A boy runs alongside a tall concrete wall

تجاوزوا الحد

السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد

طفل فلسطيني يجري قرب جدار الفصل الإسرائيلي في مدينة قلقيلية بالضفة الغربية المحتلة. يحيط جدار الفصل بالكامل بالمدينة التي يقطنها أكثر من 55 ألف فلسطيني © "وكالة الصحافة الفرنسية/"غيتي إيميدجز"

مُلخص

يعيش اليوم حوالي 6.8 مليون يهودي إسرائيلي و6.8 مليون فلسطيني في المنطقة الممتدة من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن، وهي منطقة تشمل إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. تتكوّن هذه الأخيرة من الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة. في معظم أنحاء هذه المنطقة، إسرائيل هي القوة الحاكمة الوحيدة؛ وهي تمارس في باقي المناطق سلطة رئيسية، إلى جانب حكم ذاتي فلسطيني محدود. تمنح السلطات الإسرائيلية في هذه المناطق امتيازات بشكل ممنهج لليهود في أغلب مناحي الحياة، وتميّز ضدّ الفلسطينيين. توضح كل من القوانين، والسياسات، وتصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين أن الهدف الرامي إلى إبقاءالهيمنة الإسرائيلية اليهودية على التركيبة السكانية، والسلطة السياسية، والأرض هو ما وجّه سياسة الحكومة منذ زمن طويل. لتحقيق هذا الهدف، عمدت السلطات بدرجات مختلفة من الشدة إلى نزع ممتلكات الفلسطينيين، وإخضاعهم، وعزلهم، وفصلهم قسرا بحكم هويتهم. في بعض المناطق، بحسب ما يظهره التقرير، كان هذا الحرمان شديدا إلى درجة أنه يرقى إلى مستوى الفصل العنصري والاضطهاد، وهما جريمتان ضدّ الإنسانية.

هناك العديد من الافتراضات السائدة التي حجبت واقع التمييز الراسخ في حكم إسرائيل للفلسطينيين، ومنها اعتبار الاحتلال مؤقتا، وأن "عملية السلام" ستضع حدا للانتهاكات الإسرائيلية قريبا، وأن الفلسطينيين يتحكمون حقا في حياتهم في الضفة الغربية وغزة، وأنّ إسرائيل ديمقراطية قائمة على المساواة داخل حدودها. مارست إسرائيل حكما عسكريا على جزء من السكان الفلسطينيين طيلة تاريخها البالغ 73 عاما باستثناء ستة أشهر فقط. مارست ذلك على الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين داخل إسرائيل من 1948 إلى 1966. من 1967 إلى اليوم، حكمت فلسطينيي الأراضي المحتلة، باستثناء القدس الشرقية. في المقابل، حكمت إسرائيل منذ تأسيسها جميع الإسرائيليين اليهود، ومنهم المستوطنون في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ بداية الاحتلال في 1967، بموجب قانون مدني فيه احترام أكبر للحقوق.

على مدى السنوات الـ 54 الماضية، سهّلت السلطات الإسرائيلية نقل اليهود الإسرائيليين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنحتهم مكانة أعلى بموجب القانون مقارنة بالفلسطينيين الذين يعيشون في نفس المناطق في ما يتعلق بالحقوق المدنية، والوصول إلى الأرض، وحرية التنقل والبناء، ومنح حقوق الإقامة للأقارب. رغم أن الفلسطينيين لديهم قدر محدود من الحكم الذاتي في أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلا أنّ إسرائيل حافظت على سيطرة أساسية على الحدود، والمجال الجوي، وحركة الأشخاص والبضائع، والأمن، وسجل السكان بأكمله، وهو ما يُحدّد بدوره مسائل أخرى مثل المكانة القانونية وأهلية الحصول على بطاقات الهوية.

إسرائيل والأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل، والمكوّنة من الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، بالإضافة إلى مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل. © 2021 Human Rights Watch

 

عبّر مسؤولون إسرائيليون متعاقبون بوضوح عن نيتهم الحفاظ على هذه السيطرة إلى الأبد، ودعموا ذلك من خلال أفعالهم، بما فيها التوسع الاستيطاني المستمر طيلة "عملية السلام" منذ عقود. قد يؤدي الضمّ الأحادي الجانب لأجزاء أخرى من الضفة الغربية، الذي تعهدت حكومة بنيامين ناتنياهو بتنفيذه، إلى إضفاء طابع رسمي على واقع الهيمنة والقمع الإسرائيلي المنهجي السائد منذ فترة طويلة، دون تغيير واقع كون الضفة الغربية بأكملها محتلة بموجب القانون الدولي للاحتلال، بما فيها القدس الشرقية، التي ضمتها إسرائيل بشكل أحادي الجانب في 1967.

حدد القانون الجنائي الدولي جريمتين ضد الإنسانية لحالات التمييز والقمع المنهجيين: الفصل العنصري والاضطهاد. الجرائم ضدّ الإنسانية من أشنع الجرائم في القانون الدولي.

على مرّ السنين، فصل المجتمع الدولي مصطلح الفصل العنصري، "الأبارتهايد"، عن سياقه الأصلي في جنوب أفريقيا، وفرض حظرا عالميا على ممارسته، واعترف به كجريمة ضدّ الإنسانية وفقا للتعريفات المنصوص عليها في "الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها" لسنة 1973 (اتفاقية الفصل العنصري) و"نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية" لسنة 1998 (نظام روما الأساسي).

جريمة الاضطهاد كجريمة ضدّ الإنسانية، والمنصوص عليها أيضا في نظام روما الأساسي، والحرمان المتعمد والشديد من الحقوق الأساسية على أسس عرقية، وإثنية، وغيرها، انبثقت عن محاكمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتُعتبر إحدى أخطر الجرائم الدولية، بنفس خطورة الفصل العنصري.

دولة فلسطين هي دولة طرف في كل من نظام روما الأساسي واتفاقية الفصل العنصري. في فبراير/شباط 2021، قضت المحكمة الجنائية الدولية بأن ذلك يعني أن للمحكمة ولاية قضائية على الجرائم الدولية الجسيمة المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة بأكملها، بما فيها القدس الشرقية، والتي تشمل الجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في الفصل العنصري أو الاضطهاد المرتكب في تلك المنطقة. في مارس/آذار 2021، أعلن مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق رسمي في الوضع في فلسطين.

يُستخدم مصطلح الفصل العنصري بشكل متزايد فيما يتعلق بإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، لكن عادة على سبيل الوصف أو المقارنة وليس بالمعنى القانوني، وغالبا للتحذير من أنّ الوضع يسير في الاتجاه الخاطئ. على وجه الخصوص، أكد مسؤولون فلسطينيون وإسرائيليون وأمريكيون وأوروبيون، ومعلّقون إعلاميون بارزون وآخرون، أنه إذا استمرت سياسات إسرائيل وممارساتها تجاه الفلسطينيين على المسار نفسه، فإنّ الوضع، في الضفة الغربية على الأقل، سيشكّل فصلا عنصريا.[1] يدّعي البعض أن الوضع الحالي يرقى إلى مصاف الفصل العنصري.[2] غير أن قلة أجروا بحثا قانونيا مفصلا في جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد الدوليتين.[3]

تفحص "هيومن رايتس ووتش" في هذا التقرير إلى أي مدى تمّ تجاوز هذا المستوى بالفعل في بعضٍ من المناطق حيث تمارس إسرائيل سلطتها.

تعريف الفصل العنصري والاضطهاد

يشكّل حظر التمييز الممأسس، خاصة على أساس العرق أو الإثنية، أحد العناصر الأساسية للقانون الدولي. وافقت معظم الدول على اعتبار أسوأ أشكال هذا التمييز، أي الاضطهاد والفصل العنصري، جرائم ضدّ الإنسانية، ومنحت لـ "المحكمة الجنائية الدولية" صلاحية النظر في هذه الجرائم عندما تكون السلطات الوطنية غير قادرة أو غير راغبة في ذلك. تتكون الجرائم ضدّ الإنسانية من أفعال إجرامية محددة تُرتكب كجزء من اعتداء واسع النطاق أو بشكل ممنهج، أو أعمال تُرتكب في إطار سياسة لدولة أو سياسة تنظيمية، وموجهة ضدّ السكان المدنيين.

تُعرّف اتفاقية الفصل العنصري جريمة الفصل العنصري، وهي جريمة ضدّ الإنسانية، على أنها "الأفعال اللاإنسانية... المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية [عرقية] ما من البشر علي أية فئة عنصرية [عرقية] أخرى من البشر واضطهادها إياها بصورة منهجية". يعتمد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تعريفا مماثلا: "أية أفعال لا إنسانية... تُرتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه القمع المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وتُرتكب بنيّة الإبقاء على ذلك النظام". لا يقدم نظام روما الأساسي شرحا إضافيا بشأن ما الذي يشكل "نظاما مؤسسيا".

                                         

بموجب اتفاقية الفصل العنصري ونظام روما الأساسي، تتكوّن جريمة الفصل العنصري من ثلاثة عناصر أساسية: هي نية الإبقاء على نظام تُهيمن فيه مجموعة عرقية على أخرى؛ وقمع منهجي ترتكبه مجموعة عرقية ضد مجموعة أخرى؛ وعمل أو أعمال لاإنسانية، كما تمّ تعريفها، تُرتكب على نطاق واسع أو منهجي عملا بتلك السياسات.

من الأفعال اللاإنسانية التي حددتها اتفاقية الفصل العنصري ونظام روما الأساسي "الابعاد القسري"، و"نزع ملكية العقارات"، و"خلق محتجزات ومعازل مفصولة"، وحرمان الناس من "الحق في مغادرة الوطن والعودة إليه، والحق في حمل الجنسية".

يُعرّف نظام روما الأساسي جريمة "الاضطهاد" المرتكبة ضد الإنسانية على أنها "حرمان جماعة من السكان أو مجموع السكان حرمانا متعمدا وشديدا من الحقوق الأساسية بما يخالف القانون الدولي، وذلك بسبب هوية الجماعة أو المجموع"، بما في ذلك على أسس عرقية أو قومية. يُعرّف القانون الدولي العرفي جريمة الاضطهاد على أنها تتكون من عنصرين أساسيين: (1) الانتهاكات الجسيمة للحقوق الأساسية المرتكبة على نطاق واسع أو منهجي، و(2) التي لها نيّة تمييزية.

قلة هي المحاكم التي نظرت في قضايا تنطوي على جريمة الاضطهاد بينما لم تنظر أي محكمة في جريمة الفصل العنصري، ما أدى إلى نقص في السوابق القضائية المتعلقة بمعاني المصطلحات الرئيسية وتعريفاتها. كما يظهر في التقرير، قيّمت المحاكم الجنائية الدولية على مدى العقدين الماضيين الهوية الجماعيةعلى أنها تستند إلى السياق وكيفية بنائه من قبل الأطراف الفاعلة محليا، في مقابل المقاربات الأقدم المرتكزة على المزايا الجسدية الوراثية. في القانون الدولي لحقوق الإنسان، بما فيه " الاتفاقية الدولية للقضاء علي جميع أشكال التمييز العنصري"، تمّ تفسير العرق والتمييز العرقي على نطاق واسع ليشمل الفوارق على أساس النسب والأصل القومي أو العرقي، من بين فئات أخرى.

تطبيق ذلك على سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين

هناك مجموعتان رئيسيتان تعيشان في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة اليوم: الإسرائيليون اليهود والفلسطينيون. وهناك جهة واحدة ذات سيادة رئيسية تحكمهم، هي الحكومة الإسرائيلية.

نية إبقاء الهيمنة

الهدف المعلن للحكومة الإسرائيلية هو ضمان الحفاظ على هيمنة اليهود الإسرائيليين في كل مناطق إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. في 2018، أقرّ "الكنيست" قانونا ذا مكانة دستورية أكّد أن إسرائيل "دولة قومية للشعب اليهودي"، وأعلن أن حق تقرير المصير داخل تلك المنطقة "خاص بالشعب اليهودي"، واعتبر "الاستيطان اليهودي" قيمة وطنية. للحفاظ على سيطرة اليهود الإسرائيليين، اعتمدت السلطات الإسرائيلية سياسات تهدف إلى تخفيف ما وصفته علنا بـ "التهديد" الديمغرافي الذي يشكله الفلسطينيون. شملت هذه السياسات الحد من السكان الفلسطينيين ومن سلطتهم السياسية؛ ومنح حق التصويت فقط للفلسطينيين الذين يعيشون داخل حدود إسرائيل كما كانت من 1948 إلى يونيو/حزيران 1967؛ والحد من قدرة الفلسطينيين على التنقل من الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى إسرائيل، ومن أي مكان آخر في العالم إلى إسرائيل أو الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما تم اتخاذ خطوات أخرى لضمان الهيمنة اليهودية، ومنها اعتماد الدولة لسياسة "فصل" الفلسطينيين بين الضفة الغربية وغزة، التي حالت دون تنقل الأشخاص والبضائع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، و"تهويد" المناطق التي يسكنها عدد كبير من الفلسطينيين، بما في ذلك القدس وكذلك الجليل والنقب في إسرائيل. هذه السياسة، التي تهدف إلى تعزيز هيمنة الإسرائيليين اليهود على الأرض، جعلت غالبية الفلسطينيين الذين يعيشون خارج المدن الإسرائيلية الرئيسية ذات الأغلبية اليهودية متمركزين في جيوب محاصرة ذات كثافة عالية وخدمات رديئة. كما أنها قيّدت حصولهم على الأرض والمسكن، بينما رعت نموّ التجمعات اليهودية القريبة.

الاضطهاد الممنهج والتمييز المؤسسي

لتنفيذ هدف الهيمنة، تمارس الحكومة الإسرائيلية تمييزا مؤسسيا ضدّ الفلسطينيين. تختلف شدّة هذا التمييز بحسب القواعد المختلفة التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية من جهة في إسرائيل، ومن جهة أخرى في أجزاء مختلفة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث يُمارَس الشكل الأشد من هذا التمييز.

في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي اعترفت بها إسرائيل كمنطقة واحدة تشمل الضفة الغربية وغزة، تُعامل السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين بشكل منفصل وغير متساو مع المستوطنين اليهود الإسرائيليين. وفي الضفة الغربية المحتلة، تُخضع إسرائيل الفلسطينيين إلى قانون عسكري قاس، وتُطبق عليهم الفصل، وتحظر دخولهم إلى المستوطنات إلى حد كبير. أما في قطاع غزة المحاصر، فتفرض إسرائيل إغلاقا شاملا ما يقيّد بشدة حركة الأشخاص والبضائع، وهي سياسات غالبا لا تفعل مصر، الجارة الأخرى لغزة، شيئا يذكر لتخفيفها. في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل (والتي تعتبرها جزءا من أراضيها السيادية، لكنها تبقى بموجب القانون الدولي منطقة محتلة)، تمنح إسرائيل للغالبية العظمى من مئات آلاف الفلسطينيين الذين يعيشون هناك وضعا قانونيا يُضعف حقوقهم في الإقامة من خلال ربط هذه الحقوق بعلاقة الفرد بالمدينة، من بين عوامل أخرى. يرقى هذا النوع من التمييز إلى التمييز المنهجي.

في إسرائيل، والتي تعتبرها الغالبية العظمى من الدول أنها تشمل المنطقة المحددة بحدود ما قبل 1967، أدى نظام المواطنة المزدوج والتفريق بين الجنسية والمواطنة إلى وضع الفلسطينيين في مكانة أدنى من اليهود الإسرائيليين بحكم القانون. على خلاف الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يحق للفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل التصويت والمشاركة في الانتخابات الإسرائيلية، إلا أن هذه الحقوق لا تمكنّهم من التغلّب على التمييز المؤسسي الذي تمارسه بحقهم الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك القيود الواسعة على الوصول إلى الأراضي التي صودِرت منهم، وهدم المنازل، والحظر الفعلي على لمّ شمل العائلات.

تجزئة السكان الفلسطينيين، الذي يُنفذ في جزء منه بشكل متعمد من خلال القيود المفروضة على الحركة والإقامة، يعزّز تنفيذ هدف الهيمنة ويساعد في إخفاء الحقيقة المتمثلة في أن نفس الحكومة الإسرائيلية تقمع نفس المجموعة السكانية الفلسطينية، بدرجات مختلفة في مناطق مختلفة، لصالح نفس المجموعة المهيمنة، المكونة من اليهود الإسرائيليين.

الأفعال اللاإنسانية والانتهاكات الأخرى للحقوق الأساسية

عملا بهذه السياسات، ارتكبت السلطات الإسرائيلية مجموعة من الأفعال اللاإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنها فرض قيود شاملة على حركة 4.7 مليون فلسطيني هناك؛ ومصادرة الكثير من أراضيهم؛ وفرض ظروف قاسية، مثل الرفض القاطع لتصاريح البناء في أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، ما جعل آلاف الفلسطينيين يغادرون منازلهم في أوضاع ترقى إلى النقل القسري؛ وحرمان مئات آلاف الفلسطينيين وأقاربهم من حقوق الإقامة بسبب تواجدهم في الخارج عند بداية الاحتلال سنة 1967 أو غيابهم لفترات مطولة في العقدين الأولين من الاحتلال أو نتيجة للتجميد الفعلي للمّ شمل العائلات في العقدين الأخيرين؛ وتعليق الحقوق المدنية الأساسية، مثل حرية التجمع وتكوين الجمعيات، ما حرم الفلسطينيين من فرصة أن يكون لهم صوت في مجموعة واسعة من المسائل التي تؤثر على حياتهم اليومية ومستقبلهم. العديد من هذه الانتهاكات، ومنها الرفض القاطع لتصاريح البناء، والإلغاء الجماعي للإقامة أو تقييدها، ومصادرة الأراضي على نطاق واسع، ليس لها مبررات أمنية مشروعة. أما الانتهاكات الأخرى، مثل القيود المفروضة على التنقل والحقوق المدنية، فلا تحقق أي توازن معقول بين المخاوف الأمنية ومدى خطورة انتهاكات الحقوق الأساسية.

منذ تأسيس دولة إسرائيل، مارست الحكومة أيضا تمييزا منهجيا ضدّ الفلسطينيين وانتهكت حقوقهم داخل حدود الدولة ما قبل 1967، بما في ذلك رفض السماح للفلسطينيين بالوصول إلى ملايين الدونمات من الأراضي (ألف دونم يساوي مائة هكتار، أو حوالي 250 فدان أو 1 كيلومتر مربع) التي صودرت منهم. في منطقة النقب، جعلت هذه السياسات من شبه المستحيل بالنسبة إلى عشرات آلاف الفلسطينيين العيش بشكل قانوني في المجتمعات التي عاشوا فيها على مدى عقود. إضافة إلى ذلك، ترفض السلطات الإسرائيلية السماح لأكثر من 700 ألف فلسطيني ممن فرّوا أو طردوا في 1948 وذرّياتهم من العودة إلى إسرائيل أو الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفرضت قيودا شاملة على الإقامة القانونية، ما منع الكثير من الأزواج الفلسطينيين وعائلاتهم من العيش معا في إسرائيل.

نتائج التقرير

يفحص هذا التقرير السياسات والممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، ويقارنها بمعاملة اليهود الذين يعيشون في نفس المناطق. هذا التقرير ليس تقييما شاملا لجميع انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، وإنما يستعرض ممارسات وسياسات الحكومة الإسرائيلية التي تنتهك الحقوق الأساسية للفلسطينيين والتي تهدف إلى ضمان هيمنة اليهود الإسرائيليين، ويقيّمها في ضوء تعريف جريمتَيْ الفصل العنصري والاضطهاد باعتبارهما جريمتَيْن ضدّ الإنسانية.

يعتمد التقرير على سنوات من البحث والتوثيق من قبل "هيومن رايتس ووتش" ومنظمات حقوقية أخرى، بما في ذلك العمل الميداني الذي أجري في سياق هذا التقرير. راجعت هيومن رايتس ووتش أيضا قوانين إسرائيلية، ووثائق تخطيط حكومية، وتصريحات لمسؤولين، وسجلات الأراضي في إسرائيل. ومن ثم، تم تحليل هذه الأدلة بموجب المعايير القانونية لجريمتي الفصل العنصري والاضطهاد. راسلت هيومن رايتس ووتش في يوليو/تموز 2020 رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والتمست وجهات نظر الحكومة بشأن القضايا المطروحة، لكنها لم تتلق ردا حتى تاريخ نشر التقرير.

لا يقارن التقرير إسرائيل بجنوب أفريقيا أيام الفصل العنصري أو تحديد ما إذا كانت إسرائيل "دولة فصل عنصري"، وهو مفهوم غير معرف في القانون الدولي. إنما، يقيّم التقرير ما إذا كانت أفعال وسياسات محددة تنفذها السلطات الإسرائيلية اليوم ترقى في مناطق محددة إلى جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد كما يعرّفهما القانون الدولي.

ينظر كل واحد من الأقسام الموضوعية الرئيسية الثلاثة في التقرير في حكم إسرائيل للفلسطينيين: ديناميكيات حكمها وتمييزها بالنظر إلى إسرائيل ثم الأراضي الفلسطينية المحتلة، والانتهاكات الحقوقية الجسيمة التي ترتكبها هناك، وبعض الأهداف التي تحفّز هذه السياسات. يتم ذلك بحسب العناصر الأساسية لجريمتَيْ الفصل العنصري والاضطهاد، على النحو المبيّن أعلاه. تقيّم هيومن رايتس ووتش ديناميكيات الحكم الإسرائيلي في من هاتين المنطقتين، مع أخذ الأطر القانونية المختلفة السارية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل بعين الاعتبار، وهما الكيانان الإقليميان المعترف بهما قانونا، وكل منهما له وضع مختلف بموجب القانون الدولي. بينما يلاحظ التقرير وجود اختلافات كبيرة في الوقائع بين المناطق المختلفة ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، فهو لا يعرض نتائج منفصلة بكل منطقة ضمن هذين الإقليمين.

بناءً على بحثها، خلصت هيومن رايتس ووتش إلى أن الحكومة الإسرائيلية أظهرت نيتها الحفاظ على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي التي تسيطر عليها. في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، اقترنت هذه النية بالقمع المنهجي للفلسطينيين والأفعال اللاإنسانية ضدهم. عندما تحدث هذه العناصر الثلاثة معا، فإنها ترقى إلى جريمة الفصل العنصري.

كما ارتكب المسؤولون الإسرائيليون جريمة الاضطهاد، وهي أيضا جريمة ضدّ الإنسانية. تستند هذه النتيجة إلى نية التمييز الكامنة وراء معاملة إسرائيل للفلسطينيين، والانتهاكات الخطيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي شملت المصادرة الواسعة للأراضي بملكيّة خاصة، والمنع الفعلي للبناء أو العيش في العديد من المناطق، والحرمان الجماعي من حقوق الإقامة، والقيود المجحفة المفروضة منذ عقود على حرية التنقل والحقوق المدنية الأساسية. هذه السياسات والممارسات تحرم ملايين الفلسطينيين بشكل متعمد وبشدّة من حقوقهم الأساسية، ومنها الحق في الإقامة، والملكية الخاصة، والوصول إلى الأراضي والخدمات والموارد، وذلك على نطاق واسع وبشكل منهجي بحكم هويتهم كفلسطينيين.

