VII. تعزيز حالة الإفلات من العقاب

ثمة خطواتٌ فورية يمكن للحكومة السودانية القيام بها لإشاعة بعض الراحة لدى ملايين المدنيين المشردين أو المتضررين بفعل النزاع في دارفور، ولمنع وقوع مزيدٍ من الانتهاكات، ولبدء عملية الرجوع عن "التطهير العرقي". ومن هذه الخطوات إقرار الحكومة السودانية بأن الميليشيات وقوات الأمن ارتكبت الفظائع في دارفور، وبدء نزع سلاح الجانجاويد، وتعليق عمل المسئولين الحكوميين المشتبه في أنهم مجرمي حرب بانتظار التحقيق معهم، وفصل عناصر الشرطة والأمن الذين ارتكبوا جرائم، وتوفير الأمن الحقيقي للمدنيين في دارفور وخاصةً على الطرق وفي المدن، وإنهاء الممارسات التمييزية التي تستهدف بعض الجماعات الإثنية بما في ذلك الاعتقال والاحتجاز التعسفيين.

لكن الحكومة السودانية لم تظهر إلى اليوم أي استعداد للقيام بأية خطوةٍ مما سبق. وعلى الرغم من كثرة المعلومات التي تؤكد قيام الحكومة السودانية بتخطيط وتنسيق وتنفيذ حملة التطهير العرقي التي أفضت إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور، لم يجر تحقيق أو اتخاذ تدابير تأديبية أو ملاحقة قضائية بحق أي مسئول مدني أو ضابط عسكري من ذوي الرتب المتوسطة أو العالية.

وفي أواسط 2004، بدأت الحكومة السودانية تحقيقاً داخلياً وأقامت ثلاث لجان مختصة على الأقل مهمتها التصرف إزاء ما يُثار من مزاعم، وأقامت محكمةً جديدة للتحقيق مع مرتكبي جرائم دارفور ومحاكمتهم. لكن الحصيلة حتى يومنا هذا لا تكاد تتجاوز المساعي الظاهرية الهادفة إلى الإيحاء بأن الحكومة تفعل شيئاً ما استجابةً للمطالبات الدولية. لكن أياً من هذه المبادرات لم يكشف عن إرادةٍ أو محاولةٍ حقيقية للمحاسبة على الجرائم في دارفور وتوفير العدالة للضحايا.

عدم نزع سلاح الجانجاويد

كان ضابطان يجلسان على الكراسي ويأمران 11 جندياً بإعطاء الأسلحة إلى الجانجاويد. وكانت لديهم قوائم بأسماء عناصر الجانجاويد. وكانوا يسجلون الرقم المتسلسل لقطعة السلاح بجانب اسم عنصر الجانجاويد الذي يستلمها. ودامت العملية زمناً طويلاً جداً من السابعة صباحاً حتى الثامنة مساءً.

- جندي أسير كان يخدم في قبقابية.166

كانت القوات المسلحة السودانية تقدم الأسلحة والذخيرة والملابس العسكرية وأجهزة الاتصالات والسيارات وغير ذلك إلى ميليشيا الجانجاويد العاملة ضمن قوات الدفاع الشعبية، إضافةً إلى الميليشيات الإثنية ذات الصلة الأقل إحكاماً بالقوات المسلحة. ولم يكن توزيع السلاح عشوائياً، بل كان منظماً وكان يجري تسجيل تلك الأسلحة. وكان أفراد قوات الدفاع الشعبية والميلشيات الأخرى يستلمون بطاقاتٍ شخصية وأرقاماً. وقد حصلت هيومن رايتس ووتش على نسخٍ من قوائم تسجيل الأسلحة ومن تلك البطاقات الشخصية التي أصدرت من أجل عناصر الميلشيات في قوات الدفاع الشعبية.

