Skip to main content

بدون قواعد

المنهج الفاشل لمحاسبة المؤسسات التجارية

إن بعض أقوى وأكثر الكيانات الفاعلة على المستوى العالمي تعقيداً هي شركات، وليس حكومات. في عام 2011 وحده، كانت أرباح شركة النفط والغاز العملاقة إكسون-موبيل تبلغ 467 مليار دولار – بحجم اقتصاد النرويج كاملاً. أما شركة ولمارت، ثالث أكبر مشغل للعاملين في العالم، وفيها أكثر من 2 مليون عامل، فتحل قوة عملها في المركز التالي مباشرة بعد جيوش الولايات المتحدة والصين.

هناك مؤسسات تجارة وأعمال عالمية كثيرة تتم إدارتها مع مراعاة سلامة ومصالح من تمس هذه المؤسسات حياتهم. لكن هناك مؤسسات أخرى – سواء من واقع عدم الكفاءة أو بالتعمد – تضر كثيراً بالمجتمعات السكانية من حولها، وبالعاملين فيها، بل وحتى الحكومات التي تعمل في ظلها.

أغلب المشكلة تكمن في الشركات نفسها – حتى تلك التي ترى نفسها شركات أخلاقية. ما زالت شركات عديدة تتعامل مع مشكلات حقوق الإنسان بشكل عابر، دون التفكير كثيراً، وفي العادة في ظل فراغ تنظيمي تضغط الشركات بقوة لكي تبقيه فارغاً. في مناطق عديدة من العالم تتشكل ممارسات حقوق الإنسان الخاصة بالشركات من خلال سياسات تهيئها هي بنفسها، ومن واقع مبادرات طوعية من جانبها، و"التزامات" غير مُلزِمة، وليس بموجب قوانين وأنظمة. إن سجل التاريخ الطويل والمتزايد من كوارث حقوق الإنسان المتعلقة بالمؤسسات التجارية يُظهر إلى أي مدى يمكن أن تضل الشركات مع غياب الأنظمة الملائمة. غير أن العديد من الشركات تكافح لكي تبقى بعيدة عن أي إشراف، وكأنها تهديد وجودي الطابع.

إلا أن نصيب الأسد من مسؤولية منع انتهاكات حقوق الإنسان التي تقع بسبب الشركات والتصدي لها، يقع على كاهل الحكومات. مع استمرار الحكومات في التوسع عالمياً فإن تصرفاتها تؤثر على حقوق الإنسان الخاصة بالمزيد والمزيد من الناس بسبل مهمة للغاية. ولقد أخفقت الحكومات في مواكبة هذا التوسع.

أغلب إن لم يكن كل البلدان فيها قوانين على الورق تطالب الشركات بالالتزام بمعايير حقوق الإنسان الأساسية. وتتحمل بعض الشركات هذه المسؤوليات بشكل أكثر جدية عن حكومات أخرى، بينما هناك بعض الحكومات ضعيفة للغاية في مهمة تنظيم شؤون الشركات متعددة الجنسيات التي تدير عمليات شاسعة وبالغة التعقيد على أرضها.

إن حكومات البلدان التي تستضيف أكبر وأقوى شركات العالم – بما في ذلك الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والقوى الجديدة مثل البرازيل والصين – أخفقت على طول الخط وبدون أي مبررات في الإشراف على تصرفات هذه الشركات عندما تذهب إلى بلدان أخرى. أغلب الحكومات تقع على نقطة ما بين طرفي نقيض، وقلة من الحكومات – إن وُجدت – تفعل كل ما عليها فعله.