 السعي وراء أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد من الفلسطينيين

سعت السياسة الإسرائيلية إلى هندسة وتوسيع عدد اليهود والأراضي المتاحة لهم في إسرائيل وأجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تطمع فيها الحكومة الإسرائيلية للاستيطان اليهودي. في الوقت نفسه، تسعى السياسة الإسرائيلية من خلال تقييد حقوق الإقامة للفلسطينيين إلى تقليص عدد الفلسطينيين والأراضي المتاحة لهم في تلك المناطق. مستوى القمع هو أكثر حدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مع أنه غالبا ما يمكن العثور على جوانب أقل حدة لسياسات مماثلة داخل إسرائيل.

في الضفة الغربية، صادرت السلطات أكثر من مليونَي دونم من الأراضي من الفلسطينيين، ما يشكل أكثر من ثلث الضفة الغربية، منها عشرات آلاف الدونمات التي تقر بأنها بملكية خاصة تعود إلى فلسطينيين. أحد التكتيكات الشائعة الذي استخدمته هو إعلان الأراضي، ومنها ملكيات خاصة تعود إلى فلسطينيين، كـ "أراضي دولة". قدّرت حركة "السلام الآن" الإسرائيلية الأراضي التي حددتها الحكومة الإسرائيلية كأراضي دولة بـ 1.4 مليون دونم، أي حوالي ربع الضفة الغربية. وجدت الحركة أيضا أن أكثر من 30% من الأراضي التي استخدمت لصالح المستوطنات اعترفت الحكومة الإسرائيلية بكونها بملكية خاصة للفلسطينيين. من بين أكثر من 675 ألف دونم من أراضي الدولة التي خصصتها السلطات الإسرائيلية للاستخدام من قبل أطراف ثالثة في الضفة الغربية، تم تخصيص أكثر من 99% منها للاستخدام من قبل مدنيين إسرائيليين، بحسب بيانات الحكومة. الاستيلاء على الأراضي من أجل المستوطنات والبنية التحتية التي تخدم المستوطنين بشكل أساسي، تسبب في تمركز الفلسطينيين في الضفة الغربية في"165 جزيرة تشكّل أقاليم مفصولة ومشلولة"، بحسب "بتسيلم".

 

جعلت السلطات الإسرائيلية أيضا شبه مستحيل على الفلسطينيين في "المنطقة ج"، التي تشكّل حوالي 60 % من الضفة الغربية والتي وضعتها "اتفاقيات أوسلو" تحت سيطرة إسرائيل، وكذلك الذين يعيشون في القدس الشرقية، الحصول على تصاريح بناء. على سبيل المثال ، وافقت السلطات في المنطقة ج على أقل من 1.5%من طلبات البناء التي قدمها فلسطينيون ما بين 2016 و2018 – ما مجموعه 21 – وهو عدد أصغر 100 مرة من عدد قرارات الهدم الصادرة في نفس الفترة، بحسب بيانات رسمية. هدمت السلطات الإسرائيلية أيضا الآلاف من ممتلكات الفلسطينيين في هذه المناطق لعدم حصولها على تراخيص، ما تسبب في تهجير آلاف العائلات. في المقابل، وبحسب حركة السلام الآن، بدأت السلطات الإسرائيلية في بناء أكثر من23,696  وحدة سكنية بين 2009 و2020 في المستوطنات الإسرائيلية في المنطقة "ج"، وهو ما ينتهك حظر نقل مواطني سلطة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة بموجب القانون الإنساني الدولي. قيام قوة الاحتلال بنقل السكان المدنيين إلى أراض محتلة ينتهك "اتفاقية جنيف الرابعة".

تنبثق هذه السياسات عن خطط طويلة الأمد للحكومة الإسرائيلية. مثلا، دعت "خطة دروبلس" لسنة 1980، التي وجّهت سياسة الاستيطان الحكومية في الضفة الغربية في ذلك الوقت وارتكزت على خطط سابقة، السلطات إلى "الاستيطان في الأراضي الواقعة بين مراكز الأقليات [العربية] والمناطق المحيطة بها"، مشيرة إلى أن ذلك "سيصعّب على الفلسطينيين خلق امتداد جغرافي ووحدة سياسية" و"سيزيل أي أثر للشك في نيتنا للسيطرة على يهودا والسامرة إلى الأبد".

في القدس، حدّدت خطة الحكومة للبلدية، بما في ذلك غرب المدينة وشرقها المحتل، هدف "الحفاظ على أغلبية يهودية متينة في المدينة"، والعمل على تركيبة ديمغرافية "قوامها 70%يهود و30%عرب" – قبل أن تُعدّل ذلك في وقت لاحق لتصبح النسبة 60:40، بعد أن أقرّت السلطات بأن "هذا الهدف غير قابل للتحقق" في ضوء "الاتجاه الديمغرافي".

نفذت الحكومة الإسرائيلية أيضا عمليات استيلاء تمييزية على أراض داخل إسرائيل، حيث اعتمدت على آليات مختلفة للاستيلاء على 4.5 مليون دونم على الأقل من أراضي الفلسطينيين، بحسب مؤرّخين، وهو ما يتراوح بين 65 و75% من مجموع الأراضي التي كانت بملكيّة الفلسطينيين قبل 1948، وبين 40 و60% من مجموع الأراضي التي كانت بملكيّة الفلسطينيين ممن بقوا هناك بعد 1948، وأصبحوا مواطنين إسرائيليين. أعلنت السلطات في السنوات الأولى من عمر الدولة أراضي المهجّرين الفلسطينيين "أراضي غائبين" أو "مناطق عسكرية مغلقة"، ثم استولت عليها وحولتها إلى أراضي دولة وشيدت تجمعات يهودية فوقها. تواصل السلطات منع المواطنين الفلسطينيين من الوصول إلى الأراضي التي صودرت منهم. وجد تقرير أنجز بتكليف من الحكومة عام 2003 أن "أنشطة المصادرة سُخرت بشكل واضح وصريح لصالح الأغلبية اليهودية" وأن أراضي الدولة، التي تشكل 93% من جميع الأراضي في إسرائيل، تخدم فقط "الاستيطان اليهودي". منذ 1948، سمحت الحكومة  بإنشاء أكثر من 900 "بلدة يهودية" في إسرائيل، لكنها سمحت فقط لعدد قليل من القرى والبلدات التي خططت لها الحكومة للفلسطينيين، والتي أنشئت إلى حدّ كبير بهدف تركيز التجمعات البدوية المهجرة التي كانت تعيش في النقب.

مصادرة الأراضي وغيرها من سياسات الأراضي التمييزية في إسرائيل تحصل في  السلطات المحليّة الفلسطينية داخل إسرائيل، مما يحرمها من فرص التوسع الطبيعي التي تحظى بها البلديات اليهودية. الغالبية العظمى من المواطنين الفلسطينيين، الذين يشكلون نحو 19% من سكان إسرائيل، تعيش في هذه البلديات، التي لها نفوذ فيها على ما يقدر بأقل من 3% من جميع الأراضي داخل إسرائيل. بينما يستطيع الفلسطينيين داخل إسرائيل التنقل بحرية، ويعيش بعضهم في "مدن مختلطة"، مثل حيفا، وتل أبيب-يافا، وعكا، إلا أن القانون الإسرائيلي يسمح للبلدات باستبعاد السكان المحتملين على أساس عدم توافقهم مع "نسيجها الاجتماعي الثقافي". بحسب دراسة أعدها أستاذ في "التخنيون – معهد إسرائيل التكنولوجي" في حيفا، هناك أكثر من 900 مدينة يهودية صغيرة، بما فيها "كيبوتسات " )تعاونيات زراعية يهودية(، في كل أنحاء إسرائيل يُمكنها تقييد من يمكنه العيش فيها. ليس هناك أي فلسطينيين في هذه المدن.

في النقب في إسرائيل، رفضت السلطات الإسرائيلية الاعتراف قانونيًا بـ 35 بلدة وقرية بدوية فلسطينية، ما يجعل من المستحيل  لنحو 90 ألف شخص العيش بطريقة قانونية في التجمعات التي كانوا قد عاشوا فيها منذ عقود. بدلا من ذلك، سعت السلطات إلى تركيز التجمعات البدوية في بلدات وقرى أكبر معترف بها من أجل توسيع الأراضي المتاحة للتجمعات اليهودية، كما هو مبيّن في الخطط الحكومية وتصريحات المسؤولين. يعتبر القانون الإسرائيلي كل المباني في هذه القرى غير المعترف بها غير قانونية، وقد رفضت السلطات ربط معظمها بالشبكات الوطنية للكهرباء أو المياه ، أو حتى توفير البنى التحتية الأساسية، مثل الطرقات المعبّدة أو شبكات الصرف الصحي. لا تظهر هذه التجمعات السكانية على الخرائط الرسمية، وأغلبها لا توجد فيها منشآت تعليمية، ويعيش سكانها في خوف دائم من هدم منازلهم. هدمت السلطات الإسرائيلية أكثر من عشرة آلاف منزل للبدو في النقب ما بين 2013 و2019، بحسب بيانات حكومية. كما وجرفت أيضا قرية العراقيب غير المعترف بها، والتي طعن أهاليها في مصادرة أراضيهم، 185 مرة.

نفذت السلطات هذه السياسات وفقا لخطط الحكومة منذ السنوات الأولى لقيام الدولة، والتي دعت إلى تقييد التجمعات البدو من أجل ضمان أراض مناسبة لتوطين اليهود. قبل عدة أشهر من توليه منصب رئيس الوزراء في ديسمبر/كانون الأول 2000، أعلن آرييل شارون أن بدو النقب "يقضمون احتياطي أراضي البلاد"، وهو ما وصفه بـ "الظاهرة الديمغرافية". كرئيس وزراء، استمر شارون في متابعة خطّة بمليارات الدولارات سعت بكل وضوح إلى زيادة السكان اليهود في مناطق النقب والجليل في إسرائيل، وهي مناطق ذات عدد كبير من السكان الفلسطينيين. وصف نائبه شمعون بيريس  الخطة لاحقا بأنها "معركة من أجل مستقبل الشعب اليهودي".

رغبة شارون في تهويد النقب، وكذلك الجليل، كانت على خلفية قرار الحكومة بسحب المستوطنين اليهود من غزة. بعد إنهاء الاستيطان هناك، بدأت إسرائيل في معاملة غزة بشكل فعلي  كولاية إقليمية يُمكن اعتبار سكانها خارج الحسابات الديمغرافية لليهود والفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل والغالبية العظمى للأراضي الفلسطينية المحتلة – الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية – التي تنوي إسرائيل الاحتفاظ بها. أقر المسؤولون الإسرائيليون في ذلك الوقت بالأهداف الديمغرافية لهذه الخطوة. في خضم العمل على إخلاء المستوطنين من غزة، قال شارون في خطاب موجّه إلى الإسرائيليين في أغسطس/آب 2005: "لا يمكننا أن نتشبث بغزة إلى الأبد. أكثر من مليون فلسطيني يعيشون هناك، ويضاعفون أنفسهم كل جيل". في الشهر نفسه، قال بيريز: "نحن ننسحب من غزة بسبب الديموغرافيا".

رغم سحب مستوطنيها وقواتها البرية، ظلّت إسرائيل القوّة العليا في غزة بأساليب مختلفة، حيث هيمنت بوسائل أخرى، وبالتالي تبقى التزاماتها القانونية كقوة احتلال، مثلما خلصت إلى ذلك "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" و"الأمم المتحدة"، من بين جهات أخرى. والأهم من ذلك أن إسرائيل تمنع الفلسطينيين الذين يعيشون هناك )مع استثناءات محدودة فقط( من المغادرة من معبر إيريز الذي تسيطر عليه، وفرضت "سياسة فصل" رسمية بين غزة والضفة الغربية، رغم أن اسرائيل اعترفت في إطار اتفاقيات أوسلو بأن هاتين المنطقتين من الأراضي الفلسطينية المحتلة دة تشكلان "وحدة جغرافية واحدة ". حظر السفر المعمّم، الذي ظلّ ساريا منذ 2007، وقلّص السفر إلى خارج غزة حتى صار جزءا صغيرا مما كان عليه قبل عقدين من الزمن، لا يستند إلى تقديرات أمنية فردية ولا يستجيب إلى أي اختبار معقول لموازنة المخاوف الأمنية مع الحق في حرية التنقل لأكثر من مليونَيْ شخص.

فرضت السلطات أيضا قيودا مشددة على دخول وخروج البضائع من غزة وإليها، ما تسبب في قطعها فعليا عن العالم الخارجي، لا سيما في ظل إغلاق مصر لحدودها أيضا. هذه القيود ساهمت في الحدّ من الوصول إلى الخدمات الأساسية، وتدمير الاقتصاد، وجعلت 80% من السكان يعتمدون على المساعدات الإنسانية. اضطرت العائلات في غزة في السنوات الأخيرة إلى العيش من دون الكهرباء التي تُنتج مركزيا لما يتراوح بين 12 و20 ساعة يوميا، بحسب الفترة. المياه أيضا نادرة للغاية. تعتبر الأمم المتحدة أن 96% من إمدادات المياه في غزة "غير صالحة للاستهلاك البشري".

داخل الضفة الغربية أيضا، تمنع السلطات الإسرائيلية حاملي بطاقات الهوية الفلسطينية من الدخول إلى مناطق مثل القدس الشرقية، والأراضي خلف جدار الفصل، والمناطق الخاضعة لسيطرة المستوطنات والجيش، ما لم يحصلوا على تصاريح صعبة المنال. كما وضعت السلطات تقريبا 600 حاجز دائم، الكثير منها بين التجمعات الفلسطينية، والتي تتسبب في تعطيل الحياة اليومية للفلسطينيين. في تناقض حاد مع ذلك، تسمح السلطات للمستوطنين اليهود بالحركة بشكل حر  ضمن الجزء الأكبر من الضفة الخاضع لسيطرتها الحصرية، وكذلك من وإلى إسرائيل، على طرقات تم تشييدها لتسهيل تنقلهم وادماجهم في كل جوانب الحياة في إسرائيل.

الاعتبارات الديمغرافية لها دور مركزي في سياسة الفصل التي تعتمدها إسرائيل بين الضفة الغربية وغزة. على وجه الخصوص، في الحالات النادرة التي تسمح فيها بالتنقل بين جزأي الأراضي المحتلة، تسمح السلطات غالبا بالتنقل في اتجاه غزة، وبالتالي تُسهل تدفق السكان بعيدا عن المنطقة التي تروّج فيها بنشاط للاستيطان اليهودي. تنص السياسات الرسمية للجيش الإسرائيلي على أن سكان الضفة الغربية يستطيعون التقدم بطلب لـ "إعادة التوطين الدائم في قطاع غزة لأي سبب يُعتبر إنساني (عادة لم شمل العائلة )"، لكن سكان غزة لا يستطيعون الاستقرار في الضفة الغربية إلا "في الحالات النادرة جدا"، المرتبطة عادة بلم شمل العائلة. في هذه الحالات، تكون السلطات مكلفة بالعمل على إعادة توطين الزوجين في غزة عند الموافقة على لم شمل العائلة . تبرز البيانات الرسمية أن إسرائيل لم توافق على إعادة توطين أي شخص من سكان غزة في الضفة الغربية، باستثناء عدد محدود من الأشخاص الذين قدموا التماسات للمحكمة العليا بين 2009 ومارس/آذار 2017، بينما سمحت للعشرات من سكان الضفة الغربية بالانتقال إلى غزة بشرط التوقيع على تعهد بعدم العودة إلى الضفة.

إلى جانب سياسة الإغلاق، لطالما استخدمت السلطات الإسرائيلية وسائل قمعية وعشوائية أثناء الأعمال العدائية والاحتجاجات في غزة. منذ 2008، شنّ الجيش الإسرائيلي ثلاث هجمات عسكرية واسعة النطاق على غزة في سياق الأعمال العدائية مع الجماعات الفلسطينية المسلحة. كما يظهر في التقرير، هذه الهجمات شملت على ما يبدو غارات متعمدة على المدنيين والبنى التحتية المدنية، وقتلت أكثر من ألفي مدني. بالإضافة إلى ذلك، أطلقت القوات الإسرائيلية بانتظام النار على المتظاهرين الفلسطينيين وغيرهم ممن يقتربون من السياج الفاصل بين غزة وإسرائيل في أوضاع لم يكونوا يشكلون فيها تهديدا وشيكا للحياة، ما أسفر عن مقتل 214 متظاهرا في 2018 و2019 فقط، مع إصابة آلاف آخرين. تنبع هذه الممارسات من نمط استمر لعقود من الاستخدام المفرط وغير المتناسب للقوة لقمع الاحتجاجات والاضطرابات، فكانت له تكلفة مدنية باهظة. رغم تكرار مثل هذه الحوادث على مرّ السنين، لم تعتمد إسرائيل تكتيكات إنفاذ قانون متوافقة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

قيود تمييزية على الإقامة والجنسية

يواجه الفلسطينيون قيودا تمييزية على حقوقهم في الإقامة والجنسية بدرجات متفاوتة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل. استغلّت السلطات سيطرتها على سجلّ السكان في الضفة الغربية وغزّة، أي قائمة الفلسطينيين الذين تعتبرهم سكانا شرعيين لأسباب تتعلق بإصدار وثائق تثبت المكانة  القانونية وبطاقات الهوية، لتحرم مئات آلاف الفلسطينيين من الإقامة. رفضت السلطات الإسرائيلية تسجيل ما لا يقل عن 270 ألف فلسطيني كانوا خارج الضفة الغربية وغزة في بداية الاحتلال عام 1967، وألغت إقامة حوالي 250 ألف آخرين لكونهم كانوا في الخارج لفترة مطولة بين 1967 و1994. منذ سنة 2000، ترفض السلطات الإسرائيلية إلى حدّ كبير دراسة طلبات لمّ الشمل أو تغيير العنوان التي يقدمها الفلسطينيون في الضفة الغربية أو قطاع غزة. هذا التجميد يمنع الفلسطينيين فعليا من الحصول على وضع قانوني لأزواجهم أو أقاربهم غير المسجلين. بحسب الجيش الإسرائيلي، فإن تواجد الآلاف من سكان غزة ممن جاؤوا بتصاريح مؤقتة إلى الضفة الغربية، وصاروا يعيشون فيها، غير قانوني، لأنهم لا يستطيعون نقل عناوينهم إليها. تؤدي هذه القيود إلى الحد من عدد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية.

تمنع السلطات بشكل منتظم الفلسطينيين غير المسجلين وأزواجهم غير المسجلين وأفراد عائلاتهم الآخرين من الدخول الى الضفة الغربية وهم ممن كانوا يعيشون هناك لكنهم غادروها بشكل مؤقت (للدراسة أو العمل أو الزواج أو لأسباب أخرى).

عندما ضمّت إسرائيل القدس الشرقية عام 1967، طبقت "قانون الدخول" لعام 1952 على الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون هناك وصنفتهم كـ "مقيمين دائمين"، وهو نفس الوضع الذي يُمنح لأي أجنبي غير يهودي ينتقل إلى إسرائيل. أسقطت وزارة الداخلية هذا الوضع عن 14,701 فلسطيني على الأقل منذ 1967، لأن أغلبهم لم يتمكنوا من إثبات "مركز حياة" في المدينة. يوجد مسار للحصول على المواطنة الإسرائيلية، لكن عددا قليلا من الناس يتقدّمون عليه، وأغلب من فعلوا ذلك في السنوات الأخيرة لم يُمنحوا المواطنة. على النقيض من ذلك، يُعتبر يهود القدس، بما في ذلك المستوطنون في القدس الشرقية، مواطنين لا يتعيّن عليهم إثبات صلاتهم بالمدينة ليحافظوا على وضعهم.

داخل إسرائيل، يؤكد "إعلان استقلال إسرائيل" على "المساواة التامة" بين جميع السكان، لكن نظام المواطنة القائم على مسارين ينتهك هذا التعهد، وينظر فعليا إلى اليهود والفلسطينيين على أنهم منفصلون لكن غير متساوين. يحتوي "قانون المواطنة الإسرائيلي" لسنة 1952 مسارا منفصلا مخصصا لليهودي بشكل حصري، ويمنحهم الجنسية بشكل تلقائي، وهو منبثق عن "قانون العودة" لعام 1950. يضمن ذلك القانون لليهود الذين يحملون جنسيات أخرى حق الاستقرار في إسرائيل. في المقابل، فإن المسار الخاص بالفلسطينيين يربط الحصول على المواطنة بإثبات الإقامة قبل 1948 في المنطقة التي أصبحت فيما بعد ضمن إسرائيل، ووجود اسم الشخص في سجل السكان حتى العام 1952، وحضوره الدائم في إسرائيل أو دخولها بشكل قانوني في الفترة بين 1948 و1952. استخدمت السلطات هذه الصيغة لحرمان أكثر من 700 ألف فلسطيني ممن فرّوا أو طردوا سنة 1948 وأحفادهم من الإقامة، واليوم صار عدد هؤلاء يتجاوز 5.7 مليون نسمة. هذا القانون خلق واقعا يستطيع فيه اليهودي الحامل لأي جنسية أخرى، والذي لم يدخل إسرائيل يوما، من الانتقال إليها والحصول على جنسيتها، بينما يُمنع من ذلك الفلسطيني الذي طرد من منزله وبقي أكثر من 70 عاما في مخيم للاجئين في بلد مجاور.

قانون المواطنة لسنة 1952 يسمح أيضا بمنح الجنسية على أساس التجنّس. لكن في 2003 أقرّ الكنيست "قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل (أمر الساعة)" الذي منع منح الجنسية الإسرائيلية والمكانة  القانونية طويل الأمد لفلسطينيي الضفة الغربية وغزة المتزوجين من مواطنين إسرائيليين أو مقيمين في إسرائيل. مع استثناءات قليلة، هذا القانون، الذي يُجدَّد كل عام منذئذ وأيدته المحكمة العليا الإسرائيلية، يحرم المواطنين اليهود والمواطنين الفلسطينيين والمقيمين في إسرائيل الذين يختارون الزواج من فلسطينيين من الحق في العيش مع شريكهم في إسرائيل. الملفت أن هذا القيد المستند فقط إلى هوية الزوج/الزوجة كفلسطيني/ة من الضفة الغربية أو غزة لا ينطبق عندما يتزوج الإسرائيليون من غير اليهود من معظم الجنسيات الأجنبية الأخرى. يمكنهم الحصول على وضع فوري وتقديم طلب للحصول على الجنسية بعد عدة سنوات.