ورغم احتمال فقدان الحكومة السودانية السيطرة الكاملة على عناصر الميليشيا الذين جندتهم ومولتهم وسلحتهم ونسقت عملهم، فالحقيقة أنها لم تحاول ممارسة تلك السيطرة قط. لكن حالة "انعدام السيطرة" توفر للحكومة إمكانية الإنكار التي تعتقد أنها تفيدها في مواجهة الاحتجاجات الدولية إزاء اتساع نطاق القتل والتدمير والتشريد في دارفور؛ وهي عين الاستراتيجية التي اعتمدها الحكومة مع الميليشيات الإثنية في جنوب السودان. إن حالة "انعدام السيطرة" تتطور منذ بعض الوقت: فعوضاً عن القيام بخطوات لتقليل الدعم المقدم إلى الميليشيات، فإن الحكومة السودانية توسع دائرة مجموعات الميليشيا التي تقدم لها دعماً كاملاً أو جزئياً منذ أواسط 2004 (أي بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الإنساني في نجامينا). وفي وقتٍ كانت الحكومة تبذل فيه وعوداً كثيرة بنزع سلاح الميليشيا ولجمها، أقدم عددٌ من كبار المسئولين الأمنيين السودانيين في مايو/أيار وفي أوائل يونيو/حزيران 2004 على استدعاء عدد من قادة الميليشيا إلى الخرطوم ومنحوهم دفعاتٍ جديدة من الإمدادات.167

ويقال أن واحداً من قادة الميليشيا يعرف باسم "أبو العشرين"، وهو من أتباع موسى هلال، أمضى في أواخر شهر مايو/أيار عدة أسابيع في الخرطوم وكانت له اتصالاتٌ وثيقة مع العميد هادي آدم حامد من المخابرات العسكرية، وهو مقربٌ من مدير الأمن العام الفريق صلاح عبد الله غوش. ويقال أن "أبو العشرين" استلم من الخرطوم أسلحةً وأدويةً وملابس عسكرية وإمدادات أخرى، ثم أعيد إلى الفاشر بطائرة أنتونوف في الأسبوع الأول من شهر يونيو/حزيران.168 وفي نفس الشهر، أفادت الأنباء أن الأمر عينه تكرر مع زعيمٍ قبليٍّ آخر من جنوب دارفور.169

وقد واظب الجيش السوداني على تزويد معسكرات الميليشيا في ولايات دارفور الثلاث بالرواتب الشهرية والأسلحة والذخائر والطعام. فعلى سبيل المثال، أشار عنصر سابق في الميليشيات كانت مقيماً في معسكر المسترية إلى أن حوامةً كانت تأتي ثلاث مرات أسبوعياً حاملة الرسائل والذخائر والأطعمة.170

لم تقم الحكومة السودانية بأي مسعى جدي لنزع سلاح الجانجاويد؛ بل قامت ببساطةٍ بضم كثير من الجانجاويد إلى وحداتٍ مختلفة من الأجهزة الأمنية. ففي الفاشر مثلاً، جرى امتصاص كثير من عناصر الجانجاويد في قوات الشرطة الاحتياطية المركزية بعد تدريبهم في الخرطوم.171 وهذا ما أدى إلى نشوء مشكلات داخل الأجهزة الأمنية إضافةً إلى تواصل العنف ضد المدنيين؛ وهو العنف الذي كان يأتي مباشرةً من الشرطة "الجديدة" في بعض الحالات. كما جرى ضم معظم من جندهم موسى هلال في المسترية إلى جماعاتٍ شبه عسكرية مختلفة في أواخر 2004، وذلك بعد حواراتٍ بين هلال واللواء عبد الواحد بشأن الكيفية المثلى لتوزيع بطاقات هوية عسكرية على هؤلاء الأشخاص.172

قامت الحكومة السودانية بعددٍ من العمليات التي جرى فيها نزعٌ ظاهري لأسلحة أشخاصٍ زُعم أنهم من الجانجاويد. لكن هذه العمليات التي جرت في جنينة وكاس عام 2004 لم تكن أكثر من دعايةً موجهةً إلى المجتمع الدولي. وفي واحدةٍ من هذه العمليات على سبيل المثال، جرت دعوة المراقبين العسكريين الأفارقة لمراقبة جمع عدة مئات من قطع الأسلحة من عناصر الميليشيات. ويقول عنصرٌ سابق في بعثة الاتحاد الأفريقي قابلته هيومن رايتس ووتش أن أرقام تلك القطع كانت متسلسلةً تماماً مما يشير إلى أنها خرجت من المستودعات لتوها من أجل تنفيذ ذلك العرض.173

وبمعزلٍ عن محاولة نزع سلاح الجانجاويد بالقوة (وهذا ما قد يكون صعباً الآن)، تتوفر أمام الحكومة خياراتٌ أخرى لضبط تلك الميليشيات ونزع سلاحها، لكنها لا تستخدمها. وهذه الخيارات من قبيل تقديم مبالغ نقدية أو غير ذلك من الحوافز مقابل الأسلحة.174

إفلات الأشخاص من الملاحقة القضائية

تمتنع الحكومة السودانية عن التحقيق مع، ناهيك عن محاكمة، المسئولين المحليين والإقليميين والوطنيين الذين خططوا ونفذوا "التطهير العرقي" أو تورطوا بأشكالٍ أخرى في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (انظر الملحق 1 أيضاً).