هذه الإخفاقات المُركّبة تؤدي إلى ضرر حقيقي ودائم بالأفراد المستضعفين في مختلف المجتمعات في شتى أنحاء العالم. في عام 2012 أظهرت هيومن رايتس ووتش كيف أن المنظمين الحكوميين في الهند وقفوا يتفرجون بينما عمليات التعدين الخارجة عن السيطرة تغذي الفساد وتضر بمجتمعات سكانية بأكملها. أما المزارعين في جوا، الذين كانوا يأملون في البداية أن يحسّن التعدين من الاقتصاد المحلي، فقد وقفوا يشاهدون التلوث يسمم المياه الجوفية ويقتل محاصيلهم. كما حققنا في كيف أبعد المنظمون الحكوميون في بنغلادش أعينهم عن صناعة دباغة الجلود الوطنية التي تُقدر قيمتها بـ 650 مليون دولار، والتي تعارض القوانين البيئية والصحية وتلك الخاصة بالسلامة، فأدت إلى تسميم وتشويه العاملين بهذه الصناعة وإلى نثر العوامل الملوثة إلى مختلف التجمعات السكانية القريبة منها. وفي قطر، وثقنا بواعث قلق ما لم تتخذ بشأنها إصلاحات فإن تحضيرات قطر الباهظة لاستضافة كأس العالم 2022 سوف تشوبها انتهاكات ضد العمال الوافدين الذين يتولون الكثير من أعمال الإنشاءات الخاصة بالملاعب والفنادق الجديدة الأنيقة وغيرها من المشروعات المرتبطة بكأس العالم.

لقد وصلنا تقريباً إلى الحد الأدنى لما يمكن إنجازه بواسطة المنهج الخالي من الإلزام المطبق حالياً فيما يخص مشكلات حقوق الإنسان المرتبطة بالشركات العالمية. حان الوقت لكي ترفع الحكومات رؤوسها المدفونة في الرمال وتنظر إلى المشكلة باهتمام وأن تقبل مسؤوليتها بالإشراف على تنظيم ممارسات حقوق الإنسان الخاصة بالشركات.

 

المبادئ التوجيهية

بصفة سنة 2012 هي السنة الأولى للمبادئ التوجيهية للأعمال التجارية وحقوق الإنسان (بدعم من الأمم المتحدة)، كان المفترض أن يشهد العام خطوة ضخمة نحو جهود للتصدي لهذه المشكلات. لكن بينما المبادئ التوجيهية أدت إلى التقدم في بعض المجالات، إلا أنها أيضاً تلقي الضوء على أوجه فشل المنهج الحالي للتعاطي مع الأعمال التجارية وقضايا حقوق الإنسان، وهو فشل سببه ضعف التحركات الحكومية والاهتمام الزائد غير المستحق بتدفق العمل التجاري.

كان المفترض أن تؤدي المبادئ التوجيهية إلى "تشغيل" إطار عمل الأمم المتحدة الخاص بـ "الحماية والاحترام والتعويض" الذي يركز على مسؤولية الحكومات في حماية الأفراد من انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بعمليات المؤسسات التجارية، ومسؤولية الشركات تجاه احترام حقوق الإنسان، والحاجة لأن يتمكن ضحايا الانتهاكات من الحصول على سبل إنصاف وتعويض فعالة.

تمثل المبادئ خطوة حقيقية للأمام من بعض الأوجه، من أسباب ذلك أنها تمثل التزاماً قوياً على الشركات التي كانت قبل عشر سنوات فقط تجادل في فكرة أن تترتب عليها مسؤوليات بمجال حقوق الإنسان. هذا الدليل المحتمل أن يكون مفيداً وعملياً للشركات التي تريد أن تتصرف بشكل مسؤول، يقربنا أكثر من أي وقت من الوصول لفهم مشترك لكيف يجب على الشركات أن تتصرف إزاء بعض مسؤولياتها الأساسية الخاصة بحقوق الإنسان على الأقل.

كما تركز المبادئ على نقطة مهمة يمكن أن تمنع الكثير من مشكلات حقوق الإنسان التي تحدث إذا تقبلت الشركات المبادئ بشكل فعال وبنية حسنة: أهمية منح الاهتمام الكافي لحقوق الإنسان. هذه هي الفكرة التي يجب أن تعمل الشركات على أن تصمم وتنفذ بفعالية سياسات وإجراءات إزائها، من أجل التعرف على أي مخاطر تؤدي إلى وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان، وأن تعمل على تفادي هذه الأضرار، وأن تضع نفسها في مركز الرد بشكل مناسب على الانتهاكات التي تقع رغم توفير الضمانات.