تعليقا على تجديد القانون في 2005، قال رئيس الوزراء آنذاك آرييل شارون: "لا داعي للاختباء وراء الحجج الأمنية. هناك حاجة لوجود دولة يهودية". قال بنيامين نتنياهو، الذي كان حينها وزير المالية، خلال مناقشات في ذلك الوقت: "بدلا من تسهيل الأمر على الفلسطينيين الراغبين في الحصول على المواطنة، يجب أن نجعل العملية أكثر صعوبة حتى نضمن أمن إسرائيل والأغلبية اليهودية فيها". في مارس/آذار 2019، هذه المرة بصفته رئيسا للوزراء، أعلن نتنياهو: "إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها"، بل هي "الدولة القومية للشعب اليهودي... للشعب اليهودي وحده".

يعطي القانون الدولي لحقوق الإنسان مجالا واسعا للحكومات في وضع سياسات الهجرة الخاصة بها. لا يوجد في القانون الدولي ما يمنع إسرائيل من تشجيع الهجرة اليهودية. يحق لليهود الإسرائيليين، الذين هاجر العديد منهم تاريخيا إلى فلسطين في زمن الانتداب أو لاحقا إلى إسرائيل هربا من الاضطهاد المعادي للسامية في أجزاء مختلفة من العالم، حماية سلامتهم وحقوقهم الأساسية. ومع ذلك، فإن هذا الهامش من الحرية  لا يمنح الدولة حق التمييز ضد الأشخاص الذين يعيشون أصلا في ذلك البلد، بما في ذلك فيما يتعلق بحقوق لم شمل العائلة، وضد الأشخاص الذين لديهم الحق في العودة إلى البلاد. كما يحق للفلسطينيين حماية سلامتهم وحقوقهم الأساسية.

المبررات الإسرائيلية للسياسات والممارسات

تبرّر السلطات الإسرائيلية العديد من السياسات الموثّقة في هذا التقرير على أنها ردّ على العنف الفلسطيني ضدّ إسرائيل. غير أن العديد من هذه السياسات، مثل رفض تصاريح البناء في المنطقة ج والقدس الشرقية والنقب، وإسقاط الإقامة عن المقدسيين، ومصادرة الأراضي ذات الملكية الخاصة، وتوزيع أراضي الدولة بشكل تمييزي، ليس لها أي مبررات أمنية مشروعة. أما السياسات الأخرى، مثل قانون المواطنة ودخول إسرائيل وتجميد سجل سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة، فتستخدم الأمن كذريعة لتحقيق أهداف ديمغرافية.

تواجه السلطات الإسرائيلية تحديات أمنية مشروعة في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. غير أن القيود التي لا ترمي إلى تحقيق توازن بين حقوق الإنسان، مثل حرية التنقل، والمخاوف الأمنية المشروعة، مثل إجراء تقييمات أمنية فرديّة وليس منع جميع سكان غزة من المغادرة باستثناء قلة نادرة، تتجاوز بكثير ما يسمح به القانون الدولي. حتى عندما يكون الأمن جزءا من الدافع إلى اعتماد سياسة معينة، فإن ذلك لا يمنح  إسرائيل تفويضا مطلقا لانتهاك الحقوق بشكل جماعي. قد تكون المخاوف الأمنية المشروعة حاضرة في السياسات التي ترقى إلى الفصل العنصري، تماما كما قد تكون حاضرة في السياسات التي تعاقب استخدام القوة المفرطة أو التعذيب.

يزعم المسؤولون أحيانا أن الاجراءات المتخذة في الأراضي الفلسطينية المحتلة مؤقتة ويُمكن إلغاؤها في سياق اتفاقية سلام. بدءا من رئيس الوزراء ليفي إشكول عن "حزب العمال"، الذي قال في يوليو/تموز 1967: "لا أرى سوى منطقة شبه مستقلة [للفلسطينيين] لأن الأمن والأرض بيد الإسرائيليين"، ووصولا إلى نتنياهو عن "حزب الليكود"، الذي قال في يوليو/تموز 2019: "ستستمر القوات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في السيطرة على المنطقة بأكملها، حتى نهر الأردن"، أكد عدد من المسؤولين بوضوح نيتهم الاحتفاظ بسيطرة قوية ودائمة على الضفة الغربية، بغض النظر عن الاتفاقيات المعتمدة لحكم الفلسطينيين. أفعال هؤلاء وسياساتهم تبدّد فكرة أن السلطات الإسرائيلية تعتبر الاحتلال مؤقتا، بما في ذلك الاستمرار في مصادرة الأراضي، وبناء جدار الفصل بطريقة تأخذ في الاعتبار نموّ المستوطنات، والدمج السلس لنظام الصرف الصحي ، وشبكات الاتصالات والكهرباء والماء والبنى التحتية، والطرق في المستوطنات ضمن إسرائيل، بالإضافة إلى مجموعة متزايدة من القوانين التي تنطبق على المستوطنين الإسرائيليين دون الفلسطينيين في الضفة الغربية. احتمال الوصول إلى اتفاق بين زعيم إسرائيلي مستقبلي والفلسطينيين لتفكيك هذا النظام التمييزي ووضع حدّ للقمع المنهجي لن يلغي نية المسؤولين الحاليين في الحفاظ على النظام الحالي، ولا الواقع الحالي القائم على الفصل العنصري والاضطهاد.

التوصيات

على الحكومة الإسرائيلية تفكيك جميع أشكال القمع والهيمنة المنهجية التي تمنح امتيازات لليهود الإسرائيليين وتقمع الفلسطينيين بشكل منهجي، ووضع حد لاضطهاد الفلسطينيين. ويتعين على السلطات تحديدا وضع حدّ للسياسات والممارسات التمييزية بخصوص حقوق المواطنة والإقامة، والحقوق المدنية، وحرية التنقل، وتوزيع الأراضي والموارد، والحصول على الماء والكهرباء والخدمات الأخرى، ومنح تصاريح البناء.

النتائج التي تبين ارتكاب جريمتَيْ الفصل العنصري والاضطهاد لا تُلغي حقيقة الاحتلال الإسرائيلي ولا التزامات إسرائيل بموجب قانون الاحتلال، وهو ما لن تفعله أيضا أي نتائج أخرى تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب. بالتالي، يتعين على السلطات الإسرائيلية الكف عن بناء المستوطنات، وتفكيك المستوطنات القائمة، وأن تحترم حقوق الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة بشكل كامل، باستخدام الحقوق التي تمنحها للمواطنين الإسرائيليين كمعيار، فضلا عن إجراءات الحماية التي يكفلها لهم القانون الدولي لحقوق الإنسان.

على السلطة الفلسطينية وقف أشكال التنسيق الأمني مع الجيش الإسرائيلي التي تساهم في تسهيل ارتكاب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد المرتكبتين ضد الإنسانية.

النتيجة المتعلقة بحصول جرائم ضدّ الإنسانية يجب أن تدفع المجتمع الدولي إلى إعادة تقييم نهجه تجاه إسرائيل وفلسطين. الولايات المتحدة، التي تقاعست لعقود طويلة عن الضغط على الحكومة الإسرائيلية لتكف عن قمعها المنهجي للفلسطينيين، أشارت في بعض الحالات في السنوات الأخيرة إلى دعمها لانتهاكات خطيرة، مثل بناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة. أقامت العديد من الدول الأوروبية والدول الأخرى علاقات وثيقة مع إسرائيل وفي نفس الوقت دعمت "عملية السلام"، وبنت قدرات السلطة الفلسطينية، ونأت بنفسها وأحيانا انتقدت ممارسات مسيئة محددة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا النهج، الذي يتجاهل الطبيعة الراسخة للتمييز والقمع الإسرائيليين في حق الفلسطينيين، يقلّل من شأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالتعامل معها كأعراض مؤقتة للاحتلال ستعالجها "عملية السلام" قريبا. هذا النهج مكّن أيضا الدول من مقاومة نوع المساءلة الذي يتطلبه وضع بهذه الخطورة، مما يسمح بتفشي الفصل العنصري وترسّخه. بعد 54 عاما، يتعين على الدول التوقف عن تقييم الوضع من منطلق ما يُمكن أن يحدث إذا تمّ إحياء عملية السلام المتعثرة، والتركيز بدلا من ذلك على الواقع القائم منذ أمد طويل ، والذي لا يُظهر أي علامات تراجع.

يُمكن استخدام الجرائم ضدّ الإنسانية كأساس للمسؤولية الجنائية الفردية في المحافل الدولية، وكذلك في المحاكم المحلية خارج إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية.

في ضوء تقاعس السلطات الإسرائيلية طوال عقود عن ردع الانتهاكات الجسيمة، يجب على مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية التحقيق مع الأفراد المتورطين بشكل موثوق في الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الفصل العنصري أو الاضطهاد ومقاضاتهم. للمحكمة اختصاص في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد فتحت المدعية العام تحقيقا فيها. بالإضافة إلى ذلك، على جميع الحكومات التحقيق مع الضالعين بشكل موثوق في هذه الجرائم ومقاضاتهم، بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية ووفقا للقوانين الوطنية.

وفيما هو أبعد من العنصر الجرمي، تدعو هيومن رايتس ووتش الدول إلى إنشاء لجنة دولية لتقصي الحقائق عبر "الجمعية العامة للأمم المتحدة" للتحقيق في التمييز والقمع المنهجيين على أساس الهوية الجماعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل. ينبغي أن تكون للجنة صلاحية تحديد الوقائع وتحليلها، وتحديد المتورطين في الجرائم الخطيرة، بما يشمل جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد، بهدف ضمان محاسبة الجناة، وكذلك جمع الأدلة المتعلقة بالانتهاكات وحفظها للاستخدام مستقبلا من قبل مؤسسات قضائية ذات مصداقية.

يتعين على الدول أن تنشئ أيضا من خلال الأمم المتحدة منصب مبعوث الأمم المتحدة المعني بجريمتي الفصل العنصري والاضطهاد ومهمته تعبئة العمل الدولي للقضاء على الاضطهاد والفصل العنصري في كل أنحاء العالم.

يتعين على الدول إصدار بيانات تُعرٍب فيها عن قلقها من ممارسة إسرائيل للفصل العنصري والاضطهاد. عليها أيضا فحص الاتفاقات وخطط التعاون وجميع أشكال التجارة والمعاملات مع إسرائيل لتحديد المساهمين بشكل مباشر في ارتكاب جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد ضدّ الفلسطينيين، والتخفيف من آثارهما على حقوق الإنسان، وإذا كان ذلك مستحيلا وقف أنشطة التمويل التي يثبت أنها تسهل هذه الجرائم الخطيرة.

الآثار المترتبة على نتائج هذا التقرير بالنسبة للشركات معقدة وتتجاوز نطاق هذا التقرير. في الحد الأدنى، على الشركات وقف الأنشطة التي تساهم مباشرة في ارتكاب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد. على الشركات تقييم ما إذا كانت سلعها أو خدماتها تساهم في ارتكاب جرائم الفصل العنصري والاضطهاد، مثل المعدات المستخدمة في الهدم غير القانوني لمنازل الفلسطينيين، والتوقف عن تقديم السلع والخدمات التي من المرجح أن تُستخدم لهذه الأغراض، بما يتوافق مع مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان.

على الدول فرض عقوبات فردية، تشمل حظر السفر وتجميد الأصول، ضدّ المسؤولين والأفراد المتورطين في استمرار ارتكاب هذه الجرائم الخطيرة، وفرض شروط على المساعدات الأمنية والعسكرية لإسرائيل  بربطها بأن تأخذ السلطات خطوات ملموسة ويمكن التحقق منها باتجاه إنهاء ارتكابها جريمتَيْ الفصل العنصري والاضطهاد.

لطالما تغاضى المجتمع الدولي أو وجد تبريرات للحقيقة التي باتت واضحة أكثر فأكثر على أرض الواقع. كل يوم يولد أشخاص في غزة في سجن بسقف مفتوح، وفي الضفة الغربية بلا حقوق مدنية، وفي إسرائيل بمكانة أدنى بموجب القانون، وفي بلدان الجوار بوضع لاجئ مدى الحياة، مثل أهاليهم وأجدادهم من قبل، فقط لأنهم فلسطينيون وليسوا يهودا. الوصول إلى مستقبل متجذر في الحرية والمساواة والكرامة لجميع الناس الذين يعيشون في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة سيبقى أمرا بعيد المنال في ظل استمرار ممارسات إسرائيل المسيئة ضدّ الفلسطينيين.

 

منهجية التقرير

يُركّز هذا التقرير على معاملة إسرائيل للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي إسرائيل. التقرير ليس دراسة شاملة لجميع السياسات والممارسات القمعية والجوانب الأخرى للتمييز المؤسسي، ولا يتطرّق إلى كل الانتهاكات الحقوقية في هذه المناطق، بما في ذلك الانتهاكات الحقوقية التي ترتكبها السلطات أو الجماعات المسلحة الفلسطينية، والتي غطّتها هيومن رايتس ووتش بشكل واسع في تقارير أخرى.[4] بدلا من ذلك، يدرس هذا التقرير السياسات والقوانين والأنظمة التمييزية التي تمنح امتيازات للإسرائيليين اليهود على حساب الفلسطينيين.

رغم أنّ التقرير يقيّم ما إذا كانت سياسات وممارسات إسرائيلية محددة ترقى إلى الجرائم ضدّ الإنسانية المتمثلة في الفصل العنصري والاضطهاد، إلا أنه لا يتعمّق في المسؤولية الجنائية المحتملة لمسؤولين إسرائيليين معينين.

يستند هدا التقرير بالأساس إلى سنوات من التوثيق الذي أجرته هيومن رايتس ووتش وجماعات حقوقية إسرائيلية وفلسطينية ودولية أخرى. راجعت هيومن رايتس ووتش أيضا القوانين، ووثائق التخطيط الحكومية، وتصريحات لمسؤولين، وسجلات الأراضي الإسرائيلية، والمعايير القانونية التي تحكم جريمتَيْ الفصل العنصري والاضطهاد. يتضمّن التقرير دراسة حالات عدة تستند إلى 40 مقابلة مع أشخاص متضررين، ومسؤولين حاليين وسابقين، ومحامين وممثلين عن منظمات غير حكومية، وكذلك على زيارات ميدانية، والتي أجرتها هيومن رايتس ووتش في 2019 و2020. بعض المقابلات تمت في أماكن داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، لكن الكثير منها تمت عبر الهاتف، ويعود ذلك جزئيا إلى القيود التي فرضت على الحركة أثناء تفشي فيروس "كورونا".

أجرت هيومن رايتس ووتش أغلب المقابلات المضمّنة في هذا التقرير على انفراد، بالعربية أو الإنغليزية. أجرِيَت المقابلات بموافقة أصحابها، بعد إخبار كل واحد منهم بكيفية استخدام هيومن رايتس ووتش للمعلومات التي سيقدمونها.

حجبت هيومن رايتس ووتش أسماء بعض الأشخاص الذين قابلتهم حفاظا على سلامتهم، واستبدلتها بأسماء مستعارة، وهي موضوعة بين علامتي اقتباس عند ذكرها لأول مرة.

راسلت هيومن رايتس ووتش أيضا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم 20 يوليو/تموز 2020، ملتمسة منه وجهات نظر الحكومة بشكل عام حول المسائل التي يغطيها التقرير. أدرِجَت نسخة من الرسالة في ملاحق هذه التقرير. أكّد مكتب رئيس الوزراء استلام الرسالة عبر الهاتف يوم 6 أغسطس/آب وعبر البريد الالكتروني يوم 12 أغسطس/آب، لكنّه لم يردّ عليها حتى نشر هذا التقرير.

 

1. الخلفيّة

خلال الأحداث التي رافقت إنشاء دولة إسرائيل سنة 1948، فرّ أكثر من 700 ألف فلسطيني أو طردوا من ديارهم، وتعرّضت أكثر من 400 قرية فلسطينية إلى التدمير.[5] في الفترة من 1949 إلى 1966، وضعت السلطات الإسرائيلية أغلب الفلسطينيين الذين بقوا داخل حدود الدولة الجديدة تحت الحكم العسكري، وحاصرتهم في عشرات الجيوب، وألزمتهم بالحصول على تصاريح لمغادرتها، وفرضت قيودا مشددة على حقوقهم.[6]

في يونيو/حزيران 1967، احتلت إسرائيل الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، من الأردن، وقطاع غزة من مصر، واللتين تشكلان الأراضي الفلسطينية المحتلة، بالإضافة إلى هضبة الجولان من سوريا، وشبه جزيرة سيناء من مصر، بعد نزاع مسلّح عُرف بـ"حرب الأيام الستة".

 أبقت السلطات الإسرائيلية منذئذ سيطرتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة. في الضفة الغربية المحتلة، فرضت إسرائيل حكما عسكريا على الفلسطينيين الذين يعيشون هناك، باستثناء أولئك الذين يعيشون في القدس الشرقية، والتي ضمتها إسرائيل من جانب واحد في 1967. لا يغيّر الضم من وضع القدس الشرقية كأرض محتلة بموجب القانون الدولي. أما في الضفة الغربية، فقد سهّلت إسرائيل بناء المستوطنات الإسرائيلية. تحظر "اتفاقية جنيف الرابعة"، التي تنطبق على الاحتلال العسكري، نقل السكان المدنيين التابعين إلى سلطات الاحتلال إلى المناطق المحتلة.[7] في قطاع غزة المحتل، سحبت إسرائيل قواتها الأرضية في 2005، لكنها تستمر في فرض سيطرة كبيرة عبر وسائل أخرى.

ضمّت إسرائيل من جانب واحد هضبة الجولان في 1981، رغم أن هذه المنطقة تعتبر أيضا أراض محتلة بموجب القانون الدولي. أنهت إسرائيل احتلالها لشبه جزيرة سيناء نتيجة "اتفاقية كامب ديفيد" مع مصر في 1978.

في 1993 و1995، وقعت الحكومة الإسرائيلية "اتفاقيات  أوسلو" مع "منظمة التحرير الفلسطينية"، وأنشئت بموجب الاتفاقيات "السلطة الفلسطينية"، لإدارة بعض الشؤون الفلسطينية في أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة لفترة انتقالية، لا تتجاوز خمس سنوات، إلى أن يتوصّل الطرفان إلى اتفاقية الوضع الدائم.[8] اتفاقيات  أوسلو، التي دعّمتها اتفاقيات لاحقة، قسّمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: المنطقة "أ"، حيث تُدير السلطة الفلسطينية الشؤون الأمنية والمدنية بالكامل، والمنطقة "ب"، حيث تدير السلطة الفلسطينية الشؤون المدنية بينما تمارس إسرائيل سيطرة أمنية، والمنطقة "ج"، الخاضعة لسيطرة إسرائيل حصرا. تضمّ المنطقة "أ" أهمّ المدن الفلسطينية، بينما تضمّ المنطقة "ب" أغلب البلدات والعديد من القرى، والمنطقة "ج" الـ60 % المتبقية من الضفة الغربية.[9] لكنّ اتفاقيات  أوسلو لم تُنهي الاحتلال في أيّ جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لم يتوصّل الطرفان إلى اتفاق الوضع النهائي بحلول عام 2000، ولا خلال العقدين التاليين، رغم المفاوضات المتقطعة التي تتم بوساطة أمريكية أساسا. مازالت الضفة الغربية مقسمة بشكل أساسي إلى مناطق "أ" و"ب" و"ج"، ومازالت إسرائيل تمارس سيطرة رئيسية فيها بينما تدير السلطة الفلسطينية بعض الشؤون في المنطقتين "أ" و"ب" فقط. أمّا غزة، فتخضع لحكم "حماس" الفعلي منذ سيطرتها عليها في يونيو/حزيران 2007، بعد أشهر من المواجهات بين الحركتين السياسيتين الفلسطينيتين "فتح" وحماس، وبعد أكثر من عام من الغموض السياسي على إثر فوز حماس بأغلبية المقاعد في انتخابات السلطة الفلسطينية.[10] في يناير/كانون الثاني 2020، قدّمت إدارة الرئيس ترامب خطتها "السلام من أجل الازدهار"، التي وضعت تصورا لهيمنة إسرائيلية دائمة على المنطقة بأكملها وضمّ المستوطنات وغور الأردن وأجزاء أخرى من المنطقة "ج" بشكل رسمي.[11] تدعو الخطة أيضا إلى قيام دولة فلسطينية لكنها تضع شروطا تجعل تحقيقها شبه مستحيل.

"عمليّة السلام" التي دامت عقودا لم تحسّن الوضع الفعلي لحقوق الإنسان بشكل ملحوظ، ولم تغيّر واقع السيطرة الإسرائيلية الشاملة على كل أرجاء إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. بدلا من ذلك، كثيرا ما يتم الاستشهاد بعملية السلام لمعارضة الجهود المبذولة في العمل الدولي القائم على حقوق الإنسان أو المساءلة،[12] وتُستخدم كغطاء لحكم إسرائيل التمييزي الراسخ على الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.[13]

في السنوات الأخيرة، تعهّد مسؤولون إسرائيليون بضمّ أجزاء إضافية من الضفة الغربية من طرف واحد.[14] اتفاق التحالف الذي أدّى إلى تكوين حكومة إسرائيلية في مايو/أيار 2020 وضع مسار يهدف إلى تحصيل موافقة الحكومة على الضمّ.[15] في أغسطس/آب، قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إن إسرائيل ستؤخر هذا الأمر بعد اتفاق مع الإمارات العربية المتحدة لكنه قال إن "ما من تغيير في خطتي لفرض السيادة على الضفة الغربية".[16] هذا الضمّ لن يغيّر واقع الاحتلال الإسرائيلي أو الحماية المستحقة للفلسطينيين كشعب يرزح تحت الاحتلال بموجب القانون الإنساني الدولي.

على الرغم من اختلاف الآليات الانتهاكات وشدتها بين الأرض الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، فإن السلطة نفسها، حكومة دولة إسرائيل، لها السيطرة الرئيسية على الجزئين. تحكم هذه السلطة جميع اليهود الإسرائيليين في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة بموجب مجموعة واحدة من القوانين (القانون المدني الإسرائيلي). ولضمان هيمنة اليهود، تمارس التمييز البنيوي ضد الفلسطينيين وتقمعهم بدرجات متفاوتة في مختلف المجالات مثل حماية المكانة القانونية، والحصول على الأراضي والموارد، كما يوثق التقرير. في مختلف أنحاء إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، تمنح إسرائيل اليهود الإسرائيليين الامتيازات التي تحرم الفلسطينيين منها، كما تحرم الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية بسبب هويتهم الفلسطينية.

