Iraq



Iraq Iraq
  

next   |  index

I. مقدمة

أقام جواد كاظم علي جنازة ولده مصطفى في 7 مايو/آيار 2003 بحي تنومة الفقير شرق البصرة. كان النعش خالياً؛ فقد كانت المرة الأخيرة التي رأى فيها جواد ولده مصطفى قبلها بأربع سنوات، في 19 مارس/آذار 1999 عندما قام أفراد الأمن العراقي وأعضاء حزب البعث بانتزاعه من سريره. كان مصطفى في التاسعة عشر من عمره وقتها؛ في السنة الأخيرة من دراسته الثانوية.

جاء القبض على مصطفى بعد ليلتين من بدء المسلمين الشيعة انتفاضة شكلت واحداً من أخطر التحديات الداخلية التي واجهت نظام صدام حسين منذ حرب الخليج عام 1991. وقتها نزل آلاف المسلمين الشيعة في كافة أنحاء العراق إلى الشوارع، وفي بعض الحالات اعتدوا على مسئولين حكوميين ومبانٍ حكومية احتجاجاً على اغتيال آية الله العظمى محمد صادق الصدر، أحد أبرز أئمة شيعة العراق. وكانت مسئولية عملاء الحكومة العراقية عن هذا الاغتيال شبه مؤكدة. ورد صدام حسين على الانتفاضة (والتي أصبحت تعرف بـ"انتفاضة الصدر") بسرعة ووحشية. فقد قامت الحكومة في الهجوم الذي تلا الانتفاضة بتنفيذ إعدامات سريعة للعشرات وإلقاء أجسادهم في قبور جماعية حفرت بتعجل. كما أخضعت الآلاف من أفراد عائلاتهم للسجن التعسفي والتعذيب، وفي حالات كثيرة قامت بتدمير منازلهم وسبل إعاشتهم. وكان مصطفى وأسرته ضمن من تمت معاقبتهم خلال هذه الحملة الانتقامية.

عاشت أسرة مصطفى أربعة أعوام دون أن تعلم بمصيره؛ لأن أحداً لم يخبرهم إن كان قد تم توجيه اتهام له أو محاكمته أو سجنه. كما أنهم لم يتلقوا إخطاراً بوفاته ولم يستقبلوا جثته. غير أنهم تلقوا معلومتين هامتين في الأيام التي تلت مباشرة قيام القوات الأمريكية والبريطانية بخلع صدام حسين في إبريل/نيسان 2003. كانت المعلومتان متضمنتان في وثيقة  عبارة عن قائمة مكتوبة بخط اليد  تم العثور عليها أثناء نهب المكاتب الحكومية عقب احتلال البصرة. وقد حصل باحثون من منظمة هيومن رايتس ووتش على أربع صفحات من هذه الوثيقة في أبريل/نيسان 2003.1 ورغم أن الوثيقة لا تحمل أية علامات رسمية إلا أن الأدلة الظرفية التي سيتم تفصيلها أدناه ترجح بقوة أنها وثيقة أصلية صادرة عن الحكومة العراقية. وتضم الصفحات الأربع من الوثيقة التي حصلت عليها منظمة هيومن رايتس ووتش 120 اسماً لرجال تم إعدامهم خلال شهور مارس/آذار وإبريل/نيسان ومايو/آيار من عام 1999 بسبب الاشتراك "بأحداث ليلة 17/18/3/1999" ــ أي انتفاضة الصدر.

 كانت المعلومة الأولى والمروعة التي احتوتها الوثيقة هي وجود اسم مصطفى ضمن أسماء من تم إعدامهم. وقد ورد اسمه في صفحة ذكرت أن تاريخ إعدامه كان 8 مايو/آيار 1999، مما قضى على الأمل الهزيل لدى أسرته بكونه مازال على قيد الحياة، وسمح لهم أن يقيموا له جنازة بعد ما يقرب من أربع سنوات بالضبط على تاريخ قتله، ورغم أن جثته لم يعثر عليها بعد.