في العام الماضي على سبيل المثال، عثرت هيومن رايتس ووتش على أدلة بأن شركة "نيفسون ريسورسز" وهي شركة تعدين كندية، ربما تكون متواطئة في استخدام العمل الجبري – وهو محظور حظراً مطلقاً في القانون الدولي – من خلال مقاول محلي في إريتريا. كانت مشكلة يسهل التنبؤ بوجودها، فالحكومة الإريترية تستخدم وتستغل العمل الجبري على نطاق هائل وتسخر بعض المجندين في جيشها للعمل في شركات خاصة بالدولة، بما في ذلك الشركة التي استخدمتها شركة نيفسون. عادة ما يخبر المجندون أوضاعاً مزرية، ويتعرضون للحبس والتعذيب إن حاولوا الفرار من "وظائفهم". في هذه الحالة، أخفقت نيفسون في البداية في اتخاذ خطوات لمنع المقاول من استخدام العمل الجبري في موقع المشروع، وقد تخبطت جهود الشركة المتأخرة للتحقيق في هذه القضية والتصدي لها. هناك شركات أخرى تعمل في مشاريع تعدين في إريتريا تبدو الآن في خطر الوقوع في نفس الفخ. هذا نموذج واضح تمام الوضوح على كيف يمكن أن يساعد إيلاء الانتباه الكافي لحقوق الإنسان على أن تتفادى الشركات وقوع الانتهاكات.

لكن المبادئ التوجيهية ليست الدواء لكل داء. انتقدت هيومن رايتس ووتش ومنظمات أخرى المبادئ لكونها تفرض معايير أدنى من معايير حقوق الإنسان الدولية في بعض المجالات، مثل ضمان حق الضحية في الحصول على الإنصاف والتعويض والحق في المساءلة. هذه مشكلة ضخمة نظراً لأن شركات عديدة الآن ترى المبادئ – بالخطأ – بصفتها المعيار العالمي، على أنها معيار موحد من خطوة واحدة لممارسات حقوق الإنسان الجيدة. هناك خطر أن تلجأ شركات عديدة ببساطة إلى تجاهل المعايير غير الواردة في المبادئ التوجيهية.

والأهم أنه بينما توفر المبادئ بعض الإرشاد المفيد للمؤسسات التجارية المهتمة بالتصرف بشكل مسؤول، فهي أيضاً تمثل منهجاً قاصراً إلى حد مروع في مجال حقوق الإنسان والشركات. السبب أنه دون أية آلية لضمان الامتثال بالتنفيذ، فلا يمكن حقاً مطالبة الشركات بعمل أي شيء بالمرة. يمكن للشركات أن ترفض المبادئ تماماً دون أي عواقب، أو أن تعلن التزامها بها علناً بينما لا تفعل أي شيء على أرض الواقع لتطبيقها. لا تنص المبادئ صراحة على أن تنظم الحكومات الشركات بالمعدل والحزم الكافيين، كما تخفق في دفع الحكومات بالقوة الكافية لضمان احترام الشركات لحقوق الإنسان.

رغم ما تمثله المبادئ من تقدم في بعض المجالات، فإن المبادئ الحاكمة قد تساعد في حقيقة الأمر على ثبات وتجذر المنظور السائد في أوساط الشركات وحكومات عديدة، وهو مشتق من القواعد والأنظمة التي تحتاجها الشركات لصالح التزامات طوعية وغير قابلة للفرض إلى حد بعيد، والتي لا تعتبر كافية بالمرة لحماية حقوق الإنسان.

 

المبادرات الطوعية وعيوبها

شهد العقد الأخير التوسع في المبادرات الطوعية التي تجمع بين الشركات متعددة الجنسيات والفاعلين من المجتمع المدني والحكومات من أجل التصدي لاعتبارات حقوق الإنسان في الصناعات العالمية على وجه الخصوص. تهدف هذه المبادرات إلى توفير الإرشاد اللازم للشركات التي تريد أن تعمل بشكل مسؤول، بينما تسمح لهذه الشركات بأن تُظهر نفسها بصفتها مسؤولة وأخلاقية في عملها.