يختلف دور الكيانات الإسرائيلية المختلفة في أجزاء مختلفة من الأراضي الفلسطينية المحتلة – على سبيل المثال، الجيش هو الجهة الرئيسية التي تدير الضفة الغربية وتفرض سيطرتها من خارج الأراضي في غزة، بينما تخضع القدس الشرقية لحكم السلطات المدنية نفسها الحاكمة في إسرائيل. لكن جميع هذه الهيئات تعمل تحت إشراف الحكومة الإسرائيلية برئاسة رئيس الوزراء. انتهجت كل حكومة إسرائيلية منذ 1967 سياسات منتهِكة أو أبقت عليها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. في الضفة الغربية ، تمول عشر وزارات حكومية على الأقل مشاريع مباشرة لخدمة المستوطنات، وتم تأسيس لوزارة شؤون الاستيطان في مايو/أيار 2020.[17] كما أصدر الكنيست قوانين وشكل لجانا تسري مفاعيلها حصريا هناك.[18] تعمل المحكمة العليا الإسرائيلية كمحكمة الملاذ الأخير للإجراءات الإسرائيلية في كل من إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحكم في القضايا الرئيسية التي تحدد السياسات في كل من المنطقتين.[19] كما دعمت الهيئات شبه الحكومية، مثل "المنظمة الصهيونية العالمية" و"الصندوق القومي اليهودي"، الأنشطة في كل من الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل.[20]

 

 2.جريمتا الفصل العنصري والاضطهاد المرتكبتان ضد الإنسانية

منع الجرائم ضد الإنسانية هو من المبادئ الأكثر أساسية في القانون الجنائي الدولي. يُشير المفهوم، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من مئة عام، إلى عدد صغير من أخطر الجرائم بموجب القانون الدولي، وأصبح بوضوح جزءاً من القانون الجنائي الدولي في "ميثاق المحكمة العسكرية الدولية لعام 1945" (’ميثاق نورمبيرغ‘) الذي أنشأ المحكمة التي حاكمت أعضاء قيادة ألمانيا النازية في نورمبرغ.[21]

ينص "نظام روما الأساسي" "للمحكمة الجنائية الدولية" لعام 1998، والذي دخل حيز التنفيذ في 2002، على 11 جريمة يمكن أن ترقى إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية "متى ارتُكبت في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن عِلم بالهجوم".[22] يعرّف النظام الهجوم بأنه "نهج سلوكي يتضمن الارتكاب المتكرر للأفعال ... عملا بسياسة دولة أو منظمة". تشير كلمة "واسع النطاق" إلى حجم الأفعال أو عدد الضحايا،[23] بينما تشير كلمة "منهجية" إلى "نمط أو خطة مدروسة".[24] يمكن ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية أثناء السلم أو النزاع المسلح.

توضح "المذكرة التفسيرية لنظام روما الأساسي" أن الجرائم ضد الإنسانية "جرائم بغيضة بشكل خاص من حيث إنها تشكل هجوما خطيرا على كرامة الإنسان أو إذلالا خطيرا أو إهانة لشخص أو أكثر من البشر. وهي ليست أحداثا منعزلة أو متفرقة، ولكنها جزء من سياسة حكومية (حتى لو لم يعترف الجناة بأن هذه سياستهم) أو ممارسة واسعة للفظائع التي تتعاون معها أو تتغاضى عنها الحكومة أو سلطة الأمر الواقع".[25]

تُعَّد جريمتا الفصل العنصري والاضطهاد من بين 11 جريمة ضد الإنسانية. لا توجد تراتبية بين الجرائم ضد الإنسانية – فهي على نفس الخطورة وتؤدي إلى العواقب ذاتها بموجب نظام روما الأساسي.

انضمت دولة فلسطين إلى نظام روما الأساسي في 2015.[26] قدمت إعلانا يمنح المحكمة الجنائية الدولية الولاية القضائية على الجرائم في نظام روما الأساسي، بما فيها الجريمتان ضد الإنسانية المتمثلتان في الفصل العنصري والاضطهاد، التي يزعم ارتكابها في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 13 يونيو/تموز 2014.[27]

الفصل العنصري

الحظر العام

الفصل العنصري، وهو مصطلح صيغ في الأصل فيما يتعلق بممارسات محددة في جنوب أفريقيا، تطوّر على مدى نصف القرن الماضي إلى مصطلح قانوني عالمي مُدرج في المعاهدات الدولية، والعديد من قرارات الأمم المتحدة، والقانون المحلي في العديد من البلدان للإشارة إلى نظام صارم جدا من التمييز المؤسسي والقمع المنهجي.[28] الفصل العنصري محظور بموجب القانون الدولي العرفي.[29]

وفقا لـ"لجنة القانون الدولي"، يمثّل حظر الفصل العنصري قاعدة قطعية للقانون الدولي.[30] تصف لجنة القانون الدولي الفصل العنصري بأنه "إخلال خطير على نطاق واسع بالتزام دولي ذي أهمية أساسية لحماية الإنسان"، مشيرة إلى حظره في مجموعة من الصكوك القانونية الداخلية و"صدق عليها عدد كبير من الدول وبرز بين الحكومات ... اتفاق عام على الطابع القطعي لأوجه الحظر هذه".[31] تنص "الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري"، والتي تضم 182 دولة طرفا،[32] من ضمنها إسرائيل وفلسطين، على أن "تشجب الدول الأطراف بصفة خاصة العزل العنصري والفصل العنصري، وتتعهد بمنع وحظر واستئصال كل الممارسات المماثلة في الأقاليم الخاضعة لولايتها".[33]

القانون الجنائي الدولي

بالإضافة إلى حظر الفصل العنصري، تم الاعتراف به أيضا كجريمة ضد الإنسانية لأكثر من 50 عاما. أعلنت "اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية" لعام 1968، أن الجرائم ضد الإنسانية تشمل "الأفعال المنافية للإنسانية والناجمة عن سياسة الفصل العنصري".[34]

في 1973، تبنت "الجمعية العامة للأمم المتحدة" اتفاقية خاصة بالفصل العنصري وهي، الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها ("اتفاقية الفصل العنصري")، معلنة أنها تشكل جريمة ضد الإنسانية.[35] دخلت اتفاقية الفصل العنصري حيز التنفيذ في 1976 وتضم 109 دولة طرفا ومن ضمنها دولة فلسطين ولا تضم إسرائيل، وهي تنص على:

تنطبق عبارة "جريمة الفصل العنصري"، التي تشمل سياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريين المشابهة لتلك التي تمارس في الجنوب الأفريقي، على الأفعال اللاإنسانية الآتية، المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية [عرقية] ما من البشر على أية فئة عنصرية [عرقية] أخرى من البشر واضطهادها إياها بصورة منهجية...[36]

تحدد اتفاقية الفصل العنصري بعد ذلك عددا من "الأفعال اللاإنسانية" التي، عندما تُرتكب بغرض الهيمنة والقمع المنهجي، تُشكل بذلك جريمة الفصل العنصري، بما يشمل:

(ب) إخضاع فئة أو فئات عنصرية، عمدا، لظروف معيشية يقصد منها أن تفضي بها إلى الهلاك الجسدي، كليا أو جزئيا،
(ج) اتخاذ أية تدابير، تشريعية وغير تشريعية، يقصد بها منع فئة أو فئات عنصرية من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبلد، وتعمد خلق ظروف تحول دون النماء التام لهذه الفئة أو الفئات، وخاصة بحرمان أعضاء فئة أو فئات عنصرية من حريات الإنسان وحقوقه الأساسية، بما في ذلك الحق في العمل، والحق في تشكيل نقابات معترف بها، والحق في التعليم، والحق في مغادرة الوطن والعودة إليه، والحق في حمل الجنسية، والحق في حرية التنقل والإقامة، والحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في حرية الاجتماع وتشكيل الجمعيات سلميا،
(د) اتخاذ أية تدابير، بما فيها التدابير التشريعية، تهدف إلى تقسيم السكان وفق معايير عنصرية بخلق محتجزات ومعازل مفصولة لأعضاء فئة أو فئات عنصرية، وبحظر التزاوج فيما بين الأشخاص المنتسبين إلى فئات عنصرية مختلفة، ونزع ملكية العقارات المملوكة لفئة أو فئات عنصرية أو لأفراد منها.[37]

يحدد "الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف" لعام 1977، والذي يضم 174 دولة طرفا، "ممارسة التفرقة العنصرية (الأبارتهايد) وغيرها من الأساليب المبنية على التمييز العنصري والمنافية للإنسانية والمهينة، والتي من شأنها النيل من الكرامة الشخصية" على أنها انتهاك جسيم للمعاهدة.[38]

يعرّف نظام روما الأساسي لعام 1998، الذي يضم 123 دولة طرفا، الفصل العنصري على أنه جريمة ضد الإنسانية، ويعرّفها على أنها:

أية أفعال لا إنسانية تماثل في طابعها الأفعال المشار إليها في الفقرة 1 وترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه القمع المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام.[39]

عند تحديد ما يشكل أفعالا لا إنسانية، يسرد النظام سلسلة من الجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك "إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان"، و"الاضطهاد"، و"الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدا في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية".[40] لكي ترقى إلى مستوى الفصل العنصري، يجب أن تتم هذه الأعمال في سياق نظام مؤسسي من الهيمنة والقمع المنهجيين وأن تُرتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام.[41]

كما أدرجت لجنة القانون الدولي جريمة الفصل العنصري في مسودة المعاهدة المقترحة بشأن الجرائم ضد الإنسانية، والتي تتضمن تعريف نظام روما الأساسي للجريمة.[42]

تعريف المصطلحات الرئيسية

لم تنظر أي محكمة حتى الآن في قضية تتعلق بجريمة الفصل العنصري، وبالتالي لم تفسر معنى المصطلحات التالية على النحو المحدد تحديدا في اتفاقية الفصل العنصري وتعريفات نظام روما الأساسي لجريمة الفصل العنصري:

الجماعة العرقيّة: تستخدم اتفاقية الفصل العنصري ونظام روما الأساسي مصطلح Racial Group  أو "الجماعة العرقية"، لكنّهما لا يعرّفانه.[43] ولأنّ اتفاقية الفصل العنصري صيغت على خلفيّة أحداث جنوب القارة الأفريقية في سبعينات القرن الماضي، كما هو مذكور في نصّ الاتفاقية ذاته، فقد يؤدي إلى تفسير أضيق لها، يُركّز على التقسيمات القائمة على لون البشرة؛ ويعود هذا التفسير الضيق أيضا إلى أن الاتفاقية لم تتضمّن فئات أخرى غير العرق، وأن مقترحات بعض الدول لتوسيع نطاق الاتفاقية رفضت.[44] بينما يبدو أنّ مناقشة معنى "الجماعة العرقيّة" أثناء صياغة نظام روما كانت محدودة،[45] فإنّ إدراجها في تعريف الفصل العنصري، بعد انتهائه في جنوب أفريقيا، وبعد أن عرّف القانون الدولي لحقوق الإنسان التمييز العنصري على أنه يشمل الاختلافات المتعلقة بالنسب والأصل القومي، يُبرز أن نظام روما الأساسي تضمن عبارة "الجماعة العرقية" بناء على مفهوم العرق بمعناه الأوسع، ويُرجح أيضا أن تُفسّر بالمعنى الأوسع من قبل  المحاكم.

"الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري"، التي اعتُمدت في 1965 ودخلت حيّز النفاذ في 1969، تُعرّف "التمييز العنصري" على أنه "أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفصيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، على قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة".[46] "اللجنة المعنية بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري"، وهي الهيئة الأممية المكلفة بمراقبة تنفيذ الاتفاقية، خلُصت إلى نتائج متسقة تفيد أنّ أفراد الجماعات العرقية والقوميّة، وكذلك الجماعات المحددة على أساس النسب والأصل القومي، معرّضة للتمييز العنصري.[47] عوضا عن التعامل مع العرق على أنه يشكل فقط الصفات الوراثية، تستخدم هيومن رايتس ووتش هذا التعريف الأوسع.

لم يصدر حكم بشأن تعريف "الجماعة العرقية" في سياق جريمة الفصل العنصري المرتكبة ضدّ الإنسانية في أيّ قضيّة جنائية دولية. لكن في سياق قضايا حديثة تتعلق بالإبادة، تناولت المحاكم الجنائية الدولية معنى "الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية" في تعريفها لتلك الجريمة، وتم ذلك جزئيا من خلال تقييم هوية الجماعة استنادا إلى السياق وهوية الفاعلين المحليين، لا سيما الجناة، على عكس المقاربات السابقة التي ركّزت على الملامح الجسدية والوراثية. خلُصت "المحكمة الجنائية الدولية لرواندا" إلى أن البتّ في اعتبار جماعة معيّنة محميّة من جريمة الإبادة "سيتم على أساس كل حالة على حدة، مع الأخذ بعين الاعتبار الأدلّة المقدّمة، والسياق السياسي والاجتماعي والثقافي".[48] كما خلصت "المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة" إلى أنّ القرارات يجب أن "تُتخذ على أساس كل حالة على حدة، مع الرجوع إلى المعايير الموضوعية والذاتية". رأت المحكمة على وجه الخصوص أنّه ينبغي تحديد الجماعات القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية "باستخدام معايير وصم الجماعة، لا سيما من قبل مرتكبي الجريمة، على أساس السمات القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية المتصوّرة".[49] قضت المحكمة الخاصة بيوغسلافيا في قضية تعود إلى عام 1999 بأن "محاولة تعريف الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية اليوم باستخدام معايير موضوعية وغير مشكوك فيها علميا سيكون عملا محفوفا بالمخاطر".[50]

إنّ فهم "الجماعة العرقية" بطريقة تتماشى مع تطوير مفهوم "التمييز العنصري" في اتفاقية التمييز العنصري، و"المقاربة الذاتية" التي انتهجتها المحاكم الجنائية الدولية في تحديد الجماعات العرقية وغيرها من الجماعات يعكس التطور الحاصل في فهم العلوم الاجتماعية للعرق ويُضفي تجانسا على معنى العرق في مختلف أجزاء القانون الدولي.[51]

فسّر القانون الإسرائيلي أيضا العرق على نطاق واسع، ولم يجعله مقتصرا على لون البشرة. يُعرّف "قانون العقوبات" الإسرائيلي العنصرية، في سياق جريمة "التحريض على العنصرية"، على أنها تشمل "التحريض على [الاضطهاد]، الاهانة، التحقير، مظاهر العداء العنيف أو العنف أو التسبب بضرر للجمهور أو أجزاء من الشريحة السكانية... بسبب اللون أو الانتماء العنصري أو الأصل القومي - الإثنيأ".[52] بموجب المادة 7أ من "قانون أساس: الكنيست – 1958"، الذي يحظر الترشح لعضوية الكنيست على من ينخرط في "التحريض"،[53] منعت المحكمة العليا أشخاصا، مثل مرشح حزب "عوتسما يهوديت" (قوة يهودية)، من الترشح بناءً على تعليقات تحريضية ضد الفلسطينيين.[54]

بينما لا يتسع نطاق هذا التقرير لتحليل الهويات الجماعية لليهود الإسرائيليين والفلسطينيين، فإن الواضح في السياق المحلي هو أن اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين يُنظر إليهما على أنهما جماعتان لهما هويتان منفصلتان في سياق الفهم الواسع لمعنى "الجماعة العرقية" في القانون الدولي لحقوق الإنسان.كما يُعرّف "قانون العودة لعام 1950"، الذي يضمن لليهود حق الهجرة إلى إسرائيل للحصول على الجنسية، مصطلح "اليهودي" على أنه يشمل "الشخص المولود من أم يهودية"، معتمدا على تصنيف قائم على النسب، على عكس التصنيف الديني البحت.[55] يصف الكثيرون في إسرائيل المواقف المناهضة للفلسطينيين والصادرة عن حزب عوتسما يهوديت، وقبله "حزب كاخ"، بـ"العنصرية".[56] كما اعتبر إسرائيليون بارزون تحذيرا وجهه ناتنياهو إلى أنصاره يوم الانتخابات في 2015، قال فيه إن "الناخبين العرب يتدفقون أفواجا على صناديق الاقتراع"، "عنصريا" و"يحض على العنصرية".[57]

في غضون ذلك، يواجه الفلسطينيون التمييز والقمع على أساس هويتهم، كما يوضّح هذا التقرير. للفلسطينيين روابط ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية وأسرية عميقة في جميع أنحاء إسرائيل، والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة. خلال معظم العصر الحديث، كان الفلسطينيون يتنقلون بحرية في هذه المناطق، التي كانت تشكل فلسطين الانتدابية تحت الادارة البريطانية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى. يُعرّف "ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية" الفلسطينيين على أنهم "المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى عام 1947"، مؤكدا على أن هويتهم "تنتقل من الآباء إلى الأبناء".[58] حتى داخل إسرائيل، حيث يُعتبر اليهود والفلسطينيون مواطنين، فإنّ السلطات تصنّفهما ضمن "قوميتين" مختلفتين.[59]

وجدت اللجنة المعنية بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري في مراجعتها الأخيرة لإسرائيل في ديسمبر/كانون الأول 2019 أن الفلسطينيين في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة يُشكلون أقلية تستحق الحماية من "جميع ممارسات العزل العنصري والفصل العنصري" مقارنة بالبلدات  اليهودية.[60]

النظام المؤسسي: هذا المصطلح، الذي دُمج في نظام روما الأساسي ولكن ليس في اتفاقية الفصل العنصري، يبدو أنه نشأ في اقتراح من الوفد الأمريكي أثناء الصياغة لكي يقتصر تطبيق جريمة الفصل العنصري على الدول واستبعاد الجماعات غير الحكومية.[61] إلى جانب مصطلح "منهجي" الذي يظهر في كل من اتفاقية الفصل العنصري ونظام روما الأساسي، فإن مصطلح "النظام" يسلط الضوء على وجود التنظيم والهيكلية الرسميين، وأكثر من السياسات أو الأفعال التمييزية المنعزلة.[62] يمكن أن يغطي النظام ولايات بأكملها أو مناطق جغرافية محدودة، اعتمادا على توزيع السلطة، أو وحدة السلطة، أو القوانين والسياسات والمؤسسات القمعية المختلفة، من بين عوامل أخرى.

الهيمنة: هذا المصطلح، وهو ليس معرفا بوضوح في القانون، يبدو في السياق العملي أنه يشير إلى نية مجموعة معيّنة الإبقاء على السيطرة المشددة على مجموعة أخرى، والتي ممكن أن تشمل السيطرة على ركائز رئيسية تتعلق بالسلطة السياسية، والأرض، والموارد. المصطلح مذكور كل من في نظام روما الأساسي واتفاقية الفصل العنصري.

يشير التركيز على الهيمنة، في مقابل السيادة الرسمية، أيضا إلى أن جريمة الفصل العنصري يمكن أن تُرتكب من قبل السلطات خارج أراضيها وأن تقع على غير المواطنين.[63] اكتشاف أن سلطات إحدى الدول قد ارتكبت جريمة الفصل العنصري على أراضٍ خارجية لن يقوّض السيادة الرسمية التي تتمتع بها الدولة الأخرى أو ينتقص من واقع الاحتلال أكثر من اكتشاف أن جرائم أخرى ضد الإنسانية أو جرائم حرب قد ارتُكبت هناك.[64]

القمع المنهجي: هذا المصطلح، وهو أيضا ليس له تعريف قانوني واضح، يبدو أنه يشير إلى طرق تحقيق نية الهيمنة. تبين الإشارة في اتفاقية الفصل العنصري إلى "سياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريين المشابهة لتلك التي تمارس في الجنوب الأفريقي" ويشير إلى أن القمع يجب أن يصل مستويات عالية من الشدة حتى يتخطى العتبة المطلوبة لتصنيفه جريمةً.[65]

الاضطهاد

تعود جريمة الاضطهاد إلى المحكمة العسكرية الدولية عام 1945 في نورمبرغ. يعتبر ميثاق المحكمة أن "الاضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية" جرائم ضد الإنسانية.[66]

يعرّف نظام روما الأساسي أيضا الاضطهاد على أنه جريمة ضد الإنسانية، ويعرّفه بأنه "حرمان جماعة من السكان أو مجموع السكان حرمانا متعمدا وشديدا من الحقوق الأساسية بما يخالف القانون الدولي، وذلك بسبب هوية الجماعة أو المجموع".[67] وسّع القانون نطاق جريمة الاضطهاد ليشمل "أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرفية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية، أو متعلقة بنوع الجنس [النوع الاجتماعي] على النحو المعرف في الفقرة 3، أو لأسباب أخرى من المسلم عالميا بأن القانون الدولي لا يجيزها".[68] مع ذلك، يحدد نظام روما الأساسي ما ينطبق على الجريمة فقط "فيما يتصل" بالجرائم الأخرى المحددة بموجبه.[69] غير أنّ تعريف القانون الدولي العرفي للاضطهاد لا يتضمن مثل هذه القيود.[70]

المحامي الجنائي الدولي أنطونيو كاسيزي، الذي شغل منصب قاض في القضية الرائدة للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة التي نظرت في الاضطهاد في إطار القانون الجنائي الدولي (قضية "المدعي العام ضد كوبريسكيتش")، حدد جريمة الاضطهاد ضد الإنسانية كجريمة بموجب القانون الدولي العرفي. [71] وعرّف الاضطهاد بموجب القانون الدولي العرفي بأنه يشير إلى الأفعال التي، أ) تؤدي إلى انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان الأساسية، ب) تشكل جزءا من ممارسة واسعة النطاق أو منهجية، وج) تُرتكب بقصد تمييزي.[72]

لم يُحدد نظام روما الأساسي ولا القانون الدولي العرفي بوضوح العتبة لما يُشكل انتهاكا "جسيما" أو "فظيعا" بما فيه الكفاية. تُقِرّ هيومن رايتس ووتش بأن العديد من الانتهاكات الحقوقية تُلحِق ضررا جسيما. إلا أن هيومن رايتس ووتش تحتاج إلى تحديد أخطر أشكال الانتهاكات التي تم ارتكابها قبل أن تُطبّق عليها صفة "الجسيمة" و"الفظيعة".

التبعات القانونية لاكتشاف الجرائم ضد الإنسانية

يمكن أن يُستخدم ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية كأساس للمسؤولية الجنائية الفردية في المحاكم والهيئات القضائية الدولية، ليس في المحاكم المحلية في بلد الجاني فحسب، بل أيضا في المحاكم والهيئات القضائية الدولية، والمحاكم المحلية خارج البلد المعني بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية. تمتد المسؤولية الجنائية الفردية إلى أبعد من الذين يرتكبون الأفعال وتطال أولئك الذين يأمرون بارتكاب الجريمة ويساعدون على وقوعها أو يسهلوها أو يحرضون على ارتكابها. بموجب مبدأ مسؤولية القيادة، يمكن تحميل المسؤولين العسكريين والمدنيين، حتى أعلى التسلسل القيادي، المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي ارتكبها مرؤوسوهم عندما يعلمون أو كان يفترض بهم أن يعلموا بارتكاب مثل هذه الجرائم، لكنهم لم يتخذوا التدابير المعقولة لمنع الجرائم أو معاقبة المسؤولين عنها.

