Iraq and Iraqi Kurdistan




العراق

  
العراق :البصرة:
الجريمة وغياب الأمن في ظل الاحتلال البريطاني

توصيات ومقدمة

تعتبر مدينة البصرة، التي يبلغ تعداد سكانها 1.5 مليون نسمة، الميناء الرئيسي في العراق، وثانية أكبر المدن العراقية؛ وتقع على بعد 550 كيلومترا تقريبا جنوب شرق بغداد بامتداد الساحل الغربي لشط العرب عند ملتقى نهري دجلة والفرات الذي يبعد عن الخليج العربي بمسافة 130 كيلومترا.
اشتد قلق الناس من انعدام الأمن بسبب الإحساس بالارتباك بشأن ما يتخذ من إجراءات لحمايتهم - إن كانت هناك مثل هذه الإجراءات أصلا. وفي هذا الفراغ الأمني، بدأ العراقيون ينظرون إلى قوات الشرطة التي كانت تابعة للحكومة السابقة على أنها مصدر يمكن أن يوفر لهم الحماية، على الرغم من التوجس الشديد الذي يشعرون به لما عُهد عن قوات الشرطة من البطش والفساد.
وقد عانت البصرة أشد المعاناة في عهد صدام حسين؛ ومن المعروف أن الغالبية العظمى من سكانها من العرب الشيعة، وأن الشيعة يمثلون ما يقدر بحوالي 55% من سكان العراق(1).

وعلى الرغم من تعداد المسلمين الشيعة فقد ظلوا على مر تاريخهم في العراق مغلوبين على أمرهم ومعرضين للقمع. ولما كانت البصرة أحد المراكز السكانية الرئيسية لمسلمي العراق الشيعة فقد كانت تعتبر مركزا لمعارضة حكومة حزب البعث، حيث انتفض شيعة البصرة ضد صدام حسين بعد دحر القوات العراقية عام 1991، وهي الانتفاضة التي أثارتها إلى حد ما دعوة الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت جورج بوش للعراقيين لأن " يأخذوا زمام الأمر بأيديهم لإجبار الديكتاتور صدام حسين على التنحي"(2).

وقد بدأت الانتفاضة في البصرة، وسرعان ما امتدت إلى المناطق الرئيسة الشيعية الأخرى في جنوبي العراق (إلى جانب المناطق التي تقطنها أغلبية كردية في شمالي العراق). ووقعت أعمال قتل بدافع الانتقام في شتى الأنحاء الجنوبية حيث صب السكان غضبهم على أي شخص له صلة بحكومة البعث، الأمر الذي أدى إلى مقتل مئات من مسؤولي حزب البعث، وموظفي الحكومة المحليين، وعملاء الاستخبارات. إلا أن الحكومة العراقية تمكنت من السيطرة على البلاد وشنت حملة انتقام عنيفة عندما فشلت الولايات المتحدة في دعم الانتفاضة. وفي سياق الإجراءات الانتقامية التي تلت ذلك، قتل الآلاف من المدنيين من أهالي البصرة، كما سجن آلاف غيرهم أو "اختفوا".(3)

وأدت المعارضة المستمرة للحكومة العراقية إلى إثارة العديد من حملات القمع طيلة التسعينيات من القرن العشرين، وكان أخطرها حملة القمع التي حدثت في مارس/آذار وأبريل/نيسان 1999 بعد اغتيال آية الله صادق الصدر، وهو من الزعماء الدينيين الشيعة، في مدينة النجف بينما كان عائدا بسيارته إلى بيته مساء يوم 19 فبراير/شباط 1999 مع ابنيه. وبعد مقتل الصدر هزت البصرة مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن، تضمنت اعتداءات على أعضاء حزب البعث.(4) وجاء رد الحكومة سريعا وعنيفة، فطبقا للبحوث التي أجرتها منظمة هيومن رايتس ووتش، تم إعدام ما لا يقل عن 150 من المتظاهرين الشيعة خارج نطاق القضاء وسجن الآلاف منهم وسويت بيوتهم بالأرض وأصبح محظورا عليهم الالتحاق بالعديد من الوظائف.