على سبيل المثال، فإن المبادئ الطوعية للأمن وحقوق الإنسان جمعت كبرى شركات النفط  والتعدين والغاز حول معايير تحتاجها لمنع والتصدي للانتهاكات التي ترتكبها قوات الأمن التي تحمي عملياتها. مبادرة الشركة العالمية (غلوبال نيتورك) ضمت شركات في قطاعات تقنية المعلومات والاتصالات تعهدت بتفادي التواطؤ في الرقابة أو المراقبة التي تريدها الحكومات القمعية. هناك مبادرات أخرى كثيرة تتراوح فيما بينها في القوة والفعالية.

هذه المبادرات الطوعية لها دور مهم تلعبه. ساعدت هيومن رايتس ووتش في تأسيس بعض المبادرات المذكورة أعلاه، ونعمل بشكل منتظم من خلال هذه المبادرات وغيرها لمحاولة توفير ممارسات حقوق إنسان أفضل بالنسبة للشركات.

لكنها ليست كافية.

تواجه المبادرات الطوعية جميعاً بعض أوجه القصور الخطيرة: فهي قوية بدرجة اختيار الشركات الأطراف فيها أن تجعلها قوية، ولا تنطبق على الشركات التي لا تريد الانضمام إليها. وهي في العادة مفيدة في المساعدة على تعريف ممارسات جيدة لحقوق الإنسان بالنسبة للشركات، لكن القواعد النافذة المفروضة على مختلف الأطراف هي السبيل الوحيد لضمان تغيير حقيقي ومنهجي.

إن قواعد حقوق الإنسان المُلزمة القليلة على مستوى العالم بالنسبة للشركات لها تبعات. عندما تتصدر الشركات وتتبوأ مكان الحكومات الغائبة عن المشهد، في أي دور من الأدوار، تميل الأمور لأن تنتهي بشكل خاطئ. أدت عشرات السنوات من جهود التنمية المُخفقة، أدت بشركات النفط في دلتا النيجر الغنية بالنفط في نيجيريا، إلى إثبات هذه النقطة بكل وضوح، وهي مقولة سليمة بالنسبة لسياقات أخرى عديدة.

في عام 2010 قابلنا سيدات وصفن التعرض للاغتصاب الجماعي على يد حراس الأمن في القطاع الخاص يعملون طرف شركة "باريك غولد" الكندية التي تعمل في منجم في بابوا نيو غينيا. هناك فجوات خطيرة في الإشراف تسببت في أن شركة باريك – أكبر شركة منتجة للذهب عالمياً – لم تأخذ المزاعم على محمل الجد أو هي فعلت أي شيء للتصدي لها حتى ذهبنا إلى ذلك المكان لكي نطلع على الأدلة بأنفسنا.

كانت يجب أن تكون تلك مهمة الحكومة وليست مهمتنا. لكن حكومة بابوا نيو غينيا مبتلاة بالفساد والفقر والقدرات المؤسسية المتدنية إلى حد بعيد. بدلاً من الإشراف على أنشطة شركة باريك، فقد تركت الشركة فعلياً تؤدي العمل كله بنفسها. سعت باريك بعد تلك الواقعة إلى إصلاحات تهدف إلى منع الانتهاكات في المستقبل ووعدت بتعويض الضحايا. لكن هذا لا يغير من حقيقة أن حتى الشركات المعقدة جيدة المصادر والتمويل لا يمكنها أن تسد الفجوة التي يتسبب فيها غياب الإشراف الحكومي.

لم تكن حكومة بابوا نيو غينيا هي الوحيدة التي تركت شركة باريك تفعل ما تشاء، بل أيضاً حكومة كندا، حيث يوجد المقر الرئيسي لـ باريك – ومقرات أغلب شركات التعدين والاستكشاف بصناعة التعدين في العالم. الأرجح أن لدى الحكومة الكندية خبرة واسعة في الإشراف على عمليات التعدين المعقدة أكثر من أي دولة أخرى في العالم. مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان في سياق عمليات تعدين شركات كندية تظهر إلى السطح بشكل منتظم في شتى دول العالم، لكن السلطات في أوتاوا لا تعرف كم من هذه الوقائع تتمتع بالمصداقية. في واقع الأمر، فهي ترفض بكل حزم وقوة أن تخول نفسها حق اكتشاف هذه الحقيقة.

