فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول


المعتقلون في غوانتانمو و المحاكم العسكرية

تحتجز الحكومة الأمريكية منذ عامين أكثر من 700 من الأفراد في قاعدة بحرية أمريكية في خليج غوانتانمو في كوبا، وكان معظمهم قد وقع في الأسر في أثناء الحرب في أفغانستان أو بعدها مباشرة. وتؤكد الولايات المتحدة أن لها صلاحية ممارسة السلطة المطلقة على مصير الأفراد المحتجزين في منطقة تسعى إدارة بوش إلى تحويلها إلى أرض مشاع غير مملوكة لأحد من الناحية القانونية.

وكان هؤلاء المعتقلون قد احتجزوا في بادئ الأمر في أقفاص مؤقتة، ثم نقلوا إلى زنزانات في مبان سابقة التجهيز، وهم الآن محتجزون في شبه عزلة عن العالم الخارجي. ففيما عدا مسؤولي الحكومة الأمريكية ومسؤولي السفارات والمسؤولين الأمنيين القادمين من بلدان هؤلاء المعتقلين، لم يسمح إلا لمنظمة الصليب الأحمر الدولية بزيارتهم، إلا أن مناهج العمل السرية التي تتبعها المنظمة تمنعها من إصدار تقارير علنية عن ظروف الاعتقال. وعلى الرغم من ذلك، فقد ذكرت المنظمة في أكتوبر/تشرين الأول أنها لاحظت وجود "تدهور مقلق في الصحة النفسية لعدد كبير" من المعتقلين يعزى إلى القلق بشأن مصيرهم في المستقبل. فقد حاول 32 معتقلا الانتحار،(32) ولم تسمح إدارة بوش لأقارب المعتقلين أو محاميهم أو منظمات حقوق الإنسان، ومن ضمنها هيومن رايتس ووتش، بزيارة القاعدة، فضلاً عن المعتقلين أنفسهم. وإذا كان مراسلو وسائل الإعلام قد سمح لهم بزيارة القاعدة للحديث مع المسؤولين، فلم يسمح لهم بالحديث مع المعتقلين، وظلوا على مبعدة منهم بحيث لم يروا إلا طيفاً ظلياً لهم تلقيها أشعة الشمس على جدران الزنزانات. ولم يتمكن المعتقلون من الاتصال بعائلاتهم إلا في أحوال متفرقة من خلال الخطابات التي تخضع للرقابة.
وتزعم إدارة بوش أن كل من أرسلوا إلى غوانتانمو هم من عتاة المقاتلين والإرهابيين، أي "أسوأهم جميعاً"؛ إلا أن بعض المسؤولين الأمريكيين قالوا للصحافة إن بعض من أرسلوا إلى غوانتانمو على الأقل كانوا على صلة واهية بالحرب الأمريكية في أفغانستان أو على الإرهاب، أو لا صلة لهم بها مطلقا. ويتضمن المعتقلون في غوانتانمو رجالا طاعنين في السن وأحداثا، منهم ثلاثة أطفال بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة من العمر محتجزون في منشآت منفصلة. وتعترف الحكومة الأمريكية بأن بعض المعتقلين في القاعدة تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والسابعة عشرة وهم محتجزون مع البالغين، دون تفسير لذلك، وترفض الكشف عن عددهم على وجه التحديد. وقد تم الإفراج عن حوالي 60 معتقلا لأن الولايات المتحدة قررت أنها لم تعد لها مصلحة في إبقائهم في الحجز.
وحسب ما تقوله إدارة بوش، فإن المعتقلين في غوانتانمو ليس لهم الحق في المثول أمام القضاء لإعادة النظر في مشروعية اعتقالهم، ولا حتى أمام محكمة عسكرية. وتصر الإدارة على أن قوانين الحرب تخول لها سلطة مطلقة لمواصلة احتجاز المقاتلين ما دامت الحرب مستمرة، وتقول الإدارة إن "الحرب" المعنية هي الحرب على الإرهاب، لا الصراع الدولي المسلح في أفغانستان الذي انتهى منذ وقت طويل، والذي أسر خلاله معظم المعتقلين في غوانتانمو.(33)

وقد تجاهلت إدارة بوش اتفاقيات جنيف والممارسات العسكرية الأمريكية القائمة من وقت طويل، والتي تقضي بضرورة معاملة المقاتلين الأسرى كأسرى حرب ما لم تقرر "محكمة مختصة" خلاف ذلك. ولكن بدلا من الفصل في هذا الأمر على نحو فردي من خلال مثل هذه المحاكمات العسكرية حسب مقتضيات اتفاقيات جنيف، فقد عقدت إدارة بوش النية الشاملة على عدم السماح لأي شخص قبض عليه في أفغانستان بالتمتع بوضع أسير الحرب؛ ومن ثم فإن الولايات المتحدة تحتجز على نحو غير مقبول، وبلا تهمة أو محاكمة، جنود طالبان، ومدنيين سيئي الحظ أُلقي القبض عليهم عن طريق الخطأ، إلى جانب أشخاص يُشتبه في ضلوعهم في أعمال إرهابية، اعتُقلوا خارج أفغانستان ومن الواجب تقديمهم للمحاكمة أمام محاكم مدنية.