ولا تعدو التعيينات الأخيرة لعددٍ من الوزراء ووزراء الدولة، وغيرهم من كبار المسئولين، في حكومة الوحدة الوطنية الجديدة أن تكون إعادة خلطٍ لمضطهدي دارفور. فقد بقي في الحكومة كثيرٌ من المسئولين المدنيين ممن قد يكونوا مسئولين عن جرائم دولية خطيرة. وعلى سبيل المثال، صار عبد الرحيم محمد حسين وزيراً للدفاع بعد أن كان وزيراً للداخلية. أما نائبه أحمد هارون فانتقل إلى وزارة الشئون الإنسانية حيث ظل نائب وزير. وأما وزير الدفاع السابق بكري حسن صالح فهو الآن وزيرٌ لرئاسة الجمهورية.

أما في دارفور، فقد بقي المسئولون من غير تغيير. ووفقاً للمعلومات المتوفرة لدينا، فقد عددٌ من المتورطين في ارتكاب الفظائع مناصبهم الرسمية، وهم: معتمد كاس السابق أحمد أنجابو أحمد، ومعتمد مكجار الطيب عبد الله طرشاني، ووالي جنوب دارفور آدم حامد موسى. ومن الواضح أن هؤلاء الثلاثة خرجوا من مناصبهم لأسبابٍ لا علاقة لها بسجلهم في دارفور؛ ولم يُكف أحدٌ منهم عن عمله. كما لم يجر التحقيق معهم، أو مع غيرهم من المسئولين، أو محاكمتهم بسبب الجرائم في دارفور.175

وأما الأشخاص الآخرون الذين قد يكونوا مسئولين عن الجرائم، فهم باقون في مناصبهم، ومنهم معتمدو نيالا وقبقابية ونرتيت. كما احتفظ بمنصبه كلٌّ من والي شمال دارفور عثمان محمد يوسف كبير، ووالي جنوب دارفور الحاج عطا المنان إدريس (وقد حل محل آدم حامد موسى أواسط 2004 وكان موجوداً أثناء الهجوم الكبير في أواخر 2004)؛ بل أعاد الرئيس البشير تسميتهما واليين من جديد. كما جرت ترقية شخص واحد على الأقل، وهو معتمد جارسيلا السابق جعفر عبد الحق الذي شارك في الإعدامات الجماعية بوادي صالح كما ورد أعلاه؛ ففي أكتوبر/تشرين الأول 2005، عُين والياً على غرب دارفور.

العدالة المفقودة: المحكمة الدولية للجرائم في دارفور176

في أواخر يناير/كانون الثاني 2005، أعلنت لجنة التحقيق الدولية المقامة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1564 النتائج التي توصلت إليها بعد تحقيقٍ في جرائم دارفور استمر ثلاثة أشهر. وخلص تقرير اللجنة إلى عدم وجود أدلة كافية على وجود سياسة إبادة جماعية لدى الدولة، لكنه قال: "قد لا تقل الجرائم الدولية التي ارتكبت في دارفور، كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، خطورةً وشناعةً عن الإبادة الجماعية".177 و"يوصي التقرير بشدةٍ" بأن يحيل مجلس الأمن الوضع في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، ويشير إلى أن "القضاء السوداني غير قادرٍ على معالجة الوضع في دارفور وغير مستعدٍ لذلك".178

وفي 31 مارس/آذار 2005، عمل مجلس الأمن بتلك التوصيات وأحال وضع دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية.179 وبموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يكون اختصاص المحكمة مكملاً لاختصاص المحاكم الوطنية.180 أي أن من شأن اتخاذ المحاكم الوطنية تدابير صادقة النية بحق المرتكبين المحتملين لجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وغيرها من الجرائم الواقعة ضمن اختصاصها أن يمنع تدخل المحكمة الجنائية الدولية في تلك القضايا. وعلى الرغم من توصل لجنة التحقيق إلى نتيجةٍ مفادها أن النظام القضائي السوداني غير قادر على معالجة الجرائم في دارفور وغير مستعدٍّ لذلك، فإن النيابة العامة في المحكمة الجنائية الدولية ملزمةٌ بتقديم تقييمها الخاص لتلك النقطة قبل الشروع بالتحقيق.181