هذا الإخفاق من قبل الحكومات ذات القدرات الواسعة في الإشراف على ممارسات حقوق الإنسان من قبل شخصياتها الاعتبارية عندما تعمل بالخارج، يمثل مشكلة تتطلب الحل سريعاً.

 

الحاجة إلى الإشراف والتنظيم خارج أراضي الدولة

أخفقت الحكومات على مستوى العالم في الإشراف على أو تنظيم ممارسات حقوق الإنسان الخاصة بالشركات الحائزة على جنسيتها خارج أراضيها. الطريق الوحيد لتحقيق التقدم هو تغيير هذه الممارسة.

تعمل الشركات متعددة الجنسيات في شتى بقاع الأرض في دول لا يمكنها أو لا تريد أن توفر إشرافاً وتنظيماً كافيين على ممارساتها الخاصة بحقوق الإنسان. هذا التوجه في تزايد لا تناقص. الدول النامية ضعيفة الإدارة مثل بابوا نيو غينيا وبنغلادش وموزمبيق وغينيا مستمرة في الترحيب باستثمارات أجنبية واسعة في صناعات قد تؤدي إلى دمار بيئي واسع وانتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان.

إن لم تكن الشركات ستخضع لإشراف فعال بمجال حقوق الإنسان من الحكومات التي تعمل فيها هذه الشركات، فلابد أن يأتي الإشراف من مكان آخر. على الأقل، لابد أن تتحمل الحكومات مسؤولية المراقبة الإيجابية لمسلك هذه الشركات عندما تعمل في دول أخرى وأن تحقق في المزاعم الموثوقة بوقوع انتهاكات لحقوق الإنسان على صلة بعمليات الشركات.

 

رغم هذا ستبقى الكثير من الأسئلة المطروحة بلا إجابة على الطاولة؛ مثل كيف يجب أن تضع وتطبق الحكومات التزامات حقوق الإنسان خارج أراضيها على الشركات. لكن على الأقل سينهي هذا الحالة الراهنة غير المبررة حيث ترفض الحكومات اكتشاف إن كانت شركاتها (شخصياتها الاعتبارية) متورطة بموجب مزاعم موثوقة في انتهاكات لحقوق الإنسان بالخارج.

 

بخلاف هذا، قالت هيومن رايتس ووتش وأطراف أخرى بأن على الحكومات أن تنظم ممارسات حقوق الإنسان الخاصة بشركاتها، بما في ذلك مطالبة الشركات بإيلاء انتباه كافي لحقوق الإنسان في أنشطتها وأن تستوفي مسؤوليات حقوق الإنسان بموجب القانون الدولي. ليست هذه سياسة مسؤولة فحسب، بل هي أيضاً مدعومة من قبل معايير القانون الدولي الجديدة.

 

في عام 2011 في اجتماع لخبراء للقانون الدولي وقانون حقوق الإنسان، تبنوا مبادئ ماستريخت للالتزامات الخارجية للدول بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. من بين أمور أخرى، تصف مبادئ ماسترخت التزام الدول بتنظيم الفاعلين من غير الدولة مثل الشركات العابرة للحدود وغيرها من المؤسسات التجارية ذات المقرات الأساسية في أراضيها أو المرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً.

 

الطريق من هنا إلى هناك واضح بالدرجة الكافية. فالسؤال الحقيقي هو إن كانت الحكومات ستجد الشجاعة الكافية لاتخاذ خطوات على الطريق الصحيح، وإن كانت المؤسسات التجارية ستقف في وجهها أو ستتصرف معها بصفتها أطرافاً شريكة لها. حتى الآن، كان أداء الطرفين مخيباً للآمال، وعانى الأفراد المستضعفون نتيجة لذلك.