في ديسمبر/كانون الأول 2019، أنهت بنسودا تحقيقا أوليا استمر قرابة خمس سنوات في الوضع الفلسطيني وقررت أن "جميع المعايير القانونية" للشروع في تحقيق رسمي في الجرائم الخطيرة المزعومة التي ارتكبها الإسرائيليون والفلسطينيون قد استوفيت. وجدت بنسودا "أساسا معقولا" للاعتقاد بارتكاب جرائم حرب من قبل السلطات الإسرائيلية والفلسطينية، لكنها لم تُشِر إلى أي جرائم ضد الإنسانية.[73] رغم أن بنسودا لم تطلب إذنا قضائيا رسميا للمضي قدما في تحقيق رسمي، إلا أنها طلبت حكما من قضاة المحكمة بشأن الولاية القضائية الإقليمية للمحكمة الجنائية الدولية قبل المتابعة.[74]

في فبراير/شباط 2021 ، قضت المحكمة بأن لها ولاية قضائية على الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، مؤكدة وضع فلسطين كدولة طرف في نظام روما الأساسي قادرة على منح هذا الاختصاص.[75] تشمل هذه الولاية القضائية القدرة على المقاضاة بشأن جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد المرتكبتين ضد الإنسانية. في مارس/آذار 2021 ، أعلن مكتب المدعي العام  في المحكمة فتح تحقيق رسمي في الوضع في فلسطين.[76]

وقعت إسرائيل نظام روما الأساسي العام 2000، لكنها لم تصادق عليه وقالت في أغسطس/آب 2002 إنها لا تنوي القيام بذلك.[77] إلا أن المحكمة الجنائية الدولية لديها اختصاص التحقيق بشأن أي شخص ومقاضاته، بما يشمل أولئك الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية حيثما تتوفر أدلة على مسؤوليتهم الجنائية عن ارتكاب جريمة الاضطهاد أو الفصل العنصري المرتكبة ضد الإنسانية داخل أي دولة صادقت على نظام روما الأساسي، حيث يتم استيفاء المعايير ذات الصلة. وهذا يشمل فلسطين، ما يسمح بالملاحقة بشأن الجرائم التي يرتكبها المواطنون الإسرائيليون في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

اتفاقية الفصل العنصري تدعو أيضا الدول الأطراف إلى مقاضاة أولئك الذين يرتكبون الجريمة والذين لهم سلطة قضائية، فضلا عن اتخاذ تدابير أخرى تهدف إلى "ردع وقمع ومعاقبة" الجريمة.[78]

يُجرِّم القانون الإسرائيلي الجرائم ضد الإنسانية، بما يشمل الاضطهاد وليس الفصل العنصري، وذلك فقط في سياق الجرائم المرتكبة في ألمانيا النازية.[79] لا يُجرِّم القانون الفلسطيني الجرائم ضد الإنسانية.

3. نية الإبقاء على الهيمنة

لطالما سعت سياسات الحكومة الإسرائيلية إلى خلق أغلبية يهودية في إسرائيل والحفاظ عليها وذلك بتعزيز سيطرة اليهود الإسرائيليين على الأراضي في إسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة. توضح كل من القوانين، ووثائق التخطيط، وتصريحات المسؤولين ان ما يوجه سياسات الحكومة واعمالها إلى يومنا هذا هو السعي إلى هيمنة اليهود الإسرائيليين على الفلسطينيين، لا سيما في التركيبة السكانية والأرض.

سيوضح هذا الفصل أنّ هذا الهدف يرقى إلى نية إبقاء هيمنة مجموعة ما على مجموعة أخرى. عندما تُرتكب الأفعال اللاإنسانية في سياق القمع المنهجي وفقا لنية الإبقاء على الهيمنة، فهي ترقى إلى جريمة الفصل العنصري المرتكبة ضد الإنسانية.

النيّة التمييزية، عندما تؤدي إلى انتهاكات خطيرة للحقوق الأساسية، تشكّل جريمة الاضطهاد المرتكبة ضد الإنسانية.

سيتناول هذا الفصل مواد قد يعود تاريخها إلى عقود من الزمن تهدف الى تحليل الدوافع وراء السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين اليوم، قد تطورت على مدى سنوات طويلة وتعود في الغالب إلى السنوات الأولى من قيام الدولة وبداية الاحتلال،. هذا لا يعني أنّ كل مسؤول سنذكره ضالع في نية الهيمنة على الفلسطينيين. في الواقع، دافع بعض المسؤولين والأحزاب في إسرائيل عن مواقف، لو طُبِّقت، لكان من الممكن تفادي سياسات مماثلة.

تُبرر السلطات الإسرائيلية بعض هذه السياسات بدواعٍ أمنية، لكنها كما هو موضح في هذا الفصل، غالبا ما تستخدم الأمن كمبرّر لتحقيق أهداف ديمغرافية. في حالات أخرى، يدافع المسؤولون عن سياسات تهدف إلى صون هوية إسرائيل كدولة يهودية. كأي دولة أخرى، تستطيع إسرائيل تعزيز هوية معينة، لكن ذلك لا يتضمن حرية انتهاك الحقوق الأساسية. لا تشكل جميع السياسات المصممة لتعزيز التهويد انتهاكاتٍ للحقوق، لكن هناك سياسات محددة يُمكن أن توفر أدلة على وجود نية تمييزية أو هدف للحفاظ على هيمنة الإسرائيليين اليهود.

حتى السياسات التي وُضعت لتحقيق أهداف أمنية مشروعة ينبغي أن تمتثل للقانون الدولي. كما هو موضح في هذا الفصل، اتبعت السلطات الإسرائيلية العديد من السياسات التي تُظهر بطرق مختلفة نية تمييزية لتحقيق هيمنة منهجية على الفلسطينيين. الهدف المشروع المتمثّل بتحقيق الأمن لا يبرر النية غير المشروعة للهيمنة والتمييز المتأصلة في هذه السياسات.

التركيبة السكانية

لطالما كانت الاعتبارات الديمغرافية، وخاصة السعي إلى تحقيق أغلبية يهودية متينة، أساسا للسياسات الحكومية الإسرائيلية. أهم سطر في "إعلان قيام دولة إسرائيل – وثيقة الاستقلال" وعد بـ "إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل".[80] يسرد الإعلان إلى حدّ كبير تاريخ الشعب اليهودي، وتتضمن هذه الوثيقة القصيرة إشارتين إلى مركزية الهجرة اليهودية. رغم أن الإعلان يلتزم بتحقيق "المساواة التامة في الحقوق اجتماعيا وسياسيا بين جميع الرعايا"، فإنه قدّم الدولة الجديدة على أنها للشعب اليهودي، واصفا إسرائيل بـ "دولتهم".

تعزز القوانين الأساسية الإسرائيلية، التي لها وضع دستوري في غياب دستور كامل، فكرة يهودية الدولة، بدلا من أن تكون دولة لجميع مواطنيها. مثلا، أعلن "قانون أساس : الكنيست – 1958" أنه لا يحق الترشح إلى الكنيست لكل من أنكر صراحة أو بشكل ضمني "قيام دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية".[81] ينصّ "القانون الأساسي: كرامة الإنسان وحريته" على أن الهدف منه هو "ترسيخ قِيَم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية".

يؤكد "قانون أساس: إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي" (قانون الدولة القومية)، الذي اعتمد في 2018، غلبة الطابع "اليهودي" على الطابع "الديمقراطي" للدولة. حدّد هذا القانون ضمن "مبادئه الأساسية" أن إسرائيل هي "الوطن القومي للشعب اليهودي" وأن "حق تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل هو للشعب اليهودي وحده". ينصّ الفصل 7 من هذا القانون على أن "تعتبر الدولة تطوير الاستيطان اليهودي قيمة قومية، وتعمل لأجل تشجيعه ودعم إقامته وترسيخه".[82] بعكس إعلان استقلال إسرائيل، لم يتضمن قانون الدولة القومية أي بنود عن المساواة. قال مستشار قانوني للكنيست إنه سعى إلى تضمين "إشارة إلى مسألة المساواة ومسألة انتماء الدولة إلى جميع مواطنيها، [لكن] اللجنة اختارت ألا تفعل".[83] في يونيو/حزيران 2018، سعى عدة أعضاء في الكنيست إلى تمرير مشروع قانون يعرّف إسرائيل بأنها دولة لجميع مواطنيها، لكن هيئة رئاسة الكنيست ألغته قبل مناقشته لأنه "يسعى إلى إنكار وجود إسرائيل كدولة للشعب اليهودي"، بحسب ما قاله المستشار القانوني للكنيست.[84]

عزز احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية المحتلة في 1967 المخاوف الإسرائيلية بشأن الخصائص الديموغرافية. إذ يُشكل اليهود حاليا ضمن حدود إسرائيل لما قبل 1967 80% تقريبا من السكان بينما يُشكل الفلسطينيون في المنطقة نفسها حوالي 19%.[85] لكن عند جمع الأراضي المحتلة كافة مع إسرائيل، يكاد يتساوى عدد اليهود والفلسطينيين. وحتى عند حصر العملية الحسابية بالضفة الغربية، فإن الجزء من الأراضي المحتلة الذي تطمع به السلطات الإسرائيلية من أجل المستوطنات اليهودية، وباستثناء العدد الكبير من السكان الفلسطينيين في غزة، تُشكل الأغلبية اليهودية نحو 59% من السكان مقارنة مع 41% للفلسطينيين. ترجع أصول العديد من الممارسات المذكورة في هذا التقرير إلى رغبة الحكومة الإسرائيلية في الإبقاء على سيطرة إسرائيلية من دون التخلي عن الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، ما يزيد 3.1 مليون فلسطيني إلى الأراضي التي تسيطر عليها، بالإضافة إلى 1.6 مليون يعيشون داخل إسرائيل.[86]

تصريحات رؤساء الوزراء الإسرائيليين وغيرهم من كبار المسؤولين تُبيّن إلى أي مدى السيطرة الديمغرافية هي عامل أساس في عملية صنع السياسات في الدولة. في تعليق على "انستغرام" يوم 10 مارس/آذار 2019، قال رئيس الوزراء بنيامين ناتنياهو إن "إسرائيل ليست دولة لجميع المواطنين"، بل "دولة قومية للشعب اليهودي، فقط للشعب اليهودي".[87] في ديسمبر/كانون الأول 2003، بين ولايتيه في رئاسة الوزراء، قال ناتنياهو في مؤتمر: "إن كانت هناك مشكلة ديمغرافية، وفعلا هناك مشكلة ديمغرافية، فإنها تتعلق بعرب إسرائيل الذين سيبقون مواطنين إسرائيليين"، مشيرا إلى الحاجة إلى إيجاد توازن بين السياسات الرامية إلى إدماج "عرب إسرائيل" وضمان عدم تجاوزهم نسبة 35-40%من السكان.[88] وحذّر من أنه في حال "وصلت أعدادهم إلى 34-40 % من [سكان] البلاد، عندها ستُلغى الدولة اليهودية".[89] قال أيضا إن جدار الفصل، الذي شُيد أساسا لتعزيز أمن إسرائيل، سيساعد في منع "تمدد ديمغرافي" للفلسطينيين في الضفة الغربية.[90]

إلا أن وضع سياسات تُحركها الحسابات الديمغرافية لا يقتصر على رئيس الوزراء نتنياهو. حتى القادة الإسرائيليين الذين ساندوا انسحاب إسرائيل من أجزاء أكبر من الضفة الغربية مقارنة بغيرهم كثيرا ما جعلوا من المعطى الديمغرافي – ضرورة أن تحتفظ إسرائيل بأغلبية يهودية – احدى حججهم الأساسية. قال إيهود أولمرت، سلف ناتنياهو، في 2003، قبل أن يصبح رئيسا للوزراء بثلاث سنوات إن "المسألة الديمغرافية" سوف "تُملي علينا الحل الذي يجب أن نتبناه" وإن "صيغة معايير الحل الأحادي الجانب هي: زيادة عدد اليهود وتقليص عدد الفلسطينيين".[91] كما قال سابقه، آرييل شارون، لما كان رئيسا للوزراء في الكنيست سنة 2002، إن "المواطنين الفلسطينيين لهم حقوق"، لكن "كل الحقوق المتعلقة بالأرض في إسرائيل هي حقوق يهودية".[92] وعندما كان إيهود باراك رئيسا للوزراء، فقد ساوى، بين "الأغلبية المسلمة" و"تدمير إسرائيل كدولة يهودية".[93] كما قال سلفه، شمعون بيريس ، لما كان رئيسا للدولة في 2012، إن "المستوطنات الإسرائيلية في المناطق المكتظة بالعرب [في أجزاء من الضفة الغربية]... قد تؤدي إلى تغيير سكاني خطير" و"تضع الأغلبية اليهودية لدولة إسرائيل في خطر".[94] قال أيضا سلفه إسحق رابين لما كان رئيسا للوزراء، إن "الخط الأحمر للعرب هو 20%من السكان، ولا ينبغي تجاوز ذلك أبدا"، مضيفا: "أرغب في الحفاظ على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل".[95]

رغم أن الدول تكون أحيانا مرتبطة بهوية دينية أو عرقية معينة، فإن حق الدولة في تحديد هويتها وتعزيزها لا يعني الحرية في انتهاك الحقوق الأساسية للآخرين. القوانين والسياسات التي تعتمدها الحكومة الإسرائيلية للحفاظ على أغلبية يهودية وفرت امتيازات لليهود على حساب الحقوق الأساسية للفلسطينيين. والدليل الأهم لإظهار الأهداف الديمغرافية لإسرائيل هو "قانون العودة" لسنة 1950 الذي ضمن لليهود الحاملين لجنسيات أخرى حق الاستقرار في إسرائيل، و"قانون المواطنة" لسنة 1952 الذي سمح لهم بالحصول على الجنسية.[96] في المقابل، فإن قانون الجنسية هذا نفسه يحرم اللاجئين الفلسطينيين وأبناءهم وأحفادهم – عدد المسجلين منهم لدى الأونروا بلغ 5.7 مليون حتى فبراير/شباط 2021[97] – من خيار الدخول والعيش في المناطق التي كانت عائلاتهم تعيش فيها وحافظوا على رابط معها. حق العيش في إسرائيل أو الأراضي الفلسطينية المحتلة يكفله لهم القانون الدولي لحقوق الإنسان، إلى جانب الخيارات المعتمدة لدمجهم في أماكن وجودهم وإعادة توطينهم في مكان آخر.[98] هذه السياسات تخلق واقعا يكون فيه المواطن اليهودي القادم من أي بلد آخر والذي لم يزر إسرائيل قط قادرا على الانتقال إلى إسرائيل أو مستوطنة في الضفة الغربية والحصول على الجنسية تلقائيا، بينما يُحرم اللاجئ الفلسطيني الذي طُرد من دياره وظل قابعا لأكثر من 70 عاما في مخيم للاجئين في دولة مجاورة من الانتقال إلى إسرائيل أو الأراضي الفلسطينية المحتلة.

 

"قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل (أمر الساعة)" لسنة 2003، الذي يمنع فلسطينيي الضفة الغربية وغزة – مع استثناءات قليلة – من الحصول على الجنسية أو الإقامة الدائمة في إسرائيل والقدس الشرقية،[99] يعكس أكثر الرغبة في الحفاظ على سيطرة ديمغرافية. قال آرييل شارون تعليقا على تجديد القانون المؤقت لما كان رئيسا للوزراء في 2005: "لا داعي للاختباء وراء الحجج الأمنية. هناك حاجة لوجود دولة يهودية".[100] أضاف لاحقا أن السلطات لها "نية صحيحة وهامة في جعل إسرائيل دولة يهودية فيها أغلبية يهودية كبيرة"، ولذلك "علينا القيام بكل شيء حتى تبقى هذه الدولة يهودية في المستقبل".[101] اعترف غيورا إيلاند، مستشار الأمن القومي آنذاك، الذي كان عضوا في لجنة لدراسة سياسات الهجرة في 2005، بأن "قانون المواطنة هو السبيل الوحيد للتغلب على الغول الديموغرافي".[102] من جانبه أوضح وزير المالية آنذاك بنيامين ناتنياهو بشكل مباشر أثناء المناقشات الخاصة بتمديد القانون: "بدلا من تسهيل الأمر على الفلسطينيين الراغبين في الحصول على الجنسية، علينا جعل العملية أكثر تعقيدا حتى نضمن أمن إسرائيل والأغلبية اليهودية في إسرائيل".[103] قال إيلي يشاي، لما كان وزيرا للداخلية في 2012، إن الموافقة على عدد أكبر من مطالب لم الشمل العائلي من الضفة الغربية سيكون "انتحارا قوميا".[104]

عمليا، لطالما سعت سياسات وزارة الداخلية وممارساتها إلى ضمان سيطرة ديمغرافية يهودية في إسرائيل. في 2004، أصدرت "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل" تقريرا وجد أن سجل السكان التابع لوزارة الداخلية الإسرائيلي يرفض بانتظام طلبات الإقامة ولم الشمل ومنح المكانة  القانونية للأطفال التي يقدمها الفلسطينيون وغيرهم من غير اليهود "فقط لأنهم ليسوا يهودا". يُخضع السجل، الذي قالت جمعية حقوق المواطن إنه "يعتبر نفسه مدافعا عن الطابع اليهودي للدولة"، مقدمي الطلبات إلى "مضايقات بيروقراطية منظمة ومنهجية" من أجل "إرهاق من لا ترغب الوزارة في الموافقة على طلباتهم"، وهي سياسة تضرّ بالفلسطينيين خاصة.[105] تستمر وزارة الداخلية في وضع العراقيل البيروقراطية، لا سيما أمام فلسطينيي القدس الشرقية.[106] لكن، في نفس الوقت، سعت السلطات والمؤسسات شبه الحكومية جاهدة لسنوات إلى تعزيز الهجرة اليهودية إلى إسرائيل.[107]

كما سيطرت السلطات الإسرائيلية منذ 1967 بشكل فعال على سجل السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث سجلت كل حالات الولادة والزواج والطلاق وتغيير العنوان والوفاة للفلسطينيين هناك. بين 1967 و1994، شطبت السلطات مئات آلاف الفلسطينيين من السجل، حسبما وثّقت هيومن رايتس ووتش.[108] استخدم الجيش الإسرائيلي وضع الإقامة للسيطرة على قدرة الفلسطينيين على الإقامة في الضفة الغربية والتنقل داخلها والسفر إلى خارجها، وكذلك السفر من غزة إلى إسرائيل والضفة الغربية.[109] هذه القيود تُنفذ بطريقة ساحقة بحيث يجعل اعتبار تنفيذها لدواعٍ أمنية وليست ديمغرافية أمرا صعبا.[110]

توفر بعض القوانين الإسرائيلية امتيازات على أساس معايير أخرى غير الجنسية لتمنح أفضلية لليهود على حساب الفلسطينيين، لكن الغاية تبقى إعطاء امتياز لليهود على حساب الفلسطينيين. غالبا ما تبدو هذه القوانين غير تمييزية في ظاهرها، لكنها تستخدم طرقا بديلة لإخفاء النية التمييزية، وفي بعض الحالات يذهب بعض المسؤولين إلى الإشادة بالمنطق الديمغرافي. مثلا، قرّر الكنيست في 2002 خفض منحة الأطفال الممنوحة إلى جميع العائلات الإسرائيلية بـ4%، لكن التخفيض كان بنسبة 24% بالنسبة للأطفال الذين لهم أباء وأمهات لم يخدموا في الجيش.[111] الغالبية العظمى من الفلسطينيين لا يؤدون الخدمة العسكرية. رغم أنّ هذا القانون يؤثر أيضا على اليهود الأرثوذوكس الذين لا يخدمون في الجيش، إلا أن هؤلاء مؤهلون للحصول على إعانات إضافية غير متاحة للفلسطينيين، مثل المساعدات التعليمية.[112]

توضح تصريحات المسؤولين الإسرائيليين في ذلك الوقت النية التمييزية لهذه الخطوة. في يناير/كانون الثاني 2005، في سياق تغطية إحصاءات صدرت في 2003 و2004 أظهرت تلك الاحصاءات تراجعا في نسبة الولادة في إسرائيل، والذي يعود أساسا إلى تراجع عدد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، نقلت هآرتس عن وزير المالية قوله إن "تراجع نسبة الولادة هو نتيجة واضحة لتخفيض مخصصات الأطفال خلال العامين السابقين". نقلت هآرتس عن مسؤول كبير في وزارة المالية طلب عدم الكشف عن اسمه وجود "تهديد ديمغرافي داخلي"، معبرا عن قلقه من "نسبة الولادة العالية لدى العرب، وخاصة بدو النقب". قال المسؤول: "سنقلب الرسم البياني للدفاع عن أغلبية يهودية في بلادنا"، وحذّر – بحسب هآرتس – من أنّ إعادة صرف المخصصات قد يجعل الدولة مضطرة إلى مساعدة العائلات الكبيرة في مناطق مثل النقب، وهو ما قد يؤدي إلى تقويض الأغلبية اليهودية.[113]

رغمّ أنّ المحكمة العليا الإسرائيلية أسقطت في بعض الأحيان سياسات تمييزية للدولة، إلا أنها أيدت أيضا قرارات مدفوعة بالعامل الديمغرافي. مثلا، في قضية بارزة عام 2000 أعلنت أنّ الدولة لا تستطيع التمييز بشكل مباشر على أساس الدين أو الجنسية في منح أراضي الدولة، أكد رئيس المحكمة العليا أهارون باراك على الوضع القانوني الذي يفضل الإسرائيليين اليهود في مسألة الحصول على الإقامة. كتب قائلا: "صحيح أن أبناء الشعب اليهودي يُمنحون مفتاحا خاصا للدخول (انظر قانون العودة رقم 5710 لسنة 1950)، لكن بمجرّد دخول الشخص إلى المنزل بشكل قانوني، فإنه يتمتع بحقوق متساوية مع جميع أفراد الأسرة الآخرين".[114] لطالما استخدمت إسرائيل سلطتها على "المنزل" للحفاظ على أغلبية يهودية قوية على حساب الفلسطينيين. استنادا إلى رأي آخر معروف لباراك، أسقط أشير غرونيس، الذي كان نائب رئيس المحكمة العليا آنذاك، ثم صار رئيسها، في 2012 طعنا دستوريا في الجوانب التمييزية لقانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل لسنة 2003، وكتب: "حقوق الإنسان ليست وصفة طبية للانتحار القومي".[115]

السيطرة على الأرض

إلى جانب السيطرة الديمغرافية، سعت السلطات الإسرائيلية إلى ضمان السيطرة اليهودية على الأراضي والموارد الطبيعية في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. سعت السلطات إلى حد كبير إلى تحقيق أهداف الهيمنة الديمغرافية والسيطرة على الأرض بشكل متواز، حيث عملت على زيادة الأراضي المتاحة للمجتمعات اليهودية وحصر الفلسطينيين إلى حد كبير في مراكز سكانية مكتظة.