وفي 6 يونيو/حزيران 2005، أعلن النائب العام في المحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو أن المحكمة ستحقق في جرائم دارفور، مع التركيز على "الأشخاص الذين يتحملون المسئولية الجنائية الكبرى عن الجرائم المرتكبة في دارفور".182 وفي اليوم التالي أعلنت الحكومة السودانية فجأة عن إقامة المحكمة الجنائية الوطنية الخاصة المعنية بدارفور، وهي محكمةٌ جديدة مكلفة باتخاذ تدابير فورية بالتعاون مع المدعين العامين في دارفور.183 وكان توقيت وسرعة إنشاء هذه المحكمة محاولةً أخرى لإبطال اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر في جرائم دارفور، وهذا ما أقر به عددٌ من المسئولين السودانيين أنفسهم.184 والظاهر أن وزير العدل السوداني آنذاك علي محمد عثمان ياسين صرّح للصحافة السودانية بأن المحكمة "تعتبر بديلاً عن المحكمة الجنائية الدولية".185

أقيمت المحكمة الجديدة في الفاشر مع منحها صلاحية عقد جلساتها في أماكن أخرى. وبحلول 18 يونيو/حزيران 2005، عقدت المحكمة أولى جلساتها في نيالا. وفي أغسطس/آب، كانت المحكمة تنظر في ست قضايا تراوحت من قضية اغتصاب أحد أفراد قوات الدفاع الشعبية فتاة في السادسة عشر من العمر أثناء الهجوم على إحدى الحافلات (انظر أدناه) إلى حوادث سطو مسلح وقتل ارتكبها جنود في الجيش وصولاً إلى قضية سرقة ثمانية رؤوس من الغنم. ولم تشمل أيٌّ من هذه القضايا جرائم حرب، كما لم يكن فيها متهمون ممن يشغلون مناصب في القوات المسلحة أو الإدارة المدنية أو الميليشيات.

لكن قدمت شكاوى رسمية في حالاتٍ يزعم أنها جرائم حرب. فعلى سبيل المثال، علمت هيومن رايتس ووتش أن زعماء قبليين من حمادة بجنوب دارفور (وقد تعرضت إلى هجومٍ وحشي في يناير/كانون الثاني 2005 قتل فيه عشرات المدنيين كما ورد أعلاه في الفقرة 6 ـ ب) تقدموا بشكاوى إلى الشرطة في نيالا. كما كان المدعي العام في الولاية وغيره من المسئولين على علمٍ بالهجمات التي استهدفت المدنيين في مارلا وخور أبيش وغيرها من القرى، لكنهم أصروا على عدم إمكانية تقديم هذه الشكاوى إلى المحكمة لأن هويات مرتكبيها لم تكن معروفةً.186 لكن معرفة هويات المرتكبين لم تكن هي المشكلة الحقيقية على الإطلاق؛ فقد اتهم بهذه الجرائم موسى هلال وغيره من قادة الميليشيات علناً ولشهورٍ كثيرة، بل وردت أسماؤهم أيضاً على قائمة قادة الميليشيات التي أصدرتها وزارة الخارجية الأمريكية. كما وردت أسماء أشخاص آخرين في تقارير منشورة صدرت عن بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان، ومنهم العميد أحمد الهاجر محمد الذي قاد هجوم القوات السودانية بجنوب دارفور في ديسمبر/كانون الأول 2004. وكانت المشكلة كامنةً في رفض الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية في التحقيق الجدي بالادعاءات عندما يُحتمل أن يكون للمسئولين الحكوميين المشاركين في عمليات مقاومة التمرد صلة بها.

وفي جنوب دارفور، أنشأ الوالي الحاج عطا المنان إدريس لجان تحقيق للنظر في عدد من أكثر الهجمات بشاعةً ومن بينها الهجوم الذي وقع في 7 أبريل/نيسان 2005 على خور أبيش وحظي بتغطيةٍ واسعة؛ وفي ذلك الهجوم أغارت ميليشيات المسيرية من نيتيجا على بلدة خور أبيش ودمرت الشطر الأكبر منها.187 ولقي هذا الهجوم شجباً قوياً من الأمم المتحدة وبعثة الاتحاد الأفريقي في السودان إذ دعتا علناً إلى وضع قائد ميليشيا المسيرية ناظر التيجاني عبد القادر على قائمة عقوبات الأمم المتحدة.188 لكن السودان لم يتخذ أي إجراء تحقيقي أو قضائي فيما يخص خور أبيش أو أية حالةٍ كبيرةٍ أخرى. ويقول مصدرٌ موثوق أن الوالي الحاج عطا المنان حاول الضغط على زعماء من بلدة حمادة لجعلهم يسحبون شكواهم.189

ومنذ ذلك الحين، تعمل الحكومة السودانية على جعل الملاحقة القضائية للجنود المتورطين في جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أمراً أكثر صعوبةً مما سبق. ففي 4 أغسطس/آب 2005، وقع الرئيس البشير على تعديل قانون القوات المسلحة الشعبية بحيث صار يُسبغ الحصانة من الملاحقة القضائية على أي "ضابط أو ضابط صف أو جندي" يرتكب جرائم أثناء أداء مهامه إلا إذا سمح بتلك الملاحقة "القائد العام أو من يفوضه".190

الامتناع عن أي نوع من الملاحقة في حالات الاغتصاب والعنف الجنسي

يلقي موقف الحكومة السودانية ونهجها القانوني الهزلي إزاء جرائم الاغتصاب ضوءاً كاشفاً على رفضها ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. فعلى الرغم من كثرة التقارير المعقولة المتطابقة التي توثق وجود نماذج سائدة من الاغتصاب والعنف الجنسي يمكن أن ترقى إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية،191 ترفض الحكومة السودانية على الدوام الإقرار بحجم وفداحة هذه الجرائم.192 وبدلاً من التحري عن مرتكبيها ومحاكمتهم، كثيراً ما تمتنع الشرطة السودانية وغيرها من الجهات عن اتخاذ التدابير المناسبة في الشكاوى التي تتلقاها؛ كما أن عناصر الشرطة يوجهون في بعض الحالات تهديدات فعلية إلى النساء والفتيات اللواتي يعتقد أنهن من ضحايا الاغتصاب، بل يسيئون إليهن أيضاً.193 وقد تعرضت المنظمات الإنسانية الدولية التي تقدم الرعاية الطبية لضحايا الاغتصاب إلى المضايقات أيضاً بسبب إعلانها عن حجم تلك المشكلة ورفضها الكشف عن هويات مرضاها، إذ أن من شأن ذلك خرق مبدأ حفاظ الطبيب على السرية فيما يتعلق بمريضه.194

ومع أن المحكمة الخاصة المعنية بدارفور نظرت في قضية اغتصابٍ واحدة كما أشرنا أعلاه، فإن ملابسات هذه المحاكمة تثير مزيداً من القلق. فالقضية تتعلق بفتاة في السادسة عشر اغتصبت عندما هاجم مسلحون الحافلة التي كانت تسافر فيها في ديسمبر/كانون الأول 2004. وتقول تقارير موثوقة تلقتها هيومن رايتس ووتش أن الفتاة ومحاميها أبلغوا في المحكمة أن النظر في القضية سيجري في اليوم ذاته. وعندما اعترض محامو الفتاة على قصر المهلة المتاحة أجاب رئيس المحكمة بأن، وبالنظر إلى الوضع الخاص للمحكمة، "حتى مهلة خمس دقائق" تعتبر كافية لإبلاغ أي شاهد بالحضور للإدلاء بشهادته.195 وفضلاً عن ذلك، رفض القاضي طلب محامي الضحية بعقد جلسةٍ مغلقة (بحيث تتمكن الفتاة من الإدلاء بشهادتها دون وجود الجمهور والصحافة)، ويبدو أنه أجابه بأن الجمهور دخل إلى القاعة ومن المهم أن يطلع الناس على هذه القضية.196

وقد علمنا من مصدرٍ واحد أن المحكمة الخاصة أدانت أول الأمر الرجال الثمانية المتهمين باغتصاب الفتاة، لكن محكمة الاستئناف ألغت الحكم فيما بعد استناداً إلى الحصانة القضائية التي يتمتع بها المتهمون بفضل المرسوم الرئاسي الصادر في 4 أغسطس/آب. ثم وافقت القوات المسلحة السودانية على إعادة محاكمة هؤلاء المتهمين، وعادت القضية إلى المحكمة الخاصة التي برأتهم.197

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2005، أشار رئيس المحكمة الخاصة الجديدة محمود أبكم إلى أن المحكمة لن تنظر في أية قضيةٍ كبيرة من قضايا الاغتصاب الجماعي بدارفور. وقال: "إن قضايا الاغتصاب التي تنظر فيها المحكمة قضايا فردية

إتلاف الأدلة

زعم كثيرٌ من المدنيين أن قوات الحكومة والجانجاويد تقوم عمداً بإتلاف القبور الجماعية وغيرها من الأدلة. كما تقدم جيش تحرير السودان بمزاعم من هذا النوع أيضاً وقال أن السبب في عودته إلى احتلال منطقة أبو جمرة في فبراير/شباط 2005 يعود جزئياً إلى رغبته في الحفاظ على القبور الجماعية وغيرها من الأدلة الشرعية.

وعندما زار باحثو هيومن رايتس ووتش أبو جمرة في يوليو/تموز 2005 لم يكن قد بقي فيها إلا عددٌ قليلٌ من المدنيين. وكانت أحياء القرية مدمرةً بالكامل، إذ لم يبق منها إلا الجدران الطينية للأكواخ المحترقة. وكان الجامع والسوق والمدرسة مدمرين أيضاً، ولعل ذلك بفعل قصف الطائرات أو الحوامات أو بفعل الجرافات. أما ما لم يتعرض للتدمير فقد تعرض للسلب، فحتى نوافذ المدرسة كانت منتزعةً من جدرانها.

وقد زرنا موقعين يُزعم أن بهما قبرين جماعيين يعود أحدهما إلى ديسمبر/كانون الأول 2003 ويقال أنه يضم أكثر من 100 جثة، وأما الآخر فالظاهر أنه حفر بعد الهجوم الثاني في عام 2004 ويقال أنه يحوي أكثر من 100 جثةٍ أيضاً. وشاهد باحثونا حقلاً تنتشر فيه الهياكل العظمية التي مازال بعضها يحتفظ بملابسه. ويبدو أن هذه الهياكل ظلت حيث سقط أصحابها قتلى، ولم تدفن.

ومع عدم قدرتنا على تأكيد التقارير القائلة بأن قوات الحكومة تقوم بإتلاف القبور الجماعية وغيرها من الأدلة الشرعية التي تشهد على الجرائم، فإن القصص التي تتحدث عن عمليات التنظيف هذه صارت واسعة الانتشار؛ وهي لا تتحدث عن منطقة أبو جمرة وحدها، بل عن مناطق أخرى في دارفور كوادي صالح مثلاً. وبعد زيارة مراقبي الاتحاد الأفريقي إلى جارسيلا بغرب دارفور في مارس/آذار 2005، تلقينا تقارير معقولة تفيد أن القبور الجماعية في تلك البلدة وحولها والتي تضم رفاة ضحايا إعدامات مارس/آذار 2004 تعرضت للنبش من جديد وأحرق ما فيها.200

كما حصلنا أيضاً على نسخٍ من وثائق يقال أنها صادرة عن مقر قيادة موسى هلال في المسترية، وهي موجهة إلى الأجهزة الأمنية والمسئولين على المستوى الوطني. ومع أننا لا نستطيع تأكيد صحة هذه الوثائق، فهي تدين أصحابها إلى أقصى الحدود إن ثبتت صحتها. وتأمر واحدةٌ من تلك الوثائق تحمل تاريخ أغسطس/آب 2004 أوامر إلى القوات بأن تتخلص من القبور الجماعية وغيرها من الأدلة.201




166 مقابلة هيومن رايتس ووتش مع جندي أسير لدى جيش تحرير السودان، شمال دارفور، 14 يوليو/تموز 2005. قابلت هيومن رايتس ووتش جميع المقاتلين المحتجزين في غرفةٍ مستقلة دون وجود عناصر من جيش تحرير السودان.

167 معلومات سرية وصلت هيومن رايتس ووتش من مراقب دولي في الخرطوم، 4 يونيو/حزيران 2004.

168 المصدر السابق.

169 المصدر السابق.

170 بريد إلكتروني سري ورد إلى هيومن رايتس ووتش من شخصٍ أجرى مقابلةً مع عنصر سابق في الميليشيا، 26 يونيو/حزيران 2004.

171 مقابلات مع سودانيين من سكان الفاشر، فبراير/شباط 2005.

172 مقابلة هيومن رايتس ووتش، قبقابية، شمال دارفور، 4 أكتوبر/تشرين الأول 2004.

173 مقابلة هيومن رايتس ووتش مع مراقبٍ عسكري سابق من الاتحاد الأفريقي، هولندا، 15 سبتمبر/أيلول 2005.

174 تشير آخر التقارير إلى قدرة مجموعات الجانجاويد على تحدي الحكومة، وإلى أن التحالف بين الحكومة السودانية وبعض ربيباتها من الميليشيات الإثنية في غرب دارفور خاصةً آخذٌ بالتآكل. انظر مارك ليسي، "تزايد الفوضى في نزاع دارفور مع عصيان بعض الميليشيات للحكومة"، نيويورك تايمز، 18 أكتوبر/تشرين الأول 2005.

175 يترأس آدم حامد موسى الآن منظمة (يقال أن الحكومة تساندها) تدعى منتدى السلام والتنمية في دارفور؛ وقد حضر محادثات السلام في أبوجا بنيجيريا في أكتوبر/تشرين الأول 2005. انظر "ممثلو منتدى دارفور يصلون للاشتراك في محادثات أبوجا"، شينخوا، 9 أكتوبر/تشرين الأول 2005، على الرابط: http://www.sudantribune.com/article.php3?id_article=11995. أما مكان وجود أحمد أنجابو أحمد فهو غير معروف حالياً.

176 تناقش هيومن رايتس ووتش المحكمة السودانية الجديدة الخاصة بدارفور بمزيدٍ من التفصيل في تقريرٍ يصدر قريباً.

177 الأمم المتحدة، "تقرير لجنة التحقيق الدولية الخاصة بدارفور المقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة"، على الرابط: http://www.un.org/News/dh/sudan/com_inq_darfur.pdf.

178 المصدر السابق، ص 5.

179 S/1593/2005.

180 ينص "مبدأ الإكمال" هذا على أن مسئولية وواجب الملاحقة القضائية في أخطر الجرائم الدولية تقع على عاتق الحكومة الوطنية أولاً، في حين لا يسمح للمحكمة الجنائية الدولية بالتدخل إلا بوصفها ملاذاً أخيراً إذا امتنعت الدولة عن القيام بواجبها (أي إذا لم يجر التحقيق، والمحاكمة عند اللزوم، بنيةٍ صادقة). ومن شأن الجهود الصادقة من جانب الحكومة لاكتشاف الحقائق ومحاسبة المسئولين عن أية جرائم إبادة جماعية أو جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أن تمنع تدخل المحكمة الجنائية الدولية حتى فيما يخص "المسئولين أكثر من غيرهم". ولمزيدٍ من المعلومات انظر نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وكذلك "أسئلة وإجابات عن المحكمة الجنائية الدولية"، على الرابط: http://www.hrw.org/campaigns/icc/qna.htm..

181 تعمل النيابة العامة في المحكمة الجنائية الدولية على تنفيذ واجبها في تقييم استعداد وقدرة النظام القضائي لدى الدولة. وقد أشارت النيابة العامة في المحكمة الجنائية الدولية إلى العمل على الوفاء بهذا الالتزام في "بيان النائب العام في المحكمة الجنائية الدولية السيد لويس مورينو أوكامبو إلى مجلس الأمن في 29 يونيو/حزيران 2005 طبقاً لقرار مجلس الأمن رقم 1593"، (2005)، ص 4.

182 "المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية يفتتح التحقيق في قضية دارفور"، المحكمة الجنائية الدولية، لاهاي، 6 يونيو/حزيران 2005، على الرابط: http://www.icccpi.int/press/pressreleases/107.html

183 وقع كبير القضاة على المرسوم رقم 702 المنشئ للمحكمة الجنائية الوطنية الخاصة المعنية بدارفور في 7 يونيو/حزيران 2005 (وهو اليوم التالي لإعلان بدء التحقيق)، على أن تبدأ عملها فوراً. وفي 11 يونيو/حزيران، عُين القاضي محمود محمد سعيد أبكم، وهو عضو في المحكمة السودانية العليا، رئيساً للمحكمة الجديدة. 

184 تصريح صحفي لكبير القضاة جلال الدين محمد عثمان، 7 يونيو/حزيران 2005، على الرابط:

http://www.sudanembassy.de/pages/special_court_for_crimes_in_darfurpag.html.

185 "السودان: القضاء يعارض ولاية المحكمة الجنائية الدولية في قضايا دارفور"، وكالة أنباء الأمم المتحدة، 24 يونيو/حزيران 2005، على الرابط: http://www.irinnews.org/report.asp?ReportID=47802&SelectRegion=East_Africa&SelectCountry=SUDAN

186 معلومات سرية حصلت عليها هيومن رايتس ووتش من مراقبٍ دولي، 16 أغسطس/آب 2005.

187 قرار رقم 26/1426 (هـ)، ضمن أرشيف هيومن رايتس ووتش.

188 إديث ليدرر، "الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي يقولان أن أكثر من 350 من عناصر الميليشيا هاجموا قريةً في دارفور ودمروها"، أسوشييتد برس، 9 أبريل/نيسان 2005، على الرابط: http://www.sudantribune.com/article_impr.php3?id_article=8971

189 معلومات سرية وردت إلى هيومن رايتس ووتش من مراقبٍ دولي، 28 يوليو/تموز 2005.

190 جاء في هذا المرسوم:

"مرسوم مؤقت، قانون القوات المسلحة الشعبية لعام 1986، تعديل لسنة 2005 القاضي بالحصول على إذن لبدء الملاحقة الجنائية بحق أي ضابط أو ضابط صف أو جندي.

لا تتخذ تدابير قضائية بحق أي ضابط أو ضابط صف أو جندي يرتكب فعلاً يمكن أن يشكل جريمةً أثناء، أو بسبب، تنفيذ مهامه، أو بسبب أي أمر صحيح صدر إليه؛ ولا يقدم إلى المحاكمة إلا بإذنٍ من القائد العام أو من يفوضه."

وقّع عليه عمر حسن أحمد البشير، 4 أغسطس/آب 2005.

191 انظر تقرير لجنة التحقيق الدولية، ومنظمة العفو الدولية، "دارفور: الاغتصاب كسلاح في الحرب"، AFR 54/076/2004، 19 يوليو/تموز 2004، على الرابط: http://web.amnesty.org/library/index/engafr540762004.

192 إميلي واكس، "ضحايا الاغتصاب في السودان يعانين تعامي القضاء عن محنتهن"، واشنطن بوست، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، وانظر أيضاً الأمم المتحدة، "إتاحة العدالة لضحايا العنف الجنسي"، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، 29 يوليو/تموز 2005، على الرابط: http://www.ohchr.org/english/press/docs/20050729Darfurreport.pdf.

193 كاثرين هاورلد، "بعد أن اغتصبن جماعياً وحملن، ظنت هذه النسوة أن محنتهن انتهت عندما ذهبن إلى الشرطة، لكنهن كن مخطئات"، سنداي تلغراف، لندن، 13 مارس/آذار 2005، على الرابط: http://www.telegraph.co.uk/news/main.jhtml?xml=/news/2005/03/13/wsudan13.xml.

194 في مايو/أيار 2005، اعتقلت الحكومة السودانية شخصين من منظمة أطباء بلا حدود بتهمة ارتكاب "جرائم ضد الدولة" ونشر تقارير كاذبة. وكانت منظمة أطباء بلا حدود نشرت قبل شهرين من ذلك تقريراً بعنوان "عبء الاغتصاب الفادح: العنف الجنسي في دارفور بالسودان". ويتحدث هذا التقرير بوضوحٍ ساطع عن تفشي الاغتصاب والعنف الجنسي في دارفور. وقد عالجت منظمة أطباء بلا حدود زهاء 500 امرأة وفتاة ممن تعرضن للاغتصاب خلال أقل من خمسة أشهر. وقد أسقطت التهم الموجهة إلى الشخصين المذكورين بعد حملةٍ عامةٍ كبيرة وضغوطٍ دبلوماسية، لكن منظماتٍ أخرى تشتكي من تعرض عامليها وبرامجها إلى تهديداتٍ مماثلة. انظر تقرير أطباء بلا حدود على الرابط: http://www.msf.org/msfinternational/invoke.cfm?component=report&objectid=99CD9F41-E018-0C72

09C703FCC9098A2B&method=full_html. 

195 معلومات وردت إلى هيومن رايتس ووتش من شخصٍ كان حاضراً، 6 يوليو/تموز 2005.

196 المصدر السابق.

197 مقابلة هيومن رايتس ووتش مع محامٍ سوداني، نوفمبر/تشرين الثاني 2005.

200 مقابلة هيومن رايتس ووتش، حجبنا موقع إجراء المقابلة، أبريل/نيسان 2005. 

201 وثيقة ضمن أرشيف هيومن رايتس ووتش.