 

تشتيت للانتباه

للشركات أسبابها في معارضة الإشراف بمجال حقوق الإنسان في عملياتها الخارجية أو تنظيم هذه العمليات من قبل حكوماتها الوطنية، لكن هذه الأسباب تتهاوى أمام التدقيق فيها. أحد أهم الاسباب التي يتم التذرع بها هي انتزاع المزايا التنافسية عن الشركات المنحدرة من دول فيها حكومات أقل تقدمية. لكن بصراحة، لابد ألا تستثمر الشركات في أسواق لا يمكنها التنافس فيها بفعالية دون التواطؤ في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان عليها أن تخفيها عن حكوماتها الأم وعن حَمَلَة أسهمها.

كما توجد أسباب وجيهة للنظر إلى هذه الاعتبارات بصفتها مبالغ فيها وفي تقديرها. في السنوات الأخيرة بدأت الحكومات في شتى أنحاء العالم وبشكل متزايد تصدر قوانين مشددة تجرم الفساد خارج أراضيها من قبل موظفيها وشركاتها. الفساد أصعب بالنسبة للشركات أن تنأى بنفسها عنه، عن ابتعاها عن التواطؤ في انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة. لكن بينما قوانين مكافحة الفساد الأقوى قد تجعل الشركات أكثر صدقاً والتزاماً، فلا توجد أدلة على أنها تجعلها أقل تنافسية.

وجه الخوف المشروع الوحيد لدى الشركات في حال التزامها بالخطوات المسؤولة والحازمة فيما يخص الإشراف على عملياتها في الخارج وتنظيمها، هو أن تكون الخطوات "المسؤولة" و"الحازمة" في بعض الحالات "متشددة" و"ضد مصالح الأعمال التجارية". يقلق البعض من أن هذا يفتح الباب ولو حتى بنسبة ضئيلة للغاية في وجه وضع أنظمة خانقة وتجريم الأخطاء المرتكبة عن حسن نية والتي يمكن تفسيرها.

يفاقم من هذا الشك لدى بعض قيادات المؤسسات التجارية بأن مؤسسات المجتمع المدني التي تطالب بالإشراف والتنظيم هي بطبيعتها معادية لصناعاتهم بشكل عام. هذه المخاوف مفهومة في بعض الحالات، فبينما العديد من المنظمات غير الحكومية تدفع من أجل قواعد منطقية، فهناك أيضاً نشطاء ربما لا يفضلون شيئاً أكثر من رؤية صناعة التعدين على سبيل المثال، تسقط تماماً بسبب التنظيم المفرط لها. لكن هذه الأصوات يجب ألا تُملي شروط النقاش أو تُستخدم كذريعة لتفادي وجود التنظيم.

قد لا يحدث أبداً أن تنال الشركات الإشراف والتنظيم المطلوب لها، وربما تكون صحيحة في حساباتها من منطلق مصالحها الضيقة أن يُطبق عليها هذا الإشراف والتنظيم. لكن الإشراف والتنظيم للعمليات الخارجية لممارسات حقوق الإنسان الخاصة بالشركة يمكن أن يتم بشكل يسهل للمؤسسات التجارية أن تتعايش معه وتتربح في ظله. يجب ألا تكون الإجراءات الحكومية مجهدة بشكل مبالغ فيه حتى تكون فعالة، وهناك معاناة كثيرة يمكن تفاديها بمجال حقوق الإنسان على الجانب الآخر من هذه المعادلة بما لا يبرر عدم اتخاذ أي إجراءات بالمرة.

 

خطوات أولى ونماذج مفيدة

لدينا بالفعل بعض النماذج المفيدة التي تُظهر لنا ما يمكن أن تبدو عليه التصرفات والإجراءات الحكومية المسؤولة بشأن هذه القضايا.

بموجب البند 1504 من قانون دوك فرانك للإشراف المالي، فإن جميع شركات النفط والتعدين والغاز الأمريكية مطلوب منها نشر جميع المدفوعات التي قدمتها للحكومات الأجنبية. هذا بالأساس يجعل مطلب مبادرة حملة الأسهم المسماة "مبادرة شفافية الصناعات الاستخراجية" مبادرة أساسية وملزمة.

مبادرة الشفافية هذه وُلدت من رحم فهم بأن العائدات الكبيرة للغاية للصناعات الاستخراجية أدت في أحيان كثيرة إلى زيادة معدلات الفساد والانتهاكات بدلاً من التنمية والتقدم. تحاول المبادرة مكافحة هذا الأمر بتعزيز قدر أكبر من الشفافية. البند 1504 خطوة معقولة متواضعة لكن فيها احتمالات كبيرة للسير على الطريق الصحيح.