في فبراير/شباط 1948، قال بن غوريون، الذي كان حينها رئيس "الوكالة اليهودية"، قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، في الليلة التي تلت زيارته إلى لفتا،[116] وهي قرية فلسطينية في ضواحي القدس فرّ سكانها أو طُردوا من منازلهم:

عندما تدخل المدينة عبر لفتا وروميما، وعبر محانيه يهودا، وشارع الملك جورج، ومئة شعاريم، لا تجد أي عرب. نسبة اليهود هناك مائة بالمائة... ما حدث في القدس وحيفا – يمكن أن يحدث في أجزاء واسعة من البلاد. إن ثابرنا، فمن المحتمل أن تشهد الأشهر الستة أو الثمانية القادمة تغييرات كبيرة في البلاد، كبيرة ولصالحنا. ستحصل بالتأكيد تغييرات كبيرة في التركيبة الديمغرافية في البلاد.[117]

كان استيلاء إسرائيل على آلاف الدونمات من أراضي الفلسطينيين في 1948 والعقود التالية في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة يهدف إلى خدمة مصالح الإسرائيليين اليهود حصريا. بالنظر إلى الوضع داخل إسرائيل فقط، وجد تقرير أنجز بتكليف من الحكومة الإسرائيلية في 2003 أن "أنشطة المصادرة سُخرت بشكل واضح وصريح لمصالح الأغلبية اليهودية، وتم نقل الأرض إلى كيانات مثل ’الصندوق القومي اليهودي‘، الذي يعرّف نفسه على أنه يخدم المستوطنات اليهودية، أو "سلطة أراضي إسرائيل"، التي تؤكد أنماط عملها أنها تخدم هدفا مماثلا".[118] تُدير سلطة أراضي إسرائيل وتوزّع 93% من الأراضي في إسرائيل،[119] ما يعني أن التقرير الذي أنجِز بطلب من الحكومة وجد أن الدولة تستخدم الغالبية  العظمى من الأراضي في إسرائيل لخدمة جزء واحد من المجتمع، وهم الإسرائيليون اليهود.

الهيئات شبه الحكومية مثل الصندوق القومي اليهودي، والوكالة اليهودية، و"المنظمة الصهيونية العالمية" التي تخدم المجتمع اليهودي دون سواه، تلعب دورا محوريا في هذا الجهد. صدر قانون للكنيست في 1953 منح الصندوق القومي اليهودي، المعروف بـ "كيرين كاييميت ليسرائيل" بالعبرية، سلطات حكومية،[120] ونص "القانون الأساسي: أراضي إسرائيل" (1960) على حظر نقل ملكية الأرض "من خلال بيعها أو بطريقة أخرى".[121] يمتلك الصندوق القومي اليهودي 13% من أراضي إسرائيل، التي تديرها سلطة أراضي إسرائيل. يُشكل الصندوق القومي اليهودي نصف أعضاء مجلس إدارة سلطة أراضي إسرائيل تقريبا، التي تسيطر على 93% من أراضي إسرائيل.[122]

تتمثل المهمة الصريحة للصندوق القومي اليهودي في تطوير وتأجير الأراضي لليهود دون سواهم من الفئات  السكانية. بموجب بنود "عقد التأسيس والنظام الأساسي"، يكتسب الصندوق القومي اليهودي الممتلكات "بهدف توطين اليهود في هذه الأراضي والممتلكات".[123] في دعوى قضائية لسنة 2004، أوضح الصندوق القومي اليهودي أنه "ليس هيئة عامة تعمل لصالح كل مواطني الدولة. فولاء الصندوق موجه للشعب اليهودي دون سواه".[124] لطالما فسّر الصندوق التفويض الممنوح له على أنه يسمح له بمنع الفلسطينيين من الشراء أو التأجير أو البناء على أراضيهم.[125] على إثر دعوى قضائية رفعتها مجموعات حقوقية، سمحت السلطات الإسرائيلية لغير اليهود باستخدام أراضي الصندوق القومي اليهودي بشرط أن تعوّض سلطة أراضي إسرائيل  الصندوق، في حال بيعها لهم، بأرض بقيمة مساوية في مكان آخر.[126] غير أن هآرتس ذكرت أن الفلسطينيين واجهوا "إجراءات روتينية" تتجاوز بكثير ما يواجهه اليهود عند شراء أراض من الصندوق، ما يؤدي إلى تأخير التسجيل لسنوات أو أكثر.[127]

قال قادة الصندوق القومي اليهودي إنهم اتبعوا سياسات مشابهة في الضفة الغربية منذ 1967.[128] وثقت حركة السلام الآن الإسرائيلية ما لا يقل عن 65 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية اشتراها الصندوق للمستوطنات منذ 1967.[129] في فبراير/شباط 2021، وافقت قيادة الصندوق ومجلس إدارته على تغيير سياسات الصندوق للسماح له بشراء الأراضي في الضفة الغربية للمستوطنات على نطاق أوسع.[130]

كما يمنح القانون الإسرائيلي وضعا شبه حكومي للمنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية. أقر قانون في سنة 1952 المنظمتين، اللتين كانتا كيانا واحدا، على أنهما "الوكيل المعتمد" من الدولة "لتنمية البلاد والاستيطان فيها" و"استيعاب المهاجرين من الشتات".[131] تقول الوكالة اليهودية، التي تُعرّف "وظيفتها التاريخية بجلب اليهود إلى وطنهم إسرائيل"، إنها ساعدت أكثر من 30 ألف يهودي في 2018 وأكثر من 250 ألف في العقد الأخير على الهجرة إلى إسرائيل.[132] أما المنظمة الصهيونية العالمية، فأنشِئت في 1897 بمهمة تشمل "تعزيز استيطان المزارعين والحرفيين والتجار اليهود في فلسطين"،[133] ولعبت دورا محوريا في المشروع الاستيطاني منذ الأيام الأولى للاحتلال.[134] تسمح السلطات الإسرائيلية للمنظمة الصهيونية العالمية بإنشاء مستوطنات، وغالبا ما يوقّع المستوطنون الذين يشترون منازل في المستوطنات على عقود مع المنظمة الصهيونية بدلا من الحصول على سندات ملكية كاملة للعقارات.[135] منحت السلطات بشكل مباشر حوالي ثلث "أراضي الدولة"، التي كثيرا ما تشمل أراض صودرت بشكل غير قانوني من الفلسطينيين، في الضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية،  للمنظمة الصهيونية كي تستخدمها للمستوطنات أساسا.[136]

أنشأت المنظمة الصهيونية العالمية، تحت السيطرة المباشرة للحكومة الإسرائيلية، أغلب المستوطنات وتدير تخصيص الأراضي للمستوطنات؛ غرضها المعلن هو "تأسيس وتعزيز الاستيطان اليهودي في محيط البلاد عبر تعزيز السيطرة على أراضي الدولة التي تمنحها لها الحكومة".[137] توفر الحكومة لدائرة الاستيطان ميزانية كاملة، بلغت 441,6 مليون شيكل (132.60 مليون دولار أمريكي) بين عامي 2009 و2018.[138] منذ بداية الألفية الثانية، لعبت المنظمة الصهيونية دورا أكثر نشاطا في النقب والجليل أيضا. وصفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية دائرة الاستيطان بـ "الذراع التنفيذية للحكومة من أجل البناء في الضفة الغربية، وكذلك في النقب والجليل".[139]

اعتمدت السلطات الإسرائيلية سياسة صريحة لضمان سيطرة يهودية على المناطق الجغرافية ذات الأهمية الاستراتيجية والكثافة السكانية الفلسطينية الكبيرة في جميع أنحاء إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. ساهم تهويد هذه المناطق في تسهيل سيطرة الحكومة الإسرائيلية على المراكز السكانية الفلسطينية، مما أدى إلى تقسيمها وعرقل إنشاء مناطق بلدية فلسطينية أكبر ومتجاورة في المواقع التي تطمع بها السلطة الإسرائيلية أو تعتبرها ذات أهمية استراتيجية خاصة. ساهمت هذه الاستراتيجية أيضا بشكل عام في خفض عدد السكان الفلسطينيين ودفعتهم إلى تجمعات سكانية مكتظة.

إسرائيل (الجليل والنقب)

في إسرائيل، تعتمد السلطات سياسة تهدف إلى تهويد منطقتي الجليل والنقب، بالتنسيق مع الصندوق القومي اليهودي، والوكالة اليهودية، والمنظمة الصهيونية العالمية. تُمثل هذه المناطق ثلثَيْ الأراضي في إسرائيل تقريبا،[140] وتشمل معظم السكان الفلسطينيين.[141] الحكومة الإسرائيلية فيها وزارة تركز على "تطوير" الجليل والنقب، واستثمرت بشكل كبير في هذه المناطق، واعتبرتها أولوية حكومية كبرى لمعظم العقدين الماضيين.[142] في 2004، كشفت حكومة شارون عن خطة متعددة القطاعات قُدرت كلفتها بـ 16,8 مليار شيكل (5 مليار دولار) هدفها "زيادة عدد السكان في النقب إلى 1.5 مليون وعدد السكان في الجليل إلى 1.1 مليون بحلول 2010".[143] وصفت هآرتس الجهود التي بُذلت في تطوير هذه المناطق بـ "أكبر جهود استيطانية داخل الخط الأخضر على امتداد السنوات الـ25 الماضية".[144]

بينما تستخدم السلطات الإسرائيلية خطابا غير تمييزي في السعي إلى "تطوير" أو "تعمير" هذه المناطق، كتبت منظمة "سيكوي" الحقوقية في 2005 إنه "من الواضح للجميع أن الخطة مخصصة للسكان اليهود".[145] مثلا، تُعرّف خطة النقب السكان الجدد المثاليين على أنهم "سكان أقوياء" يشملون "عائلات ذات دخل مرتفع" يعملون وسط إسرائيل، وهي منطقة فيها نسبة يهود أعلى بكثير من نسبة الفلسطينيين، ويستمرون في التنقل إلى وظائفهم القديمة.[146] أيضا عرضت السلطات تخفيضا بنسبة 90% على رسوم الإيجار في مباني النقب للجنود الذي خدموا لمدة عام واحد على الأقل، وهو عرض من شأنه أن يجذب اليهود بالأساس بما أن البدو معفيون من الخدمة العسكرية، ونسبة صغيرة فقط منهم تتطوع للخدمة العسكرية.[147] وصف شمعون بيريس ، الذي كان نائبا لرئيس الوزراء آنذاك، تطوير النقب والجليل بـ "المعركة من أجل مستقبل الشعب اليهودي".[148] قالت الوكالة اليهودية إنها ترمي إلى ضمان "أغلبية صهيونية" في النقب والجليل، وأطلقت برامجها الخاصة في هاتين المنطقتين "لحل المشكلة المتعلقة بضرورة أن تتصرف الحكومة باسم جميع مواطني دولة إسرائيل بينما يحق للمنظمة الصهيونية العالمية العمل من أجل الشعب اليهودي".[149] وافقت الحكومة على إنشاء المنظمة الصهيونية لمستوطنات في هذه المناطق.[150]

في ديسمبر/كانون الأول 2007، قال يعقوب ادرعي، وزير تطوير النقب والجليل، في سياق الحديث عن البيانات الديمغرافية الجديدة: "يجب أن نفعل كل ما في وسعنا لزيادة السكان اليهود في الجليل".[151] في 2011، اعتمد الكنيست قانونا يسمح لبلدات النقب والجليل التي فيها أكثر من 400 أسرة باعتماد لجان القبول التي تستطيع رفض مقدمي طلبات للعيش فيها بسبب "عدم ملاءمتهم للحياة الاجتماعية للمجتمع" أو عدم توافقهم مع "النسيج الاجتماعي والثقافي".[152] تحدث رعاة القانون علانية عن تسهيل هذا القانون لإنشاء تجمعات يهودية فقط والحفاظ عليها.[153] في يونيو/حزيران 2019، قال بتسلئيل سموتريتش، وزير النقل آنذاك: "أنوي تهويد الجليل" و"إنشاء شبكة طرقات لإكمال الثورة، حتى يأتي مئات الآلاف من اليهود للعيش في الجليل".[154] قبل ذلك بشهر، كان الصندوق القومي اليهودي قد أعلن أنه يهدف إلى جلب 1.5 مليون ساكن إلى النقب والجليل بحلول 2040.[155]

 

توفر سياسات الحكومة تاريخيا تجاه هذه المناطق سياقا إضافيا لتحديد النية الكامنة وراء السياسات الحالية. خطة تهويد الجليل، وهي منطقة كان من المفترض إلى حد كبير أن تقع ضمن 'الدولة العربية' بحسب "خطة تقسيم فلسطين" التي وضعتها "الأمم المتحدة" في 1948، تعود إلى الخمسينات، حين ظهرت كجزء من استراتيجية لتوطيد السيطرة الإسرائيلية على المنطقة.[156] كتب مسؤول إسرائيلي بارز في ذلك الوقت أن وجود الفلسطينيين في هذه المناطق يهدد السيطرة الإسرائيلية، وأعرب عن قلقه من أنّ الفلسطينيين سوف "يغزون كل المناطق التي نهملها، ويضعون فيها موطئ قدم، ويكوّنون فيها جذورا جديدة".[157] قال بن غوريون للكنيست إن فرض إسرائيل للحكم العسكري على أغلب الفلسطينيين في إسرائيل كان يهدف إلى "حماية حق اليهود في الاستيطان في جميع أنحاء الدولة".[158] ركّزت خطة تهويد الجليل في البداية على إنشاء تجمعات يهودية والحفاظ عليها، مثل نتسيرت عيليت (الناصرة العليا بالعربية) في 1957، مع الحدّ من نمو البلدات  الفلسطينية المجاورة.[159]

في 1976، نشرت صحيفة "عال همشمار" الإسرائيلية وثيقة حكومية مسرّبة صاغها يسرائيل كونيغ، مفوّض المنطقة الشمالية بوزارة الداخلية آنذاك.[160] كانت الوثيقة بعنوان "سري للغاية: مذكّرة- مقترح بشأن التعامل مع عرب إسرائيل"، وتوضح الوضع السكاني في المنطقة، مبرزة أن اليهود يحافظون على أغلبية ديمغرافية قليلة، لكن العرب سيتجاوزونهم في غضون سنوات قليلة إذا استمرت نسب الولادة  على ما هي عليه. أوصت الوثيقة السلطات "بتوسيع وتعميق الاستيطان اليهودي في المناطق التي يكون فيها تواجد العرب كبيرا، وحيث يكون عددهم أكبر بكثير من اليهود، والنظر في امكانية تخفيف التجمعات السكانية العربية الحالية". رغم أن المسؤولين أدانوا الخطة وقالوا إنه لم يتم العمل بها،[161] بقي كونيغ في منصبه أكثر من عشر سنوات بعد نشر المذكرة. في 1995، كرّرت خريطة مسربة أعدتها لجنة تخطيط إقليمية أهدافا مماثلة وكانت عناصر الاستراتيجية تنطوي على أوجه تشابه مع السياسات التي تم تنفيذها منذ ذلك الوقت.[162]

في منطقة النقب، دعا بعض المسؤولين بعد 1948 مباشرة إلى إعادة التوطين القسرية لـ 11 ألف من أصل 65-95 ألف من البدو الفلسطينيين الذين لم يُجبروا على الفرار إلى المناطق المجاورة.[163] غير أن الحكومة اعتمدت خطة ساندها إيغال آلون، قائد الجبهة الجنوبية والحاكم العسكري للنقب، والتي سمحت للتجمعات البدوية بالبقاء، لكن ركّزتهم  في منطقة محدودة حتى يتم ابعادهم عن طرق النقب الرئيسية وضمان الأرض للمستوطنين اليهود وبناء قواعد عسكرية.[164] مازال تركيز التجمعات البدوية الفلسطينية على أجزاء محددة من الأراضي في صميم خطط الحكومة الإسرائيلية الخاصة بالنقب.

استراتيجية زيادة الاستيطان اليهودي إلى أقصى الحدود بالتوازي مع طرد السكان الفلسطينيين لا تزال مستمرة. في النقب مثلا، في ديسمبر/كانون الأول 2000، كتب شارون مباشرة قبل أن يصبح رئيسا للوزراء ويواصل تطوير النقب كهدف رئيسي:

نواجه في النقب مشكلة جسمية وهي أن 900 ألف دونم من أراضي الحكومة ليست في أيدينا، لكن في أيدي السكان البدو. أنا، بصفتي من سكان النقب، أرى هذه المشكلة كل يوم. إنها ظاهرة ديمغرافية بالأساس... بسبب الضعف، وربما أيضا نقص الوعي بهذه المسألة، إننا كدولة لا نفعل شيئا لمواجهة هذا الوضع... البدو ينتزعون مناطق جديدة، ويأكلون من مخزون الدولة من الأراضي، ولا أحد يحرك ساكنا للتصدي لهذا الامر.[165]

في يوليو/تموز 2009، حذر أريئيل أتياس، وزير الإسكان الإسرائيلي آنذاك، من "تمدد" التجمعات الفلسطينية قائلا: "إذا استمرينا كما نفعل حتى الآن، سنخسر الجليل".[166] في وقت لاحق من نفس السنة، قال داني أيالون، نائب وزير الخارجية: "إننا نفقد النقب والجليل"، مشيرا إلى أنّ "في العديد من الاماكن لا يوجد حضور يهودي متواصل" وأنّه بذلك" يجب أن يكون التركيز اليوم على تهويد النقب والجليل".[167]

القدس

تتمثل سياسة الحكومة الإسرائيلية الخاصة بالقدس، بشقيها الشرقي المحتل والغربي، في "الحفاظ على أغلبية يهودية كبيرة في المدينة"، كما هو مذكور في خطة الحكومة للبلدية ("مخطط القدس 2000")، والحد من عدد السكان الفلسطينيين. يعود القلق بشأن التركيبة السكانية في القدس إلى الأيام الأولى للدولة، ولكنه تسارع مع قيام إسرائيل بضم أحادي الجانب للقدس الشرقية المحتلة وأجزاء من القرى المحيطة بها عام 1967. وسع الضم حدود المدينة التي تعتبرها السلطات الإسرائيلية عاصمة للبلاد، ولكنه جلب أيضا المزيد من الفلسطينيين إلى منطقة تعتبرها السلطات جزءا من أراضيها السيادية. لتخفيف الأثر الديموغرافي لهذه الخطوة، منحت السلطات الفلسطينيين من القدس الشرقية الإقامة الدائمة بدلا من المسار السهل للحصول على الجنسية، ووضعت سياسات أخرى تهدف إلى تعزيز الأكثرية الديموغرافية اليهودية في المدينة والحفاظ عليها.

بعد الضمّ، حدد المسؤولون الإسرائيليون هدف الوصول إلى "70% يهود و30% عرب"، رغم أن المشرفين على التخطيط قالوا في وقت لاحق إن "هذا الهدف غير قابل للتحقيق" في ظل "الاتجاه الديمغرافي"، وعدّلوه إلى 60/40%.[168] داخل التجمعات الفلسطينية، تسمح الخطة، بموجب بنودها، "زيادة الكثافة السكانية في البلدات الريفية وتعزيزها في الأحياء الحضرية".[169]

عند ترسيم الحدود البلدية للقدس في 1967، ركزت السلطات بشكل رئيسي، بحسب منظمة بتسيلم الحقوقية، على "اعتبارات ديمغرافية أساسا وعلى رأسها الامتناع عن ضم مناطق فلسطينية مأهولة بكثافة لضمان أغلبية يهودية حاسمة في المدينة".[170] في المجموع أضافت إسرائيل 72 كيلومتر مربع، تشمل أراض كانت تابعة إلى 28 قرية بالضفة الغربية كانت تحيط ببلدية القدس1967. كتب النائب الأسبق لرئيس بلدية القدس ميرون بنفينستي أن الحدود "العبثية" للقدس "ناتجة عن الرغبة في ضمّ 'أكبر قدر من الأرض وأقل عدد من العرب'".[171]

بعد فترة وجيزة من احتلال القدس الشرقية في 1967، صادر المسؤولون الإسرائيليون أراضٍ وأقاموا عدة مستوطنات، مثل رامات أشكول، ومعالوت دفنا، وجفعات همفتار، والتلة الفرنسية، لإنشاء "مسمار" بلغة الحكومة الإسرائيلية، لربط القدس الغربية بجبل المشارف، الذي كان فعليا جزيرة يهودية محاطة بالقدس الشرقية قبل 1967.[172] صادرت السلطات الإسرائيلية أيضا أراضٍ لإنشاء مستوطنات أخرى، مثل رامات ألون وجيلو، لإنشاء "طوق"، بحسب وصفها، حول مركز القدس، وكما قال أحد الأكاديميين "تمنع بالتالي أي احتمال لاستمرار الأحياء العربية".[173] يهدف إنشاء "المسمار" و"الطوق" حول القدس، التي استمرت السلطات في تحصينها في السنوات التالية من خلال التوسع، إلى تعزيز السيطرة اليهودية على المدينة.[174]

شملت المنطقة التي تم ضمها حديثا 66 ألف فلسطيني، أي 24% من سكان البلدية الجديدة. أوصت لجنة حكومية أنشِئت سنة 1972 لتقييم السياسات الإسرائيلية في القدس الحكومة بالعمل على الحفاظ على "نسبة يهود تفوق نسبة العرب كما كانت في آخر 1972"، أو 73.5% يهود إسرائيليين و26.5% فلسطينيين.[175] اعتمدت الحكومة هذه التوصية، وأعادت الحكومات اللاحقة التأكيد عليها.[176] عند إعداد أول خطة بلدية إسرائيلية للقدس في 1975، قال إسرائيل قمحي، مدير سياسات التخطيط بوزارة الداخلية آنذاك: "من الركائز الأساسية لتخطيط القدس هي المسألة الديمغرافية"، ملاحظا أن سياسة الحكومة تجاه "نمو المدينة والحفاظ على التوازن الديمغرافي" سيكون بمثابة "معيار لنجاح ترسيخ مكانة القدس كعاصمة لإسرائيل".[177]

قال تيدي كوليك، رئيس بلدية القدس من 1965 إلى 1993، في اجتماع لبلدية القدس في يناير/كانون الثاني 1982: "أنا أعتني بالأغلبية اليهودية... ولهذا نحن هنا، لنهتم بذلك"، وقال في اجتماع في يونيو/حزيران 1984: "مثلما هو حالنا جميعا كما يبدو لي، أنا قلق بشأن ميزان القوى والنمو العربي في القدس وحولها"، بحسب محضرَي الاجتماعين اللذين راجعتهما بتسيلم.[178] في لقاء مع صحيفة إسرائيلية في 1990، قال:

بالنسبة للقدس اليهودية، فعلت شيئا ما في الـ 20 سنة الماضية. للقدس الشرقية؟ لا شيء! ماذا فعلت؟ لا شيء. أرصفة؟ لا شيء. مؤسسات ثقافية؟ ولا واحدة. نعم، وضعنا نظام صرف صحي لهم وحسّنا تزويدهم بالماء. هل تعلمون لماذا؟ هل تعتقدون أن ذلك لصالحهم أو من أجل رفاههم؟ انسى! سجلنا حالات كوليرا هناك، وكان اليهود خائفين من الإصابة، لذلك وضعنا نظام الصرف الصحي والماء لمحاربة الكوليرا.[179]