أما ثاني المعلومات الهامة التي تضمنتها قائمة الإعدامات تلك فقد كانت إشارات تقود إلى تحديد هوية المسئولين عن قتل مصطفى وعدد كبير من الشباب. ففي حالة مصطفى تذكر الوثيقة أن إعدامه قد قام بتنفيذه "ضباط مديرية الشرطة". بينما تشير صفحات أخرى إلى أن مجموعة أخرى من الشباب تم إعدامهم على يد أقارب لمسئولين بعثيين قتلوا أثناء الانتفاضة، في حين تعرضت مجموعة ثالثة للقتل على يد قيادات بعثية من البصرة ومدينة أم المعارك المجاورة لها. ولكن الأهم من كل هذا أن الصفحتين الأوليين من الوثيقة تحملان ملاحظات تشير إلى أن الإعدامات قد تمت "بناء على أمر السيد قائد القطاع الجنوبي المحترم". وكان من يحتل هذا المنصب في ذلك الوقت هو قريب صدام حسين ومرافقة المقرب علي حسن المجيد، والشهير بـ"علي الكيماوي".

حصل المجيد على لقب "علي الكيماوي" بسبب دوره في حملة الأنفال للإبادة الجماعية بين شهري فبراير/شباط و أغسطس/آب من عام 1988، واستعماله للأسلحة الكيماوية ضد القرى الكردية في شمالي العراق بدءاً من إبريل/نيسان 1987. وقد تولى بعدها قيادة الاحتلال العراقي للكويت، كما قاد القوات التي قامت بقمع الانتفاضة الشعبية في جنوبي العراق في مارس/آذار عقب حرب الخليج عام 1991. كما لعب المجيد دوراً قيادياً في الحملة عرب الأهوال في التسعينات. وقد تميزت جميع تلك الحملات بتعرض ضحاياها للإعدامات السريعة والقبض التعسفي والاختفاء والتعذيب وغيرها من الفظائع.

واعتمدت حملة الحكومة العراقية القمعية التي تلت انتفاضة الصدر الإجراءات الوحشية وغير القانونية نفسها. فقد أظهر التحقيق الذي أجرته منظمة هيومن رايتس ووتش في البصرة عام 2003 بشكل قوي أن قوات الأمن العراقية وأعضاء حزب البعث، تحت الإشراف المباشر لعلي حسن المجيد، قد تورطت في إعدامات منهجية خارج نطاق القضاء، وحملات واسعة من القبض والاعتقال التعسفيين، والتعذيب، والعقاب الجماعي. وتشكل هذه الأفعال انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية.2

بعد ثلاثة أشهر من جنازة مصطفى، في 21 أغسطس/آب 2003، ألقت القوات الأمريكية القبض على المجيد. وفي 18 ديسمبر/كانون الأول 2004 عقد قاضي تحقيق عراقي جلسة قضائية تحضيرية قام فيها باستجوابه.3 وتشير تصريحات مسئولي الحكومة العراقية إلى أنه سيكون من أوائل المتهمين الذين ستتم محاكمتهم أمام المحكمة العراقية الخاصة.

وبالنسبة لأهالي ضحايا حملة عام 1999 فإن محاكمة المجيد ستكون على درجة من الأهمية لسببين: أولهما أن المحاكمة قد تمهد الطريق لتحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي تلك الانتهاكات الفظيعة؛ وثانيهما أن المحاكمة قد تمنح فرصة لأهالي المختفين للحصول على معلومات قد تساعدهم في تحديد مصائر أحبائهم المفقودين. فالكثير من العائلات العراقية لا زالت تفتقر إلى معلومات تقطع بكون أفرادها المختفين أحياءً أو أموات. غير أن جمع هذه المعلومات، كجزء من سير المحاكمة، يرجح أن يتم على نطاق محدود. فالمهمة الأساسية للمحاكم الجنائية هي جمع وتقديم الأدلة اللازمة لمقاضاة ناجحة. وهذه المحاكم تفتقد إلى الموارد وإلى السلطة اللازمة لمساعدة الأسر في التعرف على مفقوديها، سواء عبر اختبارات الطب الشرعي للمقابر الجماعية التي تم نبشها، أو التحقيق مع الشهود، أو فحص الوثائق الحكومية. وسيكون من الضروري إنشاء آلية أخرى للمساعدة في هذه المهام الإنسانية، بغرض مساعدة العائلات في التغلب على شعورها المستمر بالألم والفقدان.