من المدهش أن تحالفاً قوياً من المؤسسات الصناعية بقيادة معهد البترول الأمريكي رفع قضية لإفراغ هذه المبادئ من محتواها. يطالب التحالف بالحق في إخفاء مدفوعات الصناعات الاستخراجية للحكومات الأجنبية عن الجمهور وعن حملة الأسهم بالشركات. كما رفعت جماعات رعاية مصالح الشركات الاستخراجية قضايا لإعاقة تنفيذ مكون آخر مهم من قانون دود فرانك، وهو بند يطالب الشركات بضمان ألا تؤدي سلسلة الإمدادات التعدينية الخاصة بها إلى تأجيج النزاعات والانتهاكات في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

رغم حدة الاختلاف، فإن مطلب قانون دود فرانك الخاص بالشفافية يشير إلى حقيقة مثيرة للجدل لكنها مهمة: أغلب ما تحقق من خلال المبادرات الطوعية التي تهيمن على الصناعات العالمية ومشهد حقوق الإنسان كان أكثر فعالية وعدالة من خلال القوانين والأنظمة المُلزمة.

المطالب الأساسية للكثير من المبادرات الطوعية قد تُترجم إلى أنظمة واضحة وصريحة. بصفتها نماذج للتنظيم، فهذه المعايير لها ميزة أنها مقبولة بالفعل كنقاط مرجعية مشروعة لسلوك الشركات يمكن أن تلتزم بها شركات العالم الكبرى. تنفيذ هذه المعايير ثبت أيضاً أنه مجدي لدى الشركات العالمية الكبرى. كما ثبت أن تنفيذ المعايير مجدي ومفيد بالنسبة للعديد من الشركات التي التزمت بها طوعاً. بالطبع أغلب الشركات تعارض بقوة فكرة أن تتحول التزاماتها الطوعية بمجال حقوق الإنسان إلى أنظمة مُلزمة لها بمجال حقوق الإنسان.

لكن لا يعني هذا أن المعايير لا تجدي.

بالمثل، كما قالت هيومن رايتس ووتش، فإن إيلاء الانتباه لحقوق الإنسان بالشكل الكافي يعتبر أداة أقوى إذا جعلت الحكومات هذه القاعدة مُلزمة. في الآونة الأخيرة اتخذت الحكومة الأمريكية خطوة ضيقة لكنها إيجابية في هذا الاتجاه، وطالبت الشركات التي تستثمر في بورما بأن تكتب علناً عن أي أنشطة لإيلاء الانتباه لحقوق الإنسان تتولاها في جملة من القضايا تشمل حقوق الإنسان، وأن تبلغ عن أي مخاطر بمجال حقوق الإنسان أو آثار للأعمال على حقوق الإنسان، أو الجهود التي تبذلها الشركة للتخفيف من المخاطر المتعلقة بحقوق الإنسان.

لكن ثمة نموذج مفيد آخر للعمل الحكومة بهذا المجال، يكمن في الجهود الدولية لمكافحة الفساد. هناك عدد متزايد من الحكومات التي تنتقل نحو تجريم رشوة المسؤولين العامين الأجانب، بغض النظر عن أين في العالم تحدث الرشوة. في واقع الأمر فإن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد واتفاقية مكافحة الرشوة الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تتطلبان ذلك. ردت الشركات على قوانين مكافحة الرشوة بتنفيذ برامج لإيلاء الانتباه اللازم بحزم، وهو الأمر الذي لا يختلف كثيراً عن أنشطة إيلاء الانتباه الكافي بمجال حقوق الإنسان، الذي تروج له المبادئ التوجيهية.

كما ينبغي على الحكومات أن تنظر في كيف يمكنها دفع الشركات نحو ممارسات أفضل لحقوق الإنسان من خلال المؤسسات متعددة الجنسيات القائمة بالفعل، التي يجب عليها بدورها فحص كيف يمكن لها أن تساعد الحكومات على التصدي لهذه المشكلات. على سبيل المثال يمكن للحكومات أن تتعاون مع البنك الدولي على ربط أفضل للتمويل الدولي الذي تحصل عليها الشركات بكفالة ضمانات قوية لحقوق الإنسان، مع توفير رقابة مستقلة لأنشطة الشركات.