وفي إطار عزمها على أن تشق لنفسها في العالم موقعاً لا تصل إليه يد القانون، تجاهلت إدارة بوش مرارا الاحتجاجات الصادرة من حكومات المعتقلين والمؤسسات الحكومية، مثل لجنة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان، والمقرر الخاص التابع للأمم المتحدة المعني باستقلال القضاة والمحامين، ومجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة المعنية بالاعتقال التعسفي، ومفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. وبدون أن تقدم الحكومة الأمريكية حجة مفصلة توضح مشروعية إجراءاتها في ظل قوانين الحرب أو قانون حقوق الإنسان الدولي، اكتفت الحكومة بالإصرار على أن الأمن القومي يسمح لها بسجن المعتقلين في غوانتانمو إلى أجل غير مسمى بدون توجيه اتهام أو بدون مراجعة قضائية.

وقد تمكنت الحكومة الأمريكية حتى الآن من الحيلولة دون الإشراف القضائي على حالات الاعتقال في غوانتانمو. ففي اثنتين من الحالات اتفقت المحاكم الفيدرالية على مستوى المقاطعات ومحاكم الاستئناف مع وزارة العدل على أنها ليس من اختصاصها النظر في التماسات إعادة النظر في قانونية الاعتقال لأن المعتقلين محتجزون خارج الأراضي الخاضعة لسيادة الولايات المتحدة.(34) إلا أن الحكم بعدم اختصاص المحاكم يستند إلى اعتقاد قانوني خاطئ مؤداه أن غوانتانمو لا تزال خاضعة للسلطة القانونية الكوبية؛ فالولايات المتحدة لديها عقد دائم للانتفاع بالأراضي التي تحتلها في كوبا، يخولها السلطة والسيطرة التامة على القاعدة ما لم يتفق البلدان على إلغاء هذا التعاقد.

وفي ظل القانون الدولي تعتبر الدولة مسؤولة قانونا عن حقوق الإنسان الخاصة بالأشخاص الموجودين في كل الأراضي التي تمارس عليها "السيطرة الفعلية". والمعروف أن حماية الحقوق تتطلب تمكين كل الأشخاص الذين انتهكت حقوقهم من الحصول على التعويض والإنصاف الفعلي، بما في ذلك الاحتكام إلى سلطة مناسبة ومختصة تابعة للدولة؛(35) وهذا ما يزيد من القلق والمخاوف التي تثيرها جهود إدارة بوش للحيلولة دون المراجعة القضائية أمام المحاكم الأمريكية ومنع الصحافة والعامة من الرقابة؛ فلا يجوز أن تقيم أي حكومة سجنا تمارس على نزلائه سلطة مطلقة جامحة بلا ضوابط.

وفي الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2003، قررت المحكمة العليا مراجعة أحكام المحاكم الأدنى منها التي تقضي بعدم اختصاصها بنظر الالتماسات التي قدمها المعتقلون إليها لإعادة النظر في قانونية اعتقالهم. وكان عدد من جماعات أسرى الحرب الأمريكيين السابقين والدبلوماسيين والقضاة الفيدراليين وضباط الجيش والمنظمات غير الحكومية، بل وفريد كورماتسو وهو مواطن أمريكي ياباني الأصل احتُجز في الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية، قد قدموا للمحكمة مذكرات تتضمن معلومات وآراء استرشادية، وذلك بصفتهم مشاورين وليسوا خصوماً في الدعوى. وإلى أن تصدر المحكمة حكمها في يونيو/حزيران أو يوليو/تموز 2004، فسيظل المعتقلون في وضع قانوني مبهم، لا يجدون محكمة يلتجئون إليها للطعن في مشروعية اعتقالهم.

لا غنى عن المحاكمات العادلة أمام محاكم محايدة ومستقلة لإقامة العدل، كما ينص على ذلك قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. إلا أن الحكومة الأمريكية تخطط لمحاكمة بعض الأشخاص على الأقل من بين المتهمين بالتورط في الإرهاب أمام لجان عسكرية خاصة يُخشى أن تضرب بمعايير العدالة عرض الحائط.