وكانت حكومة صدام حسين قد أنزلت البصرة منزلة ثانوية في سياق التنمية الاقتصادية. ولذلك فعندما فرضت العقوبات الدولية على العراق في عام 1990 بعد غزو العراق للكويت، أصبحت البصرة في وضع أشد ضعفا وزادت حدة الفقر بين سكانها. وتعرضت البصرة لقصف عنيف في أثناء الحرب مع إيران المجاورة فيما بين عامي 1980 و1988، واستهدفت مرة أخرى في أثناء حرب الخليج عام 1991 وفي القتال الذي دار في مارس/آذار وأبريل/نيسان 2003.
    وكانت منطقة جنوب العراق وميناء أم قصر، الذي يعتبر ميناء البصرة الاستراتيجي، من أوائل الأهداف التي ضربتها قوات التحالف بزعامة الولايات المتحدة في مارس/آذار 2003. وقد قادت القوات البريطانية الجهود الرامية إلى تأمين الميناء واحتلال البصرة، وتمت محاصرة المدينة بعد قصف جوي ومدفعي عنيف. وفي 27 مارس/آذار كانت القوات البريطانية قد نجحت في السيطرة على ضواحي المدينة وكل مداخلها، ولم تواجه مقاومة إلا من الميليشيات العراقية والقوات غير النظامية التي تنتمي لما يسمى بوحدات فدائيي صدام. ونتيجة للقتال تعرضت البنية الأساسية للبصرة لدمار كبير أدى إلى تفاقم الظروف البائسة أصلا بسبب الحرب، حيث انهار نظام توزيع مياه الشرب في المدينة انهيارا تاما.
كان هذا هو حال المدينة عندما دخلت القوات البريطانية في الخامس من أبريل/نيسان 2003 إلى قلب البصرة لأول مرة في إطار التحالف الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وعندما تولت بوصفها قوة الاحتلال المسؤولية الأساسية عن أمن المدنيين ومنظمات الإغاثة الإنسانية التي تحاول مد يد العون لهم. وفي وقت كتابة هذا التقرير، كان أهالي البصرة يشعرون بعدم الأمن إلى حد كبير، وهو ما يرجع بصورة جزئية إلى أعمال النهب المحمومة التي استمرت أسبوعا عقب الاحتلال البريطاني مباشرة، واستمر هذا الإحساس بعدم الأمان نتيجة لوقوع موجة من الجرائم بمعدل أقل وإن كانت ثابتاً (مثل حوادث القتل اليومية ونهب الممتلكات الخاصة وسرقة السيارات)، تلك الموجة التي تبتلع البصرة الآن كما هي الحال في كثير من المدن العراقية الأخرى. ويبين هذا التقرير الذي يستند إلى بحث ميداني استغرق أربعة أسابيع وأجراه باحثو منظمة هيومن رايتس ووتش في جنوبي العراق، أنه بعد سقوط البصرة بأكثر من ستة أسابيع لا يزال مستوى تعامل قوات التحالف مع الوضع الأمني سيئا للغاية. وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها العسكريون البريطانيون لنشر قواتهم صغيرة العدد نسبيا لتحسين الأوضاع الأمنية في المدينة، فقد ظل السكان يعيشون في خوف من الجرائم العنيفة وظل قلقهم يشتد بشأن عجز قوات التحالف على توفير مستوى أمني أفضل.
    وبحلول منتصف مايو/أيار كانت القوات البريطانية قد وضعت بعض التدابير لتحسين الأمن، مثل البدء في إعادة بناء جهاز الشرطة والنظام القضائي. لكن مستويات الجريمة ظلت مرتفعة بشكل ملحوظ أكثر مما كانت عليه قبل الحرب، فالمستشفيات تبلغ عن وقوع ست أو سبع حالات قتل عنيفة يوميا وعن عدد مماثل من الإصابات الناجمة عن أعيرة نارية؛ كما تقع حوادث سرقة السيارات واقتحام المنازل عنوة بمعدل حادث أو اثنين يوميا. وقد اشتد قلق الناس من انعدام الأمن بسبب الإحساس بالارتباك بشأن ما يتخذ من إجراءات لحمايتهم - إن كانت هناك مثل هذه الإجراءات أصلا. وفي هذا الفراغ الأمني، بدأ العراقيون ينظرون إلى قوات الشرطة التي كانت تابعة للحكومة السابقة على أنها مصدر يمكن أن يوفر لهم الحماية، على الرغم من التوجس الشديد الذي يشعرون به لما عُهد عن قوات الشرطة من البطش والفساد. وعلى الرغم من أن الدوريات البريطانية أصبحت تجوب قلب المدينة بشكل أظهر من ذي قبل، وأن أربعة مخافر للشرطة على الأقل أعيد فتحها من جديد وبها حوالي 500 من ضباط الشرطة العراقيين العاملين، فإن وجود الشرطة على هذا النحو يعتبر غير كاف على الإطلاق لتلبية الاحتياجات الأمنية لمدينة بحجم البصرة، خصوصا في أجواء الانفلات الأمني وغيبة القانون التي أعقبت سقوط حكومة صدام حسين.
