المياه والأنابيب، وتغيير الممارسات الزراعية؛
- معالجة التحديات التي تواجه سلسلة الإمداد وتنظيم إمدادات الكلور لضمان حصول جميع سلطات المياه على الإمدادات اللازمة.
إلى مديرية ماء البصرة التابعة لوزارة البلديات والأشغال العامة
- ضمان تجهيز مختبر البصرة المركزي بالتجهيزات اللازمة لاختبار جميع المواد البيولوجية والكيميائية الضارة في المياه، بما في ذلك المعادن الثقيلة وتكاثر الطحالب الضارة في المياه العذبة ومياه البحر؛
- إنشاء مصادر فعالة للمعلومات العامة لتمكين المختبر من مشاركة نتائج اختباراته علنا ومع المجتمعات المتضررة، وكذلك نظام تحذير فعال للصحة العامة لإعلام الناس بأي نتائج سلبية للاختبارات، بما يتوافق مع توصيات فرقة العمل؛
- في حال وقوع أزمة في المستقبل، إجراء مسح في كامل البصرة لتحديد ما إذا كانت بعض الأحياء أكثر تضررا، ثم عزل الماء في أنابيب هذه الأحياء عن الأحياء الأخرى لتجنب تفشي المرض أكثر.
إلى وزارة الصحة
- استباقا لأي أزمة مستقبلية، إنشاء المواقع الالكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي والخطوط الساخنة المناسبة وغيرها من السبل الكفيلة بتزويد الناس بالمعلومات في حال حدوث أزمة جديدة، وتوجيه جميع العائلات إلى تخزين مواد التبييض في منازلها بحيث يمكنهم استخدامها في تطهير الماء، وتخزين الأدوية الضرورية لضمان توفرها بكميات كافية في المستشفيات؛
- ضمان عدم استبعاد أي شخص في حاجة ماسة من الرعاية؛
- تطبيق قرار سلطات البصرة الصادر في 2 يوليو/تموز 2019 والذي يفرض على جميع أصحاب السيارات الحوضية الحصول على الموافقات البيئية والصحية ويجبر السلطات المعنية على ملاحقة السيارات الحوضية التي تعمل بشكل غير قانوني. وضع لوائح أكثر صرامة بشأن عمليات التفتيش المنتظمة وإنفاذ تراخيص أصحاب السيارات الحوضية لنقل المياه، وتعزيز طرق منعهم من نقل أنواع مختلفة من المياه (للبناء أو الري أو الاستخدام المنزلي أو الشرب) في نفس الفترة، بما في ذلك عبر إجراء اختبارات أكثر صرامة على حمولات الماء التي ينقلونها أو اشتراط الحصول على شهادات خاصة بمحتوى الحمولة؛
- التحقيق في المصادر المحتملة لتلوّث البيئة، بما في ذلك تسرب النفط وتكاثر الطحالب الضارة والتخلص من مياه الصرف الصحي غير المعالجة والقمامة في المجاري المائية.
إلى شرطة مرور البصرة
- سحب وتفقد تراخيص سائقي السيارات الحوضية لنقل المياه بوتيرة أكبر.
إلى مديريتي الماء والمجاري في البصرة التابعتين لوزارة البلديات والأشغال العامة
- ضمان ربط كل سكان العشوائيات في البصرة بشبكة المياه والصرف الصحي، بما يشمل تسجيل هذه العشوائيات رسميا كتجمعات سكنية، عبر إيجاد بدائل إسكان رسمية للعائلات تكون متصلة بشبكات المياه والصرف الصحي، أو عبر توفير خزانات تعفين لضمان تخزين مياه الصرف الصحي والتخلص منها بطريقة سليمة.
إلى مجلس الوزراء
- تحسين سياسات الضرائب لتشجيع استيراد المحاصيل الأكثر ملاءمة للاستيراد بسبب استخدام المياه أو أسلوب الري، وتشجيع زراعة المحاصيل الأقل استهلاكا للماء والأصناف الأكثر تحملا للملح.
إلى وزارة الزراعة
- ضمان تعويض المزارعين عن الخسائر المترتبة عن أزمة 2018، وكذلك عن الخسائر الأطول أمدا؛
- تمويل خطط وبرامج حتى يغيّر المزارعون أساليبهم في الري وتغيير محاصيلهم من محاصيل تقليدية إلى غير تقليدية. النظر في توفير حوافز لتشجيع المزارعين على الكف عن إنتاج محاصيل كثيفة الاستخدام للمياه وغير مجدية اقتصاديا، مثل القمح والأرز.