إن منظمة هيومن رايتس ووتش تأمن لا بد أن تتم محاسبة المسئولين عن الجرائم الجماعية المرتكبة في ظل النظام البعثي في العراق، بما فيها الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.  وفي الوقت ذاته فإن المنظمة تشعر بالقلق من كون قانون المحكمة العراقية الخاصة يضم مواد من القانون العراقي تسمح بتطبيق عقوبة الإعدام على جرائم معينة. كما تشعر المنظمة بقلق مماثل لأن كلاً من القانون ومسودة قواعد الإجراءات والأدلة الخاصة بالمحكمة يتضمنان مواد متعارضة قد يتم تفسيرها بشكل ينتقص من معايير المحاكمة المنصفة. وبعد خبرة من العمل المباشر مع العديد من ضحايا الأحداث التي وقعت في البصرة عام 1999، إضافة إلى ضحايا جرائم أخرى ارتكبها مسئولون عراقيون، فإن منظمة هيومن رايتس ووتش تحث السلطات الأمريكية والعراقية على اتخاذ الخطوات الضرورية لتضمن أن المسئولين عن الفظائع التي وقعت عام 1999 سيواجهون العدالة، وليس مجرد الثأر.

ونظراً لاعتبارات أمنية فإن أسماء الشهود والضحايا الواردة في هذا التقرير قد تم تغييرها، باستثناء الحالات التي طلب فيها الشهود صراحة ذكر أسمائهم.



[1]  توجد نسخة من تلك القائمة كملحق لهذا التقرير.

[2]  وقت وقوع هذه الأحداث كانت المقاضاة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية تتم أمام المحاكم الجنائية الدولية الخاصة لكل من يوغسلافيا السابقة ورواندا. وتشمل الجرائم ضد الإنسانية أياً من الأفعال التالية حين تقع كجزء من هجوم واسع أو منهجي موجه ضد أي سكان مدنيين: القتل، والإبادة، والاسترقاق، والترحيل، والسجن، والتعذيب، والاغتصاب، والاضطهاد على أسس سياسية أو عنصرية أو دينية، إلى جانب أفعال غير إنسانية أخرى. انظر لائحة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، قرار مجلس الأمن رقم 827، وثيقة المم المتحدة رقم S/Res/827 (1993) وفقاً للتعديل (متاحة على    http://www.un.org/icty/legaldoc/index.htm )  المادة رقم 5؛ ولائحة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، قرار مجلس الأمن رقم 955، وثيقة المم المتحدة رقم S/Res/955 (1994) وفقاً للتعديل (متاحة على http://www.ictr.org/ENGLISH/basicdocs/statute.htm)، المادة رقم 3. ولا يشترط أن يكون "الهجوم" على سكان مدنيين جزءاً من صراع مسلح. انظر على سبيل المثال قضية  Prosecutor v. Akayesu، قضية رقم ICTR-96-4-T (Trial Chamber)، 2 سبتمبر/أيلول 1998، فقرة رقم 581.

[3]  سمير يعقوب، "قضاة عراقيون يستجوبون مساعدي صدام"، وكالة الأسوشيتد برس، 18 ديسمبر 2004، وجون ف. بيرنز "قاضٍ عراقي يستجوب مساعدي حسين بحضور محامين"، صحيفة نيويورك تايمز، 19 ديسمبر 2004، ص 18.


next   |  index 

February 2005