فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول


الاحتجاز التعسفي لمخالفي قوانين الهجرة

في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول مباشرة ألقى وزير العدل الأمريكي جون أشكروفت خطابا قال فيه "ليحذر الإرهابيون بيننا، فلو بقيتم بعد انتهاء تأشيراتكم ولو ليوم واحد فسنلقي القبض عليكم. ولو خالفتم القوانين المحلية فسنضعكم في السجون ونبقيكم رهن الاعتقال لأطول مدة ممكنة".(5) وقد نفذ وزير العدل تهديده، مستخدما شتى الأساليب والحيل لاعتقال أكثر من 1200 من غير المواطنين في غضون بضعة أشهر. ولا ندري كم من الإرهابيين كانوا فعلا بين هؤلاء المعتقلين - لو كان فيهم أي إرهابيين أصلا. ولم توجه اتهامات متعلقة بالإرهاب إلا لقلة منهم؛ لكننا نعرف أن حملة الاعتقالات العشوائية التي ألقت بها الحكومة عربا ومسلمين في الحجز أدت إلى وقوع مئات من الاعتقالات التي لم تخضع لمراجعة فعالة أو لطعن فعال بسبب إضعاف السلطة التنفيذية للضوابط المعتادة في نظام الهجرة بخصوص الحماية من الاعتقال التعسفي، أو تجاهلها لهذه الضوابط.

إن الحق في الحرية يحد من قدرة الحكومة على احتجاز الأفراد لأغراض متعلقة بتنفيذ القانون - بما في ذلك حماية الأمن القومي. وإذا لم يكن هذا الحق حقا مطلقا، فإنه يُنتهك بسبب عمليات الاحتجاز التعسفي، أي الاحتجاز المنافي للإجراءات التي ينص عليها القانون، أو الذي يبدو من الجلي أنه غير متناسب مع الخطر أو جائر أو لا يمكن التنبؤ بوقوعه أو يتسم بالشطط. ويلاحظ أن القانون الدولي والقانون الأمريكي الدستوري ينصان على ضمانات عديدة لحماية الأفراد من الاحتجاز التعسفي، بما في ذلك التزام السلطات بإخطار المحتجزين فورا بالتهم المنسوبة إليهم، والالتزام بالسماح بالإفراج بكفالة عن المحتجزين ريثما يتم الانتهاء من الإجراءات القانونية في حالة عدم وجود أسباب قوية تحول دون الإفراج، كأن يكون الفرد مصدر خطر على المجتمع أو في حالة احتمال فراره، والالتزام بتهيئة الفرص الفعلية للمحتجز للمثول أمام محكمة للنظر في قانونية اعتقاله. أما في حالة المئات الذي اعتقلوا بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة، فقد اختارت الحكومة تجاهل هذه الضمانات أو إضعافها سواء في سياستها أم في ممارستها الفعلية.

وقد سلكت الإدارة الأمريكية هذا المسلك لأن إحدى استراتيجياتها الداخلية الرئيسية بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تقضي باحتجاز أي شخص تظن أنه ربما يكون على صلة ما بأنشطة إرهابية ماضية أو مستقبلية، وحبسه ريثما يتم استكمال التحريات حول هذه الصلات المحتملة مهما استغرق ذلك من زمن. والمعروف أن القانون الجنائي الأمريكي يحظر الاعتقال لمجرد التحقيق، أي لتحديد ما إذا كان الفرد المعتقل يعرف أي شيء عن أنشطة إجرامية أو ما إذا كان ضالعا فيها. كما يحظر القانون الاعتقالات "الوقائية" والحبس الذي يقصد به الحيلولة دون وقوع جرائم في المستقبل. إذ يجب أن يكون الاعتقال قائما على وجود سبب محتمل للاعتقاد بأن المشتبه فيه قد ارتكب جرما أو حاول ارتكابه أو تآمر على ارتكابه. وهنا يكون القضاة، لا السلطة التنفيذية، هم أصحاب القول الفصل فيما إذا كان هذا السبب المحتمل قائما أم لا، استنادا إلى الأدلة المتوافرة أمامهم. إلا أن إدارة بوش تجنبت هذه الضوابط القضائية الموضوعة لتلافي الاعتقال الوقائي أو لغرض التحقيق عندما لجأت إلى القبض على أشخاص لمخالفتهم قوانين الهجرة واستخدمت أوامر إحضار "الشهود الرئيسيين". وفي الوقت نفسه تفادت إدارة بوش تمكين المعتقلين من الانتفاع بضمانات الحماية من الاعتقال التعسفي، ومنها المراجعة القضائية الجادة، أو قلصت من هذه الإمكانية.