إلى وزارتي الموارد المائية والزراعة
- وضع سياسة وطنية لإدارة المياه تأخذ بعين الاعتبار نضوب الموارد المائية في البلاد وتراجع تدفق المياه من البلدان المجاورة والتأثيرات المتوقعة لتغير المناخ، وتتضمن ممارسات زراعية مستدامة.
إلى وزارة البيئة
- التحقيق في المصادر المحتملة للتلوّث البيئي، بما في ذلك تسرب النفط وتكاثر الطحالب الضارة والتخلص من مياه الصرف الصحي غير المعالجة والنفايات في المجاري المائية؛
- بعد المصادقة على اتفاق باريس، ضمان استجابة النسخة المحدثة من المساهمات المحددة وطنيا بشكل أفضل لتأثيرات أزمة المياه على السكان المهمشين، وضرورة إنفاذ حقهم في الماء في ظلّ الآثار المتوقعة لتغيّر المناخ. يتعين أيضا ضمان احتواء المساهمات المحددة وطنيا على خطط حول كيفية مراقبة عوامل التلوّث أو تكاثر الطحالب في الماء والبيئة بشكل أوسع، وإنفاذ القوانين البيئية في قطاع المياه الخاص، ومنع الاستخدام غير القانوني للماء، مثل سحبه من الأنابيب والقنوات بطريقة غير مشروعة.
إلى جميع سلطات إنفاذ القانون
- لضمان عدم تعرض المحتجين في البصرة إلى قيود غير قانونية على حقهم في حرية التعبير والتجمع السلمي، يتعين على الأجهزة الأمنية العراقية المشارِكة في إنفاذ القانون التقيّد بشكل صارم بـ "مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية من جانب الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون"، وإجراء تحقيقات موثوقة ومحايدة وشفافة في استخدام القوة من قبل الأجهزة الأمنية في محافظة البصرة. ينبغي اتخاذ تدابير تأديبية ضدّ أعضاء الأجهزة الأمنية، بما يشمل القادة، المتورطين في استخدام القوة المفرطة أو القاتلة، أو محاكمتهم حسب الاقتضاء.
توصية إلى "الإجراءات الخاصة للأمم المتحدة"
- في ضوء دعوة العراق الدائمة إلى جميع الإجراءات المواضيعية الخاصة، يتعين على المقرر الخاص المعني بحق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي والمقرر الخاص بحقوق الإنسان في البيئة إجراء زيارات إلى العراق، بما في ذلك البصرة.
توصية إلى السلطات الإيرانية والتركية والسورية
- الحرص على ألا تتداخل مشاريع بناء السدود والمشاريع الزراعية المحلية مع التقاسم والتوزيع العادلين لموارد المياه الداخلة إلى العراق وبذل جهود لتخفيف تأثيرات خسائر المياه الناجمة عن بناء السدود والزراعة في البلدان المجاورة.
توصيات إلى الحكومات المانحة
- تقديم الدعم وتسهيل الحوارات الإقليمية الرامية إلى وضع إطار لتقاسم وتوزيع الموارد المائية على نحو عادل بين دول المنطقة؛
- مساندة الجهود الطويلة الأمد التي تبذلها الحكومة العراقية لتحسين البنية التحتية للمياه عبر تقديم الدعم التقني/المالي للوزارات العراقية المعنية؛
- العمل بشفافية، بما يشمل نشر تقارير تفصيلية حول صرف أموال المشاريع المرتبطة بقطاع المياه في العراق، وتحديد أسباب التأخير الكبرى في استكمال المشاريع علنا؛
- المساعدة في ضمان تجهيز المختبر المركزي في البصرة بالمعدات اللازمة لاختبار جميع المواد البيولوجية والكيميائية الضارة في المياه، بما يشمل المعادن الثقيلة وتكاثر الطحالب؛
- مساعدة وزارة الصحة في إنشاء منصة تقدّم معلومات للناس في حال حدوث أزمة أخرى؛
- دعم وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية لمعالجة الاحتياجات الإنسانية الفورية ومنع تفشي الأمراض المنقولة بالمياه.