هذا من شأنه أن يدفع بالمشروعات التي يمولها البنك الدولي نحو أداء أفضل لحقوق الإنسان، ومن شأنه أيضاً أن يؤثر على جهات الإقراض الأخرى لتتخذ نفس المنهج. في عام 2012 بدأ البنك الدولي في تنفيذ معايير أداء جديدة تتجه من بعض الأوجه نحو مراعاة حقوق الإنسان في التمويل الدولي، وهي خطوة صغيرة لكنها مهمة.

هناك مؤسسات أخرى يمكنها أيضاً أن تكون أقوى أداء وأكثر فائدة. مبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الخاصة بالشركات متعددة الجنسيات فرضت معايير أساسية لأداء الشركات بمجال حقوق الإنسان، والحماية البيئية وجملة من القضايا الأخرى. وهي تطالب الدول الأطراف أيضاً بوضع "نقاط اتصال" – محافل قادرة على سماع الشكاوى بشأن أنشطة الشركات في الخارج. لكن نقاط الاتصال هذه ضعيفة بشكل عام وغير مُلزمة. في عام 2012 جددت الدنمارك نقطة الاتصال الخاصة بها لكي تسمح بإجراء تحقيقات نشطة ومستقلة فيما يخص الشركات، وهي خطوة أولى حقيقية.

أخيراً، على الحكومات أن تفحص السوابق الإيجابية التي تضعها معايير العمل الدولية بشأن هيئات التوظيف الخاصة العابرة للحدود. كما يظهر من بحوثنا في دول مثل البحرين والإمارات، فإن العديد من العمال المهاجرين يعانون من انتهاكات جسيمة بعد أن تشغلهم وكالات الاستقدام للعمل هذه والكثير من هذه الوكالات تتعمد تضليل العمال بشأن ظروف العمل المتوقعة في وظائفهم الجديدة.

على الحكومات التي صدقت على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 181 أن تتخذ خطوات لحماية ومنع الانتهاكات عن عاملات المنازل المستخدمات للعمل في الخارج من قبل وكالات استقدام للعمل في بلادهن الأصلية. هذه الاتفاقية تدعو أيضاً إلى فرض جزاءات على الوكالات التي تنخرط في انتهاكات أو ممارسات فيها تزوير وتضليل. اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 189 بشأن العمالة المنزلية فيها التزامات مماثلة لوكالات الاستقدام بالقطاع الخاص التي تستقدم عاملات المنازل، بما في ذلك أولئك اللائي يسافرن للعمل بالخارج.

 

***

 

في نهاية المطاف، فإن المطلوب هو توازن فعال يقلص من أخطار وقوع انتهاكات حقوق الإنسان مع الإقرار بواقع العالم المعقد حيث الشركات لا تسيطر دائماً بشكل كامل على بيئات عملها المحلية حيث تعمل.

الوصول لهذا التوازن يتطلب بعض المجهود من جميع الأطراف.

على الحكومات أن تحشد ما يكفي من شجاعة لجعل احترام حقوق الإنسان من قبل الشركات القوية ذات النفوذ أمراً مُلزماً لها حيث عملت وكان لها نشاط، بدلاً من أن تتعامل هذه الشركات مع فكرة احترام حقوق الإنسان كمجرد فكرة لطيفة. على نشطاء حقوق الإنسان أن يعملوا على تصميم أطر عمل تنظيمية مجدية تكون عادلة للشركات. وعلى الشركات أن ترحب – لا أن ترفض – بجهود إمدادها بالقواعد والإشراف المطلوبين لأن يكونوا فاعلين مسؤولين يحترمون حقوق الإنسان الأساسية للشعوب الذين لهم تأثير عليهم.

 

كريس ألبين لاكي هو باحث أول في قسم الأعمال التجارية وحقوق الإنسان في هيومن رايتس ووتش.