قرار الحكومة الإسرائيلية بتطبيق "قانون دخول الفلسطينيين من القدس الشرقية" لعام 1952، المنطبق على الأجانب الذين يدخلون إسرائيل ويرغبون في الإقامة فيها، ومنحهم إقامة دائمة بدلا من الجنسية التلقائية، يوفر دليلا إضافيا على مدى أهمية المعطيات الديمغرافية في السياسات الإسرائيلية في القدس.[180] تنصّ الخطة الهيكلية للقدس 2000 بوضوح على أن "النمو النسبي المستمر للسكان العرب في القدس من شأنه أن يقلل من نسبة السكان اليهود في المستقبل"، وأنه من أجل منع "النمو النسبي المستمر للسكان الفلسطينيين في القدس مقارنة بالسكان اليهود، أو أي وضع أسوأ من ذلك، سنحتاج إلى تغييرات بعيدة المدى في نهجنا بشأن المتغيرات الأساسية التي تؤثر على توازن الهجرة والفجوات في نسب الولادة ، وهي المتغيرات التي تحدد التوازن الديمغرافي في نهاية المطاف".[181]

الضفة الغربية

اتبعت الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية الصيغة نفسها التي اعتمدتها في إسرائيل والقدس الشرقية: سيطرة قصوى على الأرض، وبدرجة كبيرة لصالح اليهود. رغم أنّ الحكومات اختلفت أحيانا بشأن الترتيبات التي ينبغي اتباعها لحكم الفلسطينيين المقيمين في  الضفة الغربية، فإن الأهداف والواقع على الأرض بقيت متسقة إلى حدّ كبير على مر الحكومات المتعاقبة. في 7 يوليو/تموز 1967، بعد شهر بالضبط من احتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية، قال رئيس الوزراء من "حزب العمال" حينها ليفي أشكول إنّ "الأمن والأرض في يد الإسرائيليين".[182] في اجتماع للحزب ذلك العام، أوضح أن السلطات "تطمع في المهر، وليس العروس"،[183] فيما بدا أنه إشارة إلى الرغبة في الضفة الغربية دون الفلسطينيين الذين يعيشون هناك. بعد 52 عاما، قال رئيس الوزراء ناتنياهو، عن حزب الليكود: "سيستمر الجيش وقوات الأمن الإسرائيلية في حكم المنطقة بأكملها، حتى [نهر] الأردن".[184] كما أضاف يوم 28 مايو/أيار 2020: "نحن من نفرض القواعد الأمنية في كامل المنطقة"، واصفا فلسطينيي الضفة الغربية بـ "الرعايا".[185]

الخريطة الحالية للضفة الغربية تعكس عقودا من الخطط الحكومية الإسرائيلية المتغيرة للمنطقة. خُطط إسرائيل الأولى للضفة الغربية، بما في ذلك خطة غير رسمية صيغت في الأساس في يوليو/تموز 1967 من قبل وزير العمل آنذاك إيغال ألون، وضعت تصورا لسيطرة إسرائيل على غور الأردن ومناطق أخرى من الضفة الغربية. في مقال نشره عام 1976 في "فورين أفيرز" لشرح الخطة، أصرّ ألون على ضرورة "السيطرة الإسرائيلية المطلقة على المنطقة الاستراتيجية شرق المنطقة ذات الكثافة العربية، المتمركزة كما هي على قمة التلال ونحو الغرب".[186] هذه الخطة، التي تحافظ على سيطرة إسرائيل على غور الأردن والممر المحيط بالقدس، قسّمت فلسطينيي الضفة الغربية فعليا إلى ثلاثة جيوب: واحد في الشمال من جنين إلى رام الله، وواحد في الجنوب يشمل الخليل وبيت لحم، وواحد في الشرق حول أريحا.[187]

ركّز منطق آلون على الأهمية الاستراتيجية والأمنية لسيطرة إسرائيل على الضفة الغربية، لكن تبريره للحاجة إلى السيطرة دون الضمّ الرسمي لمناطق ذات أعداد كبيرة من السكان الفلسطينيين فيه إشارة إلى أن الهدف هو "الحفاظ على الطابع اليهودي [لإسرائيل]".[188] من المؤكد أن آلون بدا مدفوعا بضمان أمن إسرائيل ومواطنيها، وهو ما ينطبق على المسؤولين اللاحقين أيضا. بعضهم يرى أن المشروع الاستيطاني حيوي لتحقيق الأمن.[189] لكن مهما كان الدافع، من غير المقبول متابعة هذا الهدف من خلال استراتيجية السيطرة على الفلسطينيين، مع الحفاظ على نظام تمييزي والانخراط في تكتيكات ليس لها مبرر أمني مقبول أو فيها انتهاك للقانون الدولي. نية ضمان الأمن لا تنفي نية السيطرة، ولا تمنح تفويضا مطلقا لاعتماد سياسات تتجاوز ما يسمح به القانون الدولي. بينما يمكن للأسس الأمنية أن تبرّر مجموعة من التدابير التقييدية بموجب القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، فإنّ أي استراتيجية تسعى إلى تعزيز الأمن عبر ضمان التفوق الديمغرافي لمجموعة من السكان باعتماد التمييز والاضطهاد ليس لها أي أساس بموجب القانون الدولي.

استندت السياسات الإسرائيلية اللاحقة إلى خطة آلون. في أكتوبر/تشرين الأول 1977، اعتمدت الحكومة الإسرائيلية رسميا خطة أعدها أرييل شارون، الذي كان حينها رئيس "اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان" ووزير الزراعة، والتي وسّعت خطة آلون من خلال توسيع سيطرة إسرائيل في الضفة الغربية إلى شرق الخط الأخضر.[190] دعت الخطّة إلى إنشاء حلقات من "المناطق الأمنية" من أجل "منع السكان الفلسطينيين من التسلل إلى إسرائيل، وإنشاء حاجز يهودي بين عرب إسرائيل في وادي عارة ومنطقة 'المثلث الصغير' [مناطق في وسط إسرائيل قرب الخط الأخضر]، والسيطرة على قمم التلال الرئيسية المطلة على الساحل"، على حدّ تعبير المسؤول الإسرائيلي الأسبق والمحلل شاؤول أرئيلي.[191] في نوفمبر/تشرين الثاني 1978، قال أبراهام أورلي، منسق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في المناطق، في إفادة للمحكمة العليا إن المستوطنات "تُستخدم في الغالب [في أوقات الهدوء] لإظهار الوجود والسيطرة على المناطق الأساسية، للمراقبة والأنشطة المماثلة".[192]

"الخطة الرئيسية لتنمية المستوطنات في يهودا والسامرة 1979-1983"، وهي خطة أعدتها دائرة الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية، الهيئة المكلفة بإنشاء المستوطنات والممولة كليا من الحكومة والعاملة تحت رقابتها المباشرة، استندت إلى هذه الخطط. دعت "خطة دروبلز"، التي تحمل اسم متتياهو دروبلز، مدير دائرة الاستيطان، السلطات الإسرائيلية إلى "الاستيطان في الأراضي الواقعة بين تجمعات الأقلية [العربية] والمناطق المحيطة بها"، مشيرا إلى أن ذلك سيجعل "من الصعب على الفلسطينيين خلق تواصل جغرافي ووحدة سياسية". ذكرت الخطة أيضا أنّ أي حكم ذاتي يُمنح للفلسطينيين، كما نصت على ذلك "اتفاقات كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل في أواخر السبعينيات، "لا ينطبق على المناطق بل على السكان العرب وحدهم"، وأنه "لا ينبغي أن يكون هناك أي شكّ في نيتنا الحفاظ على سيطرة دائمة على أراضي يهودا والسامرة".[193] أضافت أنّ "الطريقة الأفضل والأكثر فاعلية لإزالة أي شكوك في نيتنا السيطرة على يهودا والسامرة إلى الأبد يتم من خلال تسريع الاستيطان في هذه المناطق"، وتحديدا "تحقيق أوسع انتشار ممكن" للمستوطنات و"إنشاء مستوطنات إضافية بجانب كل مستوطنة قائمة".[194]

تقارن الخريطتان الأجزاء من الضفة الغربية المحتلة التي يجب أن تحظى بالأولوية لتطوير المستوطنات بموجب "خطة دروبلز" لعام 1980 والتي وجّهت سياسة الحكومة الإسرائيلية في مجال الاستيطان في ذلك الوقت، وتقسيم الأراضي بموجب "اتفاقية أوسلو" في التسعينيات بين المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل بالكامل (المنطقة "ج") والمناطق التي تدير السلطات الفلسطينية فيها بعض الشؤون (المنطقة "أ" والمنطقة "ب"). © 2021 مايك كينغ/ "نيويورك ريفيو أوف بوكس"

 

في اجتماع للجنة الوزارية لشؤون الاستيطان جرى في يوليو/تموز 1981، برّر شارون تخصيص أراض إضافية في الضفة الغربية كمناطق إطلاق نار مستشهدا "بانتشار القرويين العرب" في تلال جنوب الخليل، بحسب محضر الاجتماع الذي عثر عليه "معهد عكيفوت للأبحاث حول النزاع الإسرائيلي الفلسطيني" في الأرشيف الإسرائيلي.[195] أضاف شارون: "لنا مصلحة في توسيع مناطق إطلاق النار هناك، حتى نحتفظ بهذه المناطق الحيوية في أيدينا".[196]

في 1985، قال وزير الدفاع آنذاك إسحق رابين: "لن تكون هناك تنمية [للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة] تبادر بها الحكومة الإسرائيلية، ولن تُعطى تصاريح للتوسع في الزراعة أو الصناعة [هناك]، والتي من شأنها أن تؤدي إلى منافسة مع دولة إسرائيل".[197]

حددت خطة استراتيجية في 1997 أعدّها قسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية سلسلة من التدابير الإضافية لتعزيز حكم إسرائيل للضفة الغربية. دعت هذه الخطة إلى توسيع "مناطق الاستيطان" لتشمل المواقع العسكرية، والمحميات الطبيعية، والمواقع الأثرية وأراضي الدولة المجاورة، وربطها "بنقاط طوبوغرافية مرتفعة تُطلّ على المستوطنات وشوارع المرور وممرات البنية التحتية" من أجل إنشاء "مساحات متجاورة من الأراضي" خاضعة لسيطرة إسرائيل. ركّزت أيضا على العديد من المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، بما في ذلك حول القدس، في الشمال الغربي للضفة الغربية، وفي غور الأردن، وتلال جنوب الخليل، وأقصى شمال الضفة، والتي ينبغي أن تظلّ إسرائيل مسيطرة عليها لتكون "بمثابة مناطق عازلة" وتوفر للمستوطنين "حياة إسرائيلية طبيعية تماما من جميع النواحي". حدّدت الخطة أيضا "ثلاثة ممرات جانبية استراتيجية"، أو طرق استراتيجية تمتد من الشرق إلى الغرب عبر الضفة الغربية لتكون بمثابة "العمود الفقري" الذي يربط مختلف المستوطنات، وتمنع "العرب من البناء بدون ضوابط"، وتحفظ "التوازن بين حجم السكان الإسرائيليين والعرب".[198]

في 2001، بُعيد انتخابه رئيسا للوزراء، قال شارون: "ليست صدفة أن تكون المستوطنات حيث هي"، لذلك "مهما حدث، علينا أن نحافظ على المنطقة الأمنية الغربية، المتاخمة للخط الأخضر، والمنطقة الأمنية الشرقية على طول نهر الأردن والطرق الرابطة بينهما، وكذلك القدس بطبيعة الحال، والمياه الجوفية في التل".[199]

في 2014، قال عضو الكنيست ياريف ليفين، الذي عُيّن في العام التالي وزيرا للهجرة اليهودية والاندماج في إسرائيل: "السياسة الصحيحة، من وجهة نظر المصالح الإسرائيلية فيما يتعلق بقدرتنا السياسية في الوقت الحالي، هي الجمع بين محاولة الاحتفاظ بأقصى مساحة من الأراضي وفرض السيادة على أكبر مساحة من الأرض مع تقليص العرب فيها إلى أدنى حدّ ممكن. هذا الوضع قائم بالفعل في المنطقة "ج"، الخاضعة لسيطرتنا – هناك أكثر من 50 ألف عربي بقليل".[200] في فبراير/شباط 2021 ، أكد آفي نعيم، الذي كان المدير العام لوزارة شؤون المستوطنات الإسرائيلية بين يوليو/تموز وأكتوبر /تشرين الأول 2020 ، هدف الحكومة المتمثل في "منع اتصال الأراضي الفلسطينية ببعضها البعض" و"إبقاء السيطرة على احتياطيات الأراضي في يهودا والسامرة".[201]

اتخذت السلطات الإسرائيلية خطوات متنوعة للحد من أعداد الفلسطينيين في الضفة الغربية، منها حرمان الفلسطينيين من حقوق الإقامة لوجودهم في الخارج عندما بدأ الاحتلال في 1967، أو لفترات طويلة خلال العقود القليلة الأولى من الاحتلال؛ فرض تجميد فعلي على لم شمل العائلة خلال العقدين الماضيين؛ وتقييد التنقل إلى حد كبير من غزة إلى الضفة الغربية، كما هو موضح في فصل لاحق.[202] يواجه الفلسطينيون المقيمون في المنطقة "ج" عقبة إضافية تتمثل في رفض السلطات منهجيا منحهم تصاريح بناء.[203]

بينما أكّد المسؤولون في بعض الأحيان أن التدابير المتخذة في الضفة الغربية المحتلة مؤقتة، فإنّ أعمال الحكومة وسياساتها على امتداد أكثر من نصف قرن تؤكد نيتها الحفاظ على سيطرتها على الضفة الغربية إلى الأبد. مثلا، رغم أنّ الحكومة الإسرائيلية أعلنت رسميا أنها شيدت جدار الفصل في مطلع الألفية "لغرض التقليل من تسلل الإرهابيين من يهودا والسامرة [لتنفيذ] العمليات في إسرائيل"،[204] فإنّ كبار المسؤولين الإسرائيليين تحدثوا بصراحة عن تسهيل جدار الفصل لعملية الاستيلاء على الأرض.[205] وثقت بتسيلم كيف أن الجدار يهدف إلى حدّ كبير إلى دمج الكتل الاستيطانية، مع تقليل عدد الفلسطينيين الموجودين هناك.[206] اعترفت الحكومة الإسرائيلية بنفسها في إجراءات المحكمة بأن خطط توسيع المستوطنات كانت ضمن الاعتبارات التي حددت مسار الجدار، الذي لا يتّبع الخط الأخضر، بل يضم إلى "الجانب الإسرائيلي" آلاف الدونمات من الأرض.[207]

إلى جانب عمليات الاستيلاء على الأرض، دمجت السلطات بالكامل نظام الصرف الصحي ، وشبكات الاتصال والطرقات والكهرباء، والبنية التحتية للمياه في المستوطنات مع الشبكات والأنظمة والبنى التحتية في إسرائيل. في ديسمبر/كانون الأول 2017، أصدر النائب العام مبادئ توجيهية تفرض على جميع القوانين التي ترعاها الحكومة تحديد انطباقها على المستوطنين أو تبرير عدم انطباقها عليهم.[208] في السنوات الأخيرة، اعتمد الكنيست عددا متزايدا من القوانين التي تنطبق تحديدا على الضفة الغربية، بما في ذلك قانون يسمح للسلطات بمصادرة الأراضي الفلسطينية الخاصة التي بنيت عليها مستوطنات بأثر رجعي، وقانون يحيل الالتماسات المرفوعة ضدّ سياسات الدولة إلى المحكمة الإدارية بدلا من المحكمة العليا، وقانون جعل الجامعات في المستوطنات تحت إشراف "مجلس التعليم العالي في إسرائيل".[209] سواء ضمّت الحكومة الإسرائيلية أو لم تضم أجزاء إضافية من الضفة الغربية، كما تعهد بذلك أكبر حزبين إسرائيليين لمعظم العامين 2019 و2020، الليكود و"أزرق أبيض"، في الجولات الانتخابية الثلاث في إسرائيل بين أبريل/نيسان 2019 ومارس/آذار 2020،[210] فقد سيطرت على هذه المناطق منذ وقت طويل.

قطاع غزة

من 1967 إلى مطلع الألفية الثانية، كانت سياسات إسرائيل تجاه قطاع غزة المحتل انعكاسا لنهجها تجاه الضفة الغربية، فوسّعت سيطرتها على الأرض، ومنحت امتيازات إلى أكثر من 7,500 مستوطن كانوا يعيشون هناك،[211] وأخضعت فلسطينيي غزة.[212] قيام الحكومة الإسرائيلية بإخلاء المستوطنين من غزة في 2005 لم يعكس انزياحا عن هدف السيطرة على السكان والأرض في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل كان بمثابة تعديل  على  ضوء العدد الكبير للفلسطينيين الذين يسكنون القطاع الصغير، والعبء الأمني الكبير الذي يتطلبه توفير الأمن لمجموعة صغيرة جدا من المستوطنين هناك. أظهرت تحوّلا في التركيز على ضمان سيطرة ديمغرافية يهودية في الأراضي التي تأمل أن تحتفظ بها إلى الأبد – إسرائيل ومعظم الضفة الغربية إن لم يكن كلها، بما فيها القدس الشرقية. أدى هذا الانسحاب فعليا إلى إزالة عدد كبير من السكان الفلسطينيين من حسابات التوازن الديمغرافي في إسرائيل، وسمح للسلطات الإسرائيلية بتعزيز أغلبية يهودية قوية في مختلف أنحاء إسرائيل وبقية الأراضي المحتلة التي كانت تنوي الإبقاء عليها، مع فرض سيطرة على غزة بوسائل أخرى.

اعترف مسؤولون إسرائيليون في ذلك الوقت بالأهداف الديمغرافية وراء هذه الخطوة. في 15 أغسطس/آب 2005، وهو اليوم الذي حددته الحكومة الإسرائيلية كموعد نهائي لمغادرة المستوطنون غزة طواعية، قال رئيس الوزراء شارون في خطاب مسائي للإسرائيليين: "لا يمكن الاحتفاظ بغزة إلى الأبد. يعيش أكثر من مليون فلسطيني هناك، وعددهم يتضاعف بعد كل جيل".[213] في الشهر نفسه، قال نائب رئيس الوزراء شمعون بيريس : "نحن ننسحب من غزة بسبب الديمغرافيا".[214]

في الواقع، أقرّت السلطات صراحة بأنها ترغب في إعادة توجيه الموارد التي كانت تذهب إلى المستوطنات في غزة إلى تعزيز السيطرة اليهودية على أجزاء من إسرائيل والضفة الغربية. مثلا، جاءت حملة تهويد الجليل والنقب في مطلع الألفية الثانية في وقت كانت فيه السلطات الإسرائيلية تنفذ خططها للانسحاب من غزة. نقلت هآرتس عن مستشار لرئيس الوزراء شارون آنذاك قوله إن شارون "توصل إلى نتيجة مفادها أنّ الاستثمار الهائل الذي تمّ في الاستيطان في المناطق، يجب أن يتبعه الآن استيطان في الجليل والنقب".[215]

بعد أن انتزعت "حماس" السيطرة على قطاع غزة من السلطة الفلسطينية في 2007، أعلنت الحكومة الإسرائيلية، التي كان لها تعاون أمني مع السلطة الفلسطينية تقابله علاقات عدائية مع حماس، عن قيود على تنقل الأفراد والبضائع من غزة وإليها. كما أعلنت غزة "منطقة معادية"، واتخذت مجموعة من التدابير التي ترمي، من بين أهداف أخرى، إلى إضعاف الاقتصاد.[216] كجزء أساسي من سياستها، فرضت السلطات الإسرائيلية ما أسمته "سياسة الفصل" بين غزة والضفة الغربية، والتي قالت إنها تخدم "أهدافا أمنية وسياسية".[217] في مارس/آذار 2019، ذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست" أن ناتنياهو برر السماح بدخول تمويل قطري إلى غزة لدعم سلطات حماس بالإبقاء على الانقسام بين "فتح" وحماس، وبالتالي الفصل بين الضفة الغربية وغزة.[218]

تُعتبر التركيبة الديمغرافية عاملا محوريا في سياسة الفصل الإسرائيلية. منذ عام 2000، وضعت السياسة الإسرائيلية ما أسمته جماعات حقوقية إسرائيلية "تصاريح الاتجاه الواحد" من الضفة الغربية نحو غزة، أي أنّ في الحالات النادرة التي تسمح فيها السلطات للفلسطينيين بالتنقل بين غزة والضفة الغربية، يكون التنقل نحو غزة حصرا.[219] نصّ "الإجراء الخاص بالاستيطان في غزة من قبل سكان يهودا والسامرة"، الذي نُشر في 2018، على أنه "تم اتخاذ قرار في 2006 باعتماد سياسة الفصل بين يهودا والسامرة وقطاع غزة في ضوء صعود حماس إلى السلطة في القطاع. هذه السياسة سارية حاليا وهي تهدف إلى تقليص السفر بين المناطق". غير أن الوثيقة أشارت إلى أنه "يجوز لسكان يهودا والسامرة تقديم طلب للحصول على توطين دائم في قطاع غزة لأي غرض يُعتبر إنسانيا (لم شمل العائلة  عادة)". ثم أوضحت أنّه "بما أنّ "توطين السكان في يهودا والسامرة ممكن فقط في الحالات النادرة جدا... تظهر الحاجة إلى الإبقاء على العائلة في قطاع غزة".[220]

شروط إسرائيل لسكان غزة الراغبين في الاستقرار في الضفة الغربية، والتي نُشِرت في وثيقة منفصلة للجيش الإسرائيلي، تعيد تطبيق نفس السياسة، حيث نصّت على ما يلي: "لجميع الأهداف العملية، لن يُسمح بدخول سكان غزة إلى منطقة يهودا والسامرة إلا في الحالات الإنسانية الاستثنائية جدا". أشارت أيضا إلى أن نائب وزير الدفاع "اشترط اعتماد سياسة تقييدية جدا مع كل حالة تنطوي على استقرار سكان من غزة في منطقة يهودا والسامرة" و"أوضح أن العلاقة العائلية في حدّ ذاتها لا تُعتبر سببا إنسانيا يُبرّر استقرار سكان غزة في منطقة يهودا والسامرة".[221]

وجدت منظمة "غيشا-مسلك"، استنادا إلى معلومات حصلت عليها من الجيش الإسرائيلي عبر طلبات بموجب قانون "حرية المعلومات"، أن الجيش الإسرائيلي وافق فقط على ستة طلبات قدمها سكان من غزة للإقامة في الضفة الغربية في الفترة بين 2009 ومارس 2017، وجميعها استوجبت تقديم دعوى لدى المحكمة الإسرائيلية العليا. أربع من هذه الحالات الست كانت لأطفال ليس لهم من يعتني بهم في غزة.[222] في المقابل، وافق الجيش في الفترة بين يناير/كانون الثاني 2011 وأغسطس/آب 2014 على 58 طلبا لسكان من الضفة الغربية يرغبون في الانتقال إلى غزة، شريطة التوقيع على وثيقة يتعهدون فيها بعدم العودة إلى الضفة أبدا.[223] إضافة إلى ذلك، أعاد الجيش الإسرائيلي في الفترة بين 2004 و2017 إلى غزة أكثر من 130 فلسطيني من الغزاويين الذين يعيشون في الضفة الغربية دون تصاريح إسرائيلية سارية، لكن يبدو أن نفس الشيء لم يحدث في الاتجاه الآخر.[224]

هذه السياسات تضغط فعليا على الفلسطينيين للخروج من الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تطمع السلطات في تخصيصها للاستيطان اليهودي، أي الضفة الغربية، ودفعهم إلى قطاع غزة، لينضموا إلى أكثر من مليونَي فلسطيني هم فعليا خارج حساباتها الديمغرافية في الأراضي التي يقيم فيها اليهود. من دون غزة، تغيرت النسب الديمغرافية لليهود والفلسطينيين من النهر إلى البحر من 50-50 إلى أغلبية يهودية بنسبة 59-41.