وقد أدركت القوات العسكرية البريطانية هذه المشكلة، وشرعت في البحث عن حلول لها. وذكر عدد من كبار العسكريين الأمريكيين والبريطانيين مرارا لمنظمة هيومن رايتس ووتش أنهم كلفوا بمهمة مستحيلة تتمثل في تحويل وحداتهم القتالية الصغيرة إلى قوة كافية للقيام بمهمة توفير الأمن للمدنيين. ونتيجة لذلك، أصبح المسؤولون البريطانيون على ما يبدو يرتجلون طرقا مختلفة للتعامل مع الأوضاع في كل مدينة يسيطرون عليها، مثلهم في ذلك مثل المسؤولين العسكريين الأمريكيين في المدن العراقية الأخرى الذين أجرت هيومن رايتس ووتش مقابلات معهم. وقد أعاق هذه الجهود عدم كفاية القوى البشرية اللازمة وعدم كفاية الدعم والتوجيه على المستوى الوطني.
    وأدى انعدام وجود نظام مركزي لجمع المعلومات عن الجرائم ولتوفير المعلومات الخاصة بإجراءات تحريك الدعوى القضائية إلى تفاقم الإحساس بعدم الأمن لدى العراقيين العاديين الذين أجرت هيومن رايتس ووتش مقابلات معهم. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى فشل مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية في تولي مسؤوليات التنسيق والتوجيه على المستوى الوطني، (وهذا المكتب يمثل في واقع الحال الإدارة المدنية للتحالف في العراق، وقد تم دمجه في سلطة التحالف المؤقتة منذ أوائل مايو /أيار). وفي أثناء الأسابيع الستة الأولى بعد احتلال العراق لم يجد باحثو منظمة هيومن رايتس ووتش أي نظام مركزي لتنفيذ القانون، ولا أي نظام لجمع البيانات المحلية أو الوطنية وجدولتها فيما يتعلق بالحوادث الجنائية، ولا أي تنسيق بين قوات التحالف وقوات الشرطة في القطاعات المختلفة بالبلاد. ولم يكن هناك إلا تنسيق محدود بين المناطق الأمريكية والمناطق البريطانية، وتنسيق محدود بشأن كيفية معاملة المشتبه فيهم جنائيا والتحقيق معهم وتحريك الدعوى القضائية ضدهم.(5) وقد تحدثت هيومن رايتس ووتش إلى قوات التحالف المسؤولة عن الأمن في المدن الثلاثة الجنوبية الرئيسية وهي البصرة والعمارة والناصرية، حيث القوات البريطانية تحتل البصرة والعمارة والقوات الأمريكية تحتل الناصرية. وبينما وجدت المنظمة تنسيقا بين البصرة والعمارة، فليس هناك إلا اتصال محدود بين المناطق الأمريكية والمناطق البريطانية. كما أشار المسؤولون العسكريون في المدن الثلاث إلى أنهم لم يتلقوا إلا توجيهات محدودة من مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية - هذا إن تلقوها أصلا.
ويتجلى عدم إعداد القوات الأمريكية والبريطانية للوفاء بالتزاماتها بعد احتلال العراق بصورة أفدح في ضوء عاملين مهمين في هذا الصدد. أولهما أنه كان من المفروض على قوات التحالف أن تتحسب اندلاع أعمال النهب وغيرها من الجرائم في ضوء تجربة غياب القانون بصورة شديدة بعد حرب الخليج الأولى عام 1991، والصعاب الاقتصادية التي تواجه الشعب العراقي، وإطلاق سراح الآلاف من السجناء المدانين بجرائم جنائية من السجون العراقية في أكتوبر/تشرين الأول 2002، وتوافر الأسلحة الخفيفة على نطاق واسع بين السكان.
    ثانيا، بالإضافة إلى هذه الظروف الخاصة بالعراق، تبين جميع التجارب عموما في عمليات حفظ السلام في أوضاع ما بعد الصراع في البوسنة وكوسوفا وتيمور الشرقية أهمية توفير الأمن فور انتهاء الصراع العسكري. فعلى سبيل المثال، وكما حدث في العراق، كانت القوات الأمريكية والبريطانية في كوسوفا تسيطر على مناطق تخلو أساسا من أي هيكل حكومي، ومناطق وقعت فريسة لتفشي الجريمة وكانت بحاجة إلى التحقيق في عدد كبير من انتهاكات حقوق الإنسان الماضية والحالية. ونظرا لوجود العديد من الضباط العسكريين في العراق ممن خدموا في كوسوفا (خصوصا في صفوف القوات البريطانية) فقد كان من المتوقع أن تعمل قوات التحالف على تطبيق الدروس المستفادة من كوسوفا في العراق، لكن بحوث منظمة هيومن رايتس ووتش في جنوبي العراق تبين أن هذا لم يحدث. وكما يتضح من التفاصيل التالية، فقد ارتكبت قوات التحالف العديد من الأخطاء الفادحة في الأسابيع الأولى من الاحتلال أدت إلى تفاقم الأجواء الحالية من انعدام الأمن في جنوبي العراق.