وعقب الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بدأت وزارة العدل الأمريكية في عملية استجواب عشوائية خضع لها الآلاف من غير المواطنين، معظمهم من الذكور المسلمين المولودين في بلدان أخرى غير الولايات المتحدة، الذين اعتقدت الإدارة أو ظنت أنهم قد يعرفون معلومات عن أنشطة إرهابية أو قد يكونون على صلة بها. وبعد ذلك ألقي القبض على ما لا يقل عن 1200 من غير المواطنين الأمريكيين وسجنوا، واتهم 752 شخصا منهم بمخالفة قوانين الهجرة.(6) وافتُرض أن هؤلاء المعتقلين ذوي "الأهمية الخاصة" المخالفين لقوانين الهجرة مذنبون لوجود صلات تربطهم بالإرهاب؛ فحبسوا شهورا حتى "أبرأتهم" الحكومة من هذه الصلات. وبحلول فبراير/شباط 2002، اعترفت وزارة العدل بأن معظم المعتقلين ذوي "الأهمية الخاصة" أصلا لم تعد لهم أهمية في سياق جهود مكافحة الإرهاب، ولم يصدر قرار اتهام ضد أي منهم بخصوص جرائم متعلقة بهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وتم ترحيل معظمهم لمخالفتهم ضوابط التأشيرات.

وفي واقع الحال أن وزارة العدل استخدمت إجراءات إدارية في ظل قانون الهجرة كتفويض يخول لها اعتقال المشتبه في صلتهم بالإرهاب واستجوابهم بدون منحهم الحقوق والضمانات التي يكفلها النظام الجنائي في الولايات المتحدة. وتعتبر الضمانات المكفولة للمعتقلين بشأن مخالفة قوانين الهجرة قليلة جدا بالمقارنة بالمشتبه فيهم جنائيا، وقد عملت إدارة بوش على إضعاف الضمانات الموجودة في هذا الصدد. ولذلك وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش وغيرها من المنظمات العديد من نماذج استهانة الإدارة بحقوق هؤلاء المعتقلين ذوي الأهمية الخاصة.(7) وفي يونيو/حزيران 2003، أصدر مكتب المفتش العام بوزارة العدل تقريرا شاملا عن معاملة معتقلي الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، أكد على وجود نمط من الانتهاكات والتأخير في حالة "المعتقلين الذين حرموا من الكفالة المالية ومن فرصة مغادرة البلاد... فأدى ذلك إلى استمرار احتجاز العديد من المعتقلين في ظروف سجن قاسية".(8)

فعلى سبيل المثال، ليس للمعتقلين لمخالفتهم قوانين الهجرة الحق في تعيين محام لهم من قبل المحكمة على العكس من المشتبه فيهم جنائيا، على الرغم من أن لهؤلاء المعتقلين الحق في طلب توكيل محام خاص على نفقتهم. ولكن في حالة معتقلي الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وضع المسؤولون الحكوميون عراقيل عديدة في طريق توكيل المحامين،(9) فلم يخطر المسؤولون المعتقلين بحقهم في توكيل محام في بعض الحالات، أو ثنوهم عن ممارسة هذا الحق في حالات أخرى. ولم تخطر إدارة الهجرة والجنسية، التابعة لوزارة العدل،(10) المحامين بالمكان المحبوس فيه موكلوهم أو بميعاد الجلسات. وسمح للمعتقلين في بعض المنشآت بمكالمة تليفونية واحدة فقط أسبوعيا، حتى ولو كان الغرض منها البحث عن محام أو التحدث معه، وفي حالة عدم إتمام المكالمة كانت تحسب على الطالب المرة الأسبوعية المسموح بها له. وهكذا نظرا لعدم إمكانية الاتصال الفوري بالمحامين لم يتمكن هؤلاء المعتقلون ذوو "الأهمية الخاصة" من الاعتراض على ما تعرضوا له من مخالفات لقوانين الهجرة، مثل احتجازهم لمدة أسابيع بدون اتهام ( فقد احتجز بعضهم لمدد تصل إلى أشهر قبل توجيه التهمة إليهم). ولم تكشف الحكومة مطلقا عن الصلات المزعومة بالإرهاب التي دعت إلى إلقاء القبض عليهم، الأمر الذي جعلهم غير قادرين على إثبات براءتهم. كما استغلت الحكومة عدم وجود المحامين لإجراء استجوابات تستخدم عادة في التعامل مع الأمور الجنائية والأمور المتعلقة بالهجرة (ويلاحظ أن القانون الجنائي ينص على أن للمشتبه فيهم الحق في حضور محام عنهم في أثناء التحقيق معهم في أثناء الحبس، بما في ذلك الحق في توكيل محام عنهم بالمجان في حالة الضرورة).

وفي معظم الجلسات الخاصة بالهجرة ومخالفة غير المواطنين قواعد الهجرة والتأشيرات تكون مدة الاحتجاز قصيرة، فتعقد لهم جلسة محاكمة بكفالة سريعة نسبيا بعد توجيه الاتهام إليهم، وإذا لم يكن هناك سبب يدعو للاعتقاد بأن المعتقل يمثل خطرا على المجتمع أو أنه سيلوذ بالفرار، فيجب على قضاة الهجرة السماح بالإفراج عنه بكفالة. ولكن في حالة المعتقلين ذوي "الأهمية الخاصة" اتبعت وزارة العدل عدة سياسات وممارسات لضمان حرمانهم من الإفراج إلى أن يتم إبراؤهم من وجود صلات تربطهم بالإرهاب. فعلى سبيل المثال، لا يستطيع القضاة المختصون بإجراءات الهجرة والجنسية القيام على نحو تلقائي بمراجعة ما إذا كان هناك سبب محتمل للاعتقال، لأن الجلسات لا يتحدد ميعادها إلا بعد توجيه الاتهام. ونظرا لتأخر الحكومة في توجيه الاتهام أسابيع، وأحيانا شهورا في بعض الحالات، فقد حدث تأخر شديد في واقع الحال في المراجعة القضائية للاعتقال. وفضلا عن ذلك، فقد حثت الحكومة قضاة الهجرة على فرض كفالات باهظة بدرجة غير معقولة بحيث يستحيل على المعتقل دفعها، أو حثتهم على حرمان المعتقل من الكفالة نهائيا، بدعوى أن المعتقل يجب أن يظل في الحبس حتى تتمكن الحكومة من استبعاد احتمال صلته بهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول أو علمه بها.

كما وضعت إدارة الهجرة والجنسية قاعدة جديدة تسمح لها بإبقاء المعتقل محبوسا إذا كانت كفالته الأولية أكثر من عشرة آلاف دولار، حتى ولو أمر قاض من قضاة الهجرة بالإفراج عنه. ولما كانت إدارة الهجرة والجنسية هي التي تحدد مقدار الكفالة الأولية، فقد أعطت هذه القاعدة لوزارة العدل أداة لضمان إبقاء المعتقلين في الحبس. وبالإضافة إلى ذلك، كانت هناك بعض الحالات التي رفضت فيها وزارة العدل الإفراج عن معتقلين من ذوي الأهمية الخاصة حتى لو أمر قاض بالإفراج عنهم لأن المعتقل لم يكن قد "أبرئ" بعد من احتمال وجود صلات تربطه بالإرهاب. بل إن إدارة الهجرة والجنسية ظلت تحتجز بعض المعتقلين حتى بعد صدور الأمر بترحيلهم بسبب عدم "إبرائهم"، على الرغم من أن إدارة الهجرة والجنسية عليها إبعاد غير المواطنين على وجه السرعة، وعلى أي حال في غضون 90 يوما من صدور أمر الترحيل حسبما تقضي اللوائح المعمول بها. وموجز القول إن إجراءات الهجرة التي خضع لها المعتقلون ذوو الأهمية الخاصة، سواء من خلال هذه الآليات أو غيرها، تجُبّ في واقع الأمر مبدأ افتراض البراءة - فقد ظل المعتقلون من غير المواطنين بسبب مخالفة قانون الهجرة في السجن حتى انتهت الحكومة إلى أنهم ليست لهم صلة بالأنشطة الإرهابية الإجرامية. ونتيجة لذلك، ظل المعتقلون ذوو الأهمية الخاصة محتجزين لمدة متوسطها 80 يوما، وفي بعد الحالات بلغت هذه المدة ثمانية أشهر، وهم ينتظرون أن يبرئهم مكتب التحقيقات الفيدرالية من وجود صلة تربطهم بالإرهاب.
وقد طال التأخير الشديد غير المواطنين الذين قبض عليهم بالصدفة مكتب التحقيقات الفيدرالية أو إدارة الهجرة والجنسية إلى جانب أولئك الذين كان لدى الحكومة فعلا سبب للاعتقاد بأنهم على صلة بالإرهاب. فما أن يوصف شخص بأنه ذو "أهمية خاصة" حتى لا نجد أي إجراءات متوافرة للإسراع في التعامل مع من لا ينطبق عليهم هذا الوصف. وكما أشار مكتب المفتش العام، فإن التحقيقات المطولة "لها عواقب هائلة"؛ لأن المعتقلين "يقاسون" عناء السجن وهم ينتظرون إبراء أسمائهم.(11)

وعلى الرغم من النقد اللاذع الذي وجهه المفتش العام لأسلوب الحكومة في معاملة المعتقلين، فلم تتراجع وزارة العدل، وأصدرت بيانا علنيا قالت فيه "إنها لا تقدم أي اعتذار عن تلمس كل السبل القانونية الممكنة لحماية الشعب الأمريكي من التعرض للمزيد من الهجمات الإرهابية... فالنتيجة قد تكون مسألة حياة أو موت".(12) ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2003، لم تعتمد السلطة التنفيذية إلا توصيتين من توصيات المفتش العام الإحدى والعشرين المعدة للحيلولة دون تكرر المشاكل المسجلة.