بالإضافة إلى ذلك، شجع المسؤولون الإسرائيليون أحيانا هجرة الفلسطينيين من غزة إلى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة بأسرها.[225] في أغسطس/آب 2019، قال مسؤول رفيع، يبدو أنه مقرّب من ناتنياهو، لصحفيين إسرائيليين إن السلطات تدعم بنشاط هجرة الفلسطينيين من غزة، وستغطي تكاليف الهجرة، حتى أنها ستسمح للفلسطينيين باستخدام مطار إسرائيلي للمغادرة إلى بلدانهم المضيفة الجديدة.[226]

التجزئة

تجزئة المجموعات السكانية الفلسطينية – جزء منها كان متعمدا من خلال سياسة الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة – بالإضافة إلى القيود على التنقل بين القدس الشرقية وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومجموعة القيود على حقوق الإقامة، تشكل أداة أخرى لضمان الهيمنة. على وجه الخصوص، فإن الشرذمة تقسم السكان وتسهل الهندسة الديموغرافية وهي أساسية للحفاظ على السيطرة السياسية من قبل اليهود الإسرائيليين. كما تزيد من تآكل الروابط السياسية والاجتماعية بين الفلسطينيين، وبالتالي تضعف مقاومة الحكم الإسرائيلي.[227]

الخلاصة

سعي السلطات الإسرائيلية للحفاظ على سيطرة للإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في التركيبة الديمغرافية والأرض في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، يرقى إلى "غرض" أو "أغراض" إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية [عرقية] ما من البشر على فئة عنصرية [عرقية] أخرى من البشر" كما تحدده اتفاقية الفصل العنصري.[228] يرقى ذلك أيضا إلى "نية" أو نوايا الإبقاء على "نظام مؤسسي قوامه القمع المنهجي والسيطرة المنهجية"، كما يحدده تعريف الفصل العنصري في نظام روما الأساسي،[229] ونية أو نوايا تمييزية، كجزء من تعريف الاضطهاد في القانون العرفي الدولي. هذه السياسات والممارسات والتصريحات تُثبت مع بعضها النية التمييزية للسلطات الإسرائيلية بالحفاظ على سيطرة منهجية للإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين.

 

 4.القمع الممنهج والتمييز المؤسسي

بالإضافة إلى نية الهيمنة، يتطلب تعريف جريمة الفصل العنصري بموجب اتفاقية الفصل العنصري و"نظام روما الأساسي" وجود قمع ممنهج وارتكاب أعمال لاإنسانية.

كما ورد أعلاه، تنتهج الحكومة الإسرائيلية سياسات وممارسات في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل تبرهن عن نيتها الإبقاء على هيمنة اليهود الإسرائيليين على الفلسطينيين. إلا أن الشدة والأساليب المستخدمة تختلف بحسب المكان.

في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تُخضع إسرائيل بشكل منهجي  الفلسطينيين المقيمين هناك والبالغ عددهم أكثر من 5 ملايين. سيوضح هذا الفصل أن هذه السياسات التعسفية شديدة إلى درجة أنها ترقى إلى مستوى "القمع المنهجي" لغرض جريمة الفصل العنصري.

ضمن حدود إسرائيل ما قبل 1967، يحمل الفلسطينيون المواطنة ولديهم الحق في التصويت وحرية التنقل، ويواجهون سياسات وممارسات أقل قسوة، لكنهم رغم ذلك يواجهون تمييزا مؤسسيا وانتهاكات أخرى.

على نقيض التعامل المختلف مع الفلسطينيين، تمنح السلطات الإسرائيلية جميع اليهود الإسرائيليين نفس الحقوق والامتيازات بغض النظر عن أي جانب من الخط الأخضر يعيشون عليه. النتيجة، بدرجات متفاوتة، هي منحهم امتيازا على الفلسطينيين في معظم جوانب الحياة، بما فيها الوضع القانوني، والحصول على الأرض وحرية البناء، وتخصيص الموارد والخدمات.

القمع الممنهج في الأراضي الفلسطينية المحتلة

الضفة الغربية

منذ احتلالها الضفة الغربية يوم 7 يونيو/حزيران 1967، حكمت السلطات الإسرائيلية المنطقة بأكملها. في ذلك اليوم، أصدر الجيش إعلانا نصّ فيه على أن قائد منطقة الضفة الغربية له "كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية" على الأراضي المحتلة.[230] منذ ذلك الوقت، أصدر الجيش مئات الأوامر العسكرية التي تحكم العديد من مناحي الحياة اليومية، بما في ذلك تنظيم حرية التنقل والوصول إلى الأراضي والموارد الطبيعية، باستثناء القدس الشرقية، التي ضمّتها إسرائيل من طرف واحد في 1967 وتحكمها بموجب قانونها المدني.[231] تمارس السلطات الإسرائيلية سيطرة حصرية على المنطقة "ج"، التي تشمل حوالي 60% من الضفة الغربية. منذ تأسيسها في 1994، أدارت السلطة الفلسطينية بعض الشؤون في المنطقتين "أ" و"ب"، اللتين تشكّلان الـ40% المتبقية، لا سيما في مجالات التعليم والرعاية الصحية وشؤون مدنية أخرى. غير أن السلطات الإسرائيلية تقيّد بشكل كبير  سلطات السلطة الفلسطينية حتى في المنطقتين "أ" و"ب" أيضا، ولها السيطرة العليا على العديد من جوانب حياة الفلسطينيين في كل أرجاء الضفة الغربية، بما يشمل الحدود، والسيطرة على الموارد الطبيعية، والمجال الجوي، وحركة الناس والبضائع، والأمن، وسجلّ السكان.

المستوطنات الإسرائيلية والقيود الأخرى تحصر فعليا الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة في مجموعات من الجيوب. © 2020 "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية"

منذ 1967، أنشأت السلطات الإسرائيلية أكثر من 280 مستوطنة في الضفة الغربية، منها 138 معترفا بها، و150 "بؤرة استيطانية" – مستوطنات دون تصاريح رسمية  لكن وفرت لها السلطات البنية التحتية والخدمات الأساسية والأمن – بالإضافة إلى 11 مستوطنة في القدس الشرقية وعدة جيوب استيطانية في الأحياء الفلسطينية في أجزاء من القدس الشرقية والخليل.[232] تخرق السلطات الإسرائيلية بذلك الحظر الذي تنص عليه "اتفاقية جنيف الرابعة"، الذي يمنع نقل السكان المدنيين التابعين لسلطة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة.[233] تمنع السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين في الضفة الغربية من دخول المستوطنات، باستثناء العمال الذين يحملون تصاريح خاصة،[234] وجميع المستوطنين تقريبا هم يهود إسرائيليون.

تُعامل السلطات الإسرائيلية أكثر من 441 ألف مستوطن و2.7 مليون فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية، بنظامين قانونيين مختلفين.[235] كما تُعامل المجموعتين السكانيتين بشكل غير متكافئ في مسائل عدة، مثل حماية الحقوق المدنية والسياسية؛ وطرق فرض الأمن؛ وحرية التنقل؛ وحرية البناء؛ والحصول على الماء والكهرباء والبنى التحتية، وغيرها من الموارد والخدمات.

المكانة القانونية

للفلسطينيين والإسرائيليين اليهود الذين يعيشون في الضفة الغربية وضعان قانونيان مختلفان. يحمل الفلسطينيون بطاقات هوية وجوازات سفر تسمح لهم بالإقامة والعمل في الضفة الغربية، لكنها لا تمنحهم المواطنة أو الجنسية.[236] فقط الفلسطينيون المسجلون في سجل السكان الذي تسيطر عليه إسرائيل لهم حق الحصول على بطاقات هوية أو جوازات سفر. رفضت السلطات الإسرائيلية تسجيل أو منح إقامة لمئات الآلاف من فلسطينيي الضفة الغربية لأنهم إما كانوا خارج الأراضي الفلسطينية عند بداية الاحتلال في 1967 أو أمضوا فترات في الخارج بين 1967 و1994.[237] في المقابل، يُعتبر الإسرائيليون اليهود الذين يعيشون في الضفة الغربية مواطنين إسرائيليين، ولا يفقدون ذلك الوضع بصرف النظر عن عدد السنوات التي قضوها في الخارج.

يحظى الفلسطينيون والمستوطنون بمستويات مختلفة جدا من حرية التنقل. السلطات الإسرائيلية تمنع فلسطينيي الضفة الغربية من دخول أجزاء كبيرة من الضفة نفسها، بما في ذلك القدس الشرقية والقرى المجاورة لها التي ضمتها إسرائيل في 1967، ومنطقة التماس بين جدار الفصل والخط الأخضر، والمستوطنات والمناطق التي تعتبرها "مناطق عسكرية مغلقة".[238] الجدار الفاصل، الذي يقسم في بعض المواقع مناطق سكانية فلسطينية، يقيّد تنقل الكثير من الفلسطينيين ويعزلهم عن أراضيهم الزراعية، ويُجبر 11 ألف فلسطيني ممن يعيشون في منطقة التماس، وممنوعين من دخول إسرائيل، على عبور جدار الفصل حتى يصلوا إلى ممتلكاتهم وبعض الخدمات الأساسية.[239] يواجه الفلسطينيون أيضا حوالي 600 عائق  دائم يقيّد تنقلاتهم، مثل الحواجز ومتاريس الطرق الموضوعة داخل الضفة الغربية بدل أن تكون على طول الخط الأخضر الذي يفصلها عن إسرائيل.[240] قوات الأمن المتمركزة على  الحواجز لها سلطة إعادة الفلسطينيين دون سبب، أو كما يحصل في الغالب، تحويل التنقلات القصيرة إلى رحلات طويلة ومهينة تستغرق ساعات. في المقابل، تسمح السلطات الإسرائيلية للمستوطنين والمقيمين والزائرين الإسرائيليين، والسياح الأجانب أيضا، بحرية تنقل واسعة في كل أنحاء الضفة الغربية، بما في ذلك 'منطقة التماس' والكثير من المناطق العسكرية المغلقة باستثناء المراكز السكنية الفلسطينية، وفي القدس الشرقية وإسرائيل.[241]

زعمت إسرائيل أنها بنت جدار الفصل لأسباب أمنية، وبدأت عملية بنائه في 2002 أثناء الانتفاضة الثانية. غير أنّ مسؤولين اعترفوا بأن إسرائيل اختارت مساره، الذي يمر  85% منه داخل الضفة الغربية، ويسير مسافة 22 كيلومتر بعد الخط الأخضر،[242] استجابة لاحتياجات النمو في المستوطنات،[243] وحفاظا على نسيج حياة المستوطنين الإسرائيليين.[244]

بموازاة ذلك، تطبّق إسرائيل قوانين مختلفة على الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين. حيث يحكم الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية بموجب قانون عسكري، يشمل قوانين كانت موجودة في الضفة الغربية قبل بدء الاحتلال. الجيش الإسرائيلي الذي يحكم الفلسطينيين بالقانون العسكري، أصدر أوامر عسكرية تنصّ على أنّ المستوطنات ينطبق عليها القانون المدني والإداري الإسرائيلي،[245] وهو إجراء وصفه المحامي الحقوقي الإسرائيلي مايكل سفارد بـ "طريقة الأنابيب"، أي أنه يسمح للسلطات الإسرائيلية بـ "ممارسة سلطات في المستوطنات دون ضمّها بحكم القانون".[246] في السنوات الأخيرة، وبعد صدور المبادئ التوجيهية التي وضعها النائب العام في ديسمبر/كانون الأول 2017، والتي نصّت على أن تُشير كل مشاريع القوانين الحكومية إلى أنها تنطبق على المستوطنين في الضفة الغربية، أو تبرّر العكس، صارت العديد من تشريعات "الكنيست" تنصّ مباشرة على أنها تسري على المستوطنين في الضفة الغربية.[247]

تعتمد السلطات الإسرائيلية أيضا أنظمة متوازية للقضاء الجنائي بالنسبة للمستوطنين والفلسطينيين في الضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية. تُحاكم السلطات الفلسطينيين المتهمين بجرائم في محاكم عسكرية يواجهون فيها نسبة إدانة تقارب 100%.[248] في المقابل، أصدرت السلطات قوانين وسّعت من مجال القانون الجنائي الإسرائيلي على أساس فردي، ومنحت المحاكم الإسرائيلية ولاية قضائية عليهم، مع اتباع سياستها القديمة بعدم محاكمة أي مستوطنين يهود في المحاكم العسكرية.[249] وجدت جمعية حقوق المواطن في إسرائيل في تقرير صدر في 2014 أنه "منذ الثمانينات، جميع المواطنين الإسرائيليين الذي مثلوا أمام المحاكم العسكرية كانوا مواطنين عرب ومقيمين  في إسرائيل".[250]

أدى تطبيق مجموعات من القوانين الازدواجية إلى خلق واقع يعيش فيه شخصان في نفس المنطقة، لكنّ واحدا منهما فقط يتمتع بحماية قوية لحقوقه.[251] مثلا، يتمتع المستوطنون بحرية التعبير، التي يقيّدها القانون الإسرائيلي فقط في حال وجود "شبه يقين" من أنها قد تعرّض المصالح الأمنية الحيوية إلى "خطر كبير".[252] في المقابل، قد يواجه الفلسطينيون عشر سنوات في السجن لمحاولة التأثير على الرأي العام بصورة "من الممكن" أن تمسّ بسلامة الجمهور أو النظام العام.[253] قد يُسجن الفلسطينيون أيضا لمجرد المشاركة في تجمهر غير مرخص له فيه أكثر من عشرة أشخاص حول موضوع "يمكن تفسيره كسياسي"،[254] بينما يستطيع المستوطنون التظاهر دون ترخيص بشرط أن يكون عدد المتظاهرين دون 50، وتكون المظاهرة في فضاء مفتوح، وليس فيها "خطب وبيانات سياسية".[255] تستطيع السلطات عدم منح المستوطنين ترخيص لمثل هذه الاحتجاجات، لكن فقط عندما يكون لديها "شبه يقين" من أنه يمس  بالأمن العام والنظام العام وحقوق الآخرين.[256]

التمييز متجذر أيضا في كل جوانب القانون الجنائي ونظام الاحتجاز، حيث يتطلب تفتيش مستوطن مذكرة أو الامتثال لشروط تقييدية للغاية، والتي لا ينطبق أي منها على فلسطينيي الضفة الغربية.[257] ينصّ القانون الإسرائيلي أيضا على عرض المحتجزين على قاض في غضون 24 ساعة – رغم أنه يمكن تمديد الفترة إلى 48 ساعة في الحالات الاستثنائية و96 ساعة في الحالات القصوى المسموح بها – بينما يسمح باحتجاز الفلسطينيين لفترة تصل إلى ثمانية أيام قبل عرضهم على قاض، والذي يكون في حالتهم قاضيا عسكريا.[258] تستطيع السلطات تجديد احتجازهم لفترات أطول ولها هامش كبير لوضع الفلسطينيين رهن الاحتجاز على ذمة المحاكمة وأثناء الإجراءات القضائية، مقارنة بالمعايير المنطبقة على المدنيين الإسرائيليين، بما في ذلك المستوطنين.[259] تستطيع السلطات أيضا حرمان الفلسطينيين من التواصل مع محام لمدة تصل إلى ضعف تلك المنطبقة على المستوطنين – حتى 96 ساعة في الجرائم العادية و60 يوما في "الجرائم الأمنية"، مقارنة بـ 48 ساعة و21 يوما للمستوطنين.[260]

القوانين المنظِّمة لاحتجاز الأطفال أيضا تميّز بين الإسرائيليين وفلسطينيي الضفة الغربية. القانون المدني الإسرائيلي يحمي الأطفال من الاعتقالات الليلية، ويمنحهم حقّ حضور أحد الوالدين أثناء التحقيق، ويحصر المدة التي قد يُحتجز فيها الطفل قبل تمكنه من التواصل مع محام وعرضه على قاض.[261] لكنّ الأطفال الفلسطينيين في الضفة الغربية يحظون بقدر أقل بكثير من الحماية على مستوى القانون والممارسة، حيث تعتقلهم القوات الإسرائيلية بانتظام في مداهمات ليلية، وتحقق معهم دون حضور وليّ الأمر، وتحتجز أطفالا لم يتجاوزوا 12 عاما على ذمة المحاكمة لفترات مطولة.[262] في 2017، وجدت "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل"، اعتمادا على بيانات حكومية من 2015، أن السلطات أبقت 72% من الأطفال الفلسطينيين رهن الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات، بينما لم تتجاوز النسبة 17.9% لدى الأطفال في إسرائيل.[263]

منذ 1967، اعتقلت السلطات الإسرائيلية مئات الآلاف من الفلسطينيين لما اعتبرته "مخالفات أمنية"،[264] وعمليا، في أي وقت من الأوقات يكون هناك مئات المعتقلين إداريا استنادا إلى أدلة سريّة، دون تهم أو محاكمة، ولفترات قابلة للتجديد قد تصل إلى عدة سنوات.[265] بحسب "مصلحة السجون الإسرائيلية"، وحتى أبريل/نيسان 2021، اعتقلت السلطات 4,323 فلسطينيا من الضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية، بسبب "مخالفات أمنية"، منهم 426 معتقلا إداريا.[266] تحتجز إسرائيل معظم السجناء الفلسطينيين من الأراضي المحتلة داخل إسرائيل، رغم أنّ نقل السكان من المناطق المحتلة ينتهك القانون الإنساني الدولي، ويعقّد زياراتهم العائلية.[267] في المقابل، لم تحتجز السلطات الإسرائيلية حتى 1 مارس/آذار 2021 أي يهودي إسرائيلي بسبب "مخالفات أمنية"، بل إنها على امتداد 54 عاما تقريبا من الاحتلال لم تعتقل إداريا سوى عدد قليل من اليهود الإسرائيليين.[268]

على مدى عقود، أساءت السلطات الإسرائيلية معاملة المعتقلين الفلسطينيين وعذبتهم، باستخدام أساليب نادرا ما اعتمدتها ضدّ المعقتلين اليهود.[269] في سبتمبر/أيلول 1999، أصدرت "المحكمة الإسرائيلية العليا" حُكما منعت فيه بعض أساليب التعذيب، نتج عنه تراجع كبير في عدد الأشخاص الذين يتعرضون للتعذيب، لكنه لم يقض على هذه الممارسة.[270] قُدمت حوالي 1,300 شكوى تعذيب ضدّ السلطات الإسرائيلية لدى وزارة العدل الإسرائيلية بين 2001 ويونيو/حزيران 2020، نتج عنها تحقيق جنائي واحد دون أي محاكمة.[271] ذكرت المنظمة الحقوقية الإسرائيلية "اللجنة العامة لمناهضة العذيب" في تقرير أصدرته في يونيو/حزيران 2019 أنها قدمت أكثر من مئة شكوى على مدى السنوات الخمس الماضية تتعلق بمزاعم تعذيب على يد "جهاز الأمن العام الإسرائيلي" المعروف بالـ "شين بيت" أو "الشاباك"، تعلقت 31% منها بالعنف الجسدي، و40% بالتقييد المطول بالأغلال أو استخدام الوضعيات المُجهدة، و66% بالحرمان من النوم، و61% بالتهديدات، و27% بالتحرش الجنسي والإذلال.[272] تستخدم قوات الأمن القوة غير الضرورية بشكل روتيني ضدّ الأطفال أثناء الاعتقالات التي تحدث غالبا في منتصف الليل، وتسيء معاملتهم أثناء الاعتقال.[273]

تداهم قوات الأمن الإسرائيلية أيضا بشكل متكرر المناطق الفلسطينية المأهولة في الضفة الغربية، حتى في المنطقة "أ"، حيث كلفت السلطات الإسرائيلية السلطة الفلسطينية ظاهريا بإدارة الشؤون المدنية والأمنية بالكامل. تستخدم القوات الإسرائيلية القوة المفرطة بشكل روتيني، بما يشمل الذخيرة الحية، ضدّ المتظاهرين الفلسطينيين، ورماة الحجارة، والذين يشتبه في ارتكابهم اعتداءات وغيرهم أثناء أعمالها الأمنية، بينما كان يمكن استخدام وسائل أقلّ ضراوة.[274] بحسب "بتسيلم"، قتلت قوات الأمن الإسرائيلية 449 فلسطينيا في الضفة الغربية في الفترة بين 19 يناير/كانون الثاني 2009 و31 يناير/كانون الثاني 2021.[275] كما أصيب آلاف الآخرين بجروح خطيرة.[276]

في المقابل، يتمتع المستوطنون بإفلات كامل تقريبا من العقاب على الأعمال الإجرامية التي يرتكبونها ضدّ الفلسطينيين. بين 2005 و2019، أغلقت الشرطة 91% من الشكاوى التي قدمتها منظمة "ييش دين" الحقوقية الإسرائيلية، والمتعلقة بأعمال عنف ارتكبها مستوطنون ضدّ أشخاص فلسطينيين وممتلكات فلسطينية، دون إدانة أي شخص.[277] وجدت بتسيلم أيضا أن قوات الأمن لا تكتفي بعدم التدخل، "بل... ترافق المستوطنين أثناء تنفيذ اعتداءاتهم وتدعمهم وتؤمّن لهم الحماية، وأحيانا تنضمّ إلى صفوفهم كمعتدية".[278]

الأرض والمسكن

منذ 1967، صادرت السلطات الإسرائيلية أكثر من مليونَي دونم من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، غالبا من أجل إقامة مستوطنات وتلبية احتياجات المستوطنين اليهود. استخدمت السلطات الإسرائيلية صكوك قانونية مختلفة لمصادرة الأراضي، كما هو مبيّن في فصل لاحق من هذا التقرير، ومن بينها تصنيف الأراضي، بما فيها الملكيات الخاصة العائدة إلى فلسطينيين، على أنها "أراضي دولة".[279]

بحسب أرقام صادرة عن "الإدارة المدنية الإسرائيلية" حصلت عليها حركة  "السلام الآن" في يونيو/حزيران 2018، خصّصت السلطات الإسرائيلية 674,459 دونم من أراضي الدولة في الضفة الغربية لاستخدام المدنيين الإسرائيليين  وبشكل أساسي للمستوطنات. [280] يشمل هذا الرقم 99.76%من مجموع أراضي الدولة التي خصصتها السلطات الإسرائيلية بشكل رسمي للاستخدام من قبل أطراف ثالثة. أما نسبة الـ 0.24% المتبقية، أي حوالي 1,600 