توصيات إلى الوكالة اليابانية للتعاون الدولي
- نشر جدول زمني واقعي وتفصيلي لمشروع ماء البصرة الكبير والتكاليف المرتبطة به. محاسبة المقاولين بحسب هذا الجدول الزمني، ما لم تكن هناك مبررات قاهرة للتأخير؛
- إجراء تحقيق مستقل وبالشراكة مع السلطات العراقية في المزاعم الموثوقة بوجود فساد في مشروع ماء البصرة الكبير، بما يشمل التأخيرات في إنجاز المشروع وارتفاع التكاليف.
توصيات إلى الجهات الفاعلة في مجالي التنمية والعمل الإنساني
- العمل بالتنسيق مع القطاعين العام والخاص في العراق لتحسين نوعية وكمية إمدادات المياه، وتوسيع شبكة المياه لتشمل جميع سكان البصرة؛
- العمل بشفافية، بما يشمل نشر تقارير تفصيلية حول صرف أموال المشاريع، وتحديد أسباب التأخيرات الكبرى في استكمال المشاريع علنا؛
- العمل مع السلطات العامة والخاصة لضمان الحصول على مياه شرب مأمونة وميسورة التكلفة. هذا يستوجب العمل على خفض التكاليف وأسعار مياه الشرب المأمونة، لا سيما في الأحياء المهمشة، عبر الإعانات المتبادلة وغيرها من أساليب ضمان القدرة على تحمل المصاريف.
- دعم البرامج المعيشية في المناطق التي تأثرت فيها سبل المعيشة الزراعية بسبب نقص مصادر المياه البديلة، بما يتماشى مع ما يحدده الأفراد المتضررون من دعم أساسي مطلوب؛
- تزويد المزارعين بالمدخلات الزراعية، مثل البذور، والمعدات، والأسمدة، والمبيدات، والصوبات الزراعية (الدفيئات)، مع أدوات الري بالتنقيط لإنتاج الخضار، وكذلك تدريبهم على المهارات الضرورية لاستخدام المدخلات التي يتم تزويدهم بها؛
- إجراء تقييم للاحتياجات الإنسانية الحالية وتصميم تدخلات المعالجة المطلوبة، من خلال نهج البرمجة المتكاملة:
- استجابة فورية في مجالات المياه والصرف الصحي والنظافة لمنع تفشي محتمل للأمراض المنقولة بالمياه، مع إمكانية استخدام المدارس كنقطة دخول.
- برنامج فوري ومستهدف للتحويلات النقدية إلى العائلات الضعيفة لضمان حصولها على مياه مأمونة بتكلفة ميسورة، ومنع احتمال انتشار الأمراض على المدى القصير.
- عقد شراكات مع منظمات المجتمع المدني العاملة بالفعل في البصرة ودعمها، بما في ذلك عبر شراكات التمويل المباشر، لتحديد العائلات الأكثر عرضة لخطر المياه غير المأمونة والوصول إليها بشكل أفضل.
شكر وتنويه
أجرت أبحاث هذا التقرير وكتبته بلقيس والي، باحثة أولى في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. قدّم كل من جوش لايونز وكارولينا جوردا ألفاريز مساعدة في التحليلات الجغرافية المكانية.
حرّرت التقرير لما فقيه، نائبة مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. قدّم باحثو هيومن رايتس ووتش أماندا كلاسنغ، سارة سعدون، بيل فان إسفلد، إيما سينكلير ويب، تارا سبهري فر، وكاثرينا رال مراجعة متخصصة. كما قدّم جو أمون، أستاذ بقسم الصحة والوقاية المجتمعية بمعهد "دورنسيف للصحة العامة" في "جامعة دريكسيل" مراجعة متخصصة. قدّم كلايف بالداوين، مستشار قانوني أول، مراجعة قانونية، وتوم بورتيوس، نائب مدير البرامج، مراجعة برامجية.
قدمت منسقة مشاركة أولى في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (فضلت عدم الكشف عن اسمها) وديانا نعوم، منسقة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مساعدة في إنتاج التقرير ووضع اللمسات الأخيرة عليه. أعدّ التقرير للنشر كل من خوسيه مارتينيز، منسق أول، وفيتزروي هوبكنز، مدير إداري.
قدّمت المتدربتان في هيومن رايتس ووتش ليال العيسى وشرف حسين مساعدة بحثية، فضلا عن الدعم الإداري وغيره من أشكال الدعم.
شكر خاص لـ بيث هوغلاند، الاختصاصية في جيوكيمياء الماء، وإيد براون، الأستاذ الفخري بجامعة آيوا الشمالية، وللعديد من خبراء المياه العراقيين الذين تكرموا بوقتهم وخبراتهم لإنجاز هذا التقرير.