وكان الرئيس بوش في نوفمبر/تشرين الثاني 2001 قد منح تفويضا لهذه اللجان لمحاكمة المشتبه في ضلوعهم في الإرهاب من المواطنين غير الأمريكيين، ومن المتوقع أن تراعي هذه اللجان ضمانات إجرائية معينة، مثل افتراض البراءة، وعقد جلسات علنية مفتوحة للعامة، والحق في توكيل محام للدفاع والحق في استجواب الشهود. إلا أن ضمانات استيفاء معايير العدالة والإنصاف في الإجراءات القضائية لن تكون ذات معنى إلا إذا كانت الإجراءات في مجملها تحمى الحقوق الأساسية للمتهم، وهنا نجد أن لوائح البنتاغون الخاصة باللجان العسكرية تكشف عن فشل ذريع في هذا الصدد.
ولعل أشد بواعث القلق في هذا الصدد هو عدم وجود أي مراجعة قضائية مستقلة لقرارات هذه اللجان، بما في ذلك أحكامها النهائية. فأي مراجعة تتم من خلال السلطة التنفيذية، الأمر الذي يعني أن إدارة بوش في واقع الحال تقوم بدور النيابة والقضاة والمحلفين، وربما الجلاد أيضا في حال تطبيق عقوبة الإعدام. ولا يوجد حق في الاستئناف أمام محكمة مدنية مستقلة ومحايدة، على العكس من الحق الذي يكفله نظام القضاء العسكري الأمريكي في الاستئناف ضد حكم المحاكم العسكرية أمام محكمة استئناف مدنية، ثم أمام المحكمة العليا في آخر الأمر. كما تثور الشبهات حول عدالة وقائع المحاكمات لأن قرارات حظر النشر التي أصدرها البنتاغون لمنع محامي الدفاع من الإدلاء بأي تصريحات علنية عن وقائع المحاكمات بدون إذن عسكري مسبق، بل ومن إثارة أي مسائل تختص بسلامة الإجراءات ولا تتعلق بدواعي القلق الأمنية، ومن التعليق بأي حال من الأحوال على أي شيء يتعلق بالجلسات المغلقة من المحاكمات.

كما أن هذه اللجان العسكرية تفتئت عل حق المتهمين في الاستعانة بمحامين، إذ يتعين عليهم عند مثولهم أمامها توكيل محامي دفاع عسكري، على الرغم من أنهم قد يوكلون أيضا محامين مدنيين على نفقتهم. وتسمح لوائح اللجان العسكرية للمسؤولين الأمريكيين بمراقبة المحادثات التي تدور بين المحامي وموكله لدواع أمنية أو استخبارية، الأمر الذي يقوض ميزة سرية العلاقة بين المحامي والموكل، التي تشجع الموكل على التعبير الصريح عما يجول في نفسه إلى المحامي في سياق الإعداد للدفاع.

وتدعو لوائح هذه اللجان العسكرية إلى فتح وقائع الجلسات كما هو مفترض، لكن المحاكم تتمتع بهامش كبير من الحرية في إغلاق الجلسات حسبما ترى. ويمكن لرئيس الجلسة أن يقرر إغلاق جانب منها أو كل وقائعها في حالة التعامل مع معلومات سرية، ومنع المحامين المدنيين من الحصول على المعلومات المحمية مهما كانت أهميتها لقضية المتهم، حتى ولو حصلوا على التصريح الأمني اللازم. وهذا ما يضع المتهم ومحاميه المدني في موقف لا يحسدان عليه حيث يصبحان مضطرين إلى إعداد الدفاع ضد أدلة سرية لم يطلعا عليها.

وفي يوليو/تموز 2003، قالت إدارة بوش إن ستة من المعتقلين في غوانتانمو مؤهلين لمحاكمتهم أمام لجنة عسكرية. ثم جمدت الحكومة الأمريكية إجراءات المحاكمة في ثلاث من هذه الحالات، تضم مواطنيْن بريطانييْن ومواطنا أستراليا، استجابة لبواعث القلق التي أثارتها الحكومتان البريطانية والأسترالية بشأن استيفاء معايير العدالة القضائية أمام اللجان العسكرية. وتم التوصل إلى قرارات تقضي بألا تفرض الولايات المتحدة على هؤلاء الثلاثة عقوبة الإعدام، أو التصنت على محادثاتهم مع محامي الدفاع، إلا أن الحكومة ما زالت تتفاوض حول مسائل أخرى في هذا الصدد، ولا توجد أية مؤشرات حتى الآن تبين أن المفاوضات الثنائية تعالج أوجه القصور الموجودة مثل عدم وجود مراجعة استئنافية مستقلة. كما أن إدارة بوش لم تنوه بأن أي تعديلات في الإجراءات الخاصة بالمعتقلين البريطانيين أو المعتقل الأسترالي سوف تطبق على كل المعتقلين في غوانتانمو بغض النظر عن جنسياتهم. وهكذا فإن هذه المفاوضات تثير احتمال تلقي بعض المعتقلين محاكمة أكثر عدلاً بعض الشيء، بينما يظل الباقون خاضعين لإجراءات تتراجع فيها العدالة أمام اعتبارات الملائمة والمصلحة.