وعلى رأس تلك الأخطاء التي يمكن تفاديها ما يلي:

  • عدم الاستعداد الكافي للانهيار المتوقع للقانون والنظام بعد العمليات العسكرية وسقوط الإدارة المدنية.
  • الاعتماد على القوات القتالية في أداء الواجبات الشرطية والأمنية.
  • التأخر في نشر الشرطة العسكرية، وعدم كفاية هذا الانتشار.
  • عدم نشر شرطة مدنية دولية.
  • عدم نشر متخصصين في الجوانب القضائية والقانونية.
  • عدم التدريب الكافي لقوات التحالف فيما يتعلق بالقوانين والأعراف المحلية.
  • عدم توفير الحماية الكافية للضحايا والشهود فيما يتعلق بجرائم الماضي والحاضر.
  • عدم تقديم الأدلة المطلوبة للتحقيق في جرائم الماضي والحاضر.
  • عدم التواصل مع السكان المحليين فيما يتعلق بالقضايا الأمنية.
    (1) هيومن رايتس ووتش (سابقا ميدل إيست ووتش)، حقوق الإنسان في العراق (نيويورك: هيومن رايتس ووتش، 1990).

    (2) "مقتطفات من تصريحات بوش حول الأبعاد الاستراتيجية في منطقة الخليج"، نيويورك تايمز 16 فبراير/شباط 1991.

    (3) هيومن رايتس ووتش، "عذاب بلا نهاية: انتفاضة 1991 في العراق وعواقبها"، (نيويورك: هيومن رايتس ووتش، 1992). يوثق هذا التقرير الفظائع التي ارتكبتها قوات الحكومة العراقية بعد انتفاضة 1991، ويتضمن شهادات عدد من اللاجئين العراقيين الذين فروا إلى إيران والكويت والسعودية ومناطق شمالي العراق التي يسيطر عليها الأكراد.

    (4) هيومن رايتس ووتش، التقرير العالمي لعام 2000 (نيويورك: هيومن رايتس ووتش، 2000).

    (5) عقد بول بريمر، رئيس سلطة التحالف المؤقتة، أول اجتماع لسلطات الشرطة العسكرية من مختلف أرجاء العراق في 18 مايو/أيار 2003. مقابلة مع هيومن رايتس ووتش في البصرة في 18 مايو/أيار 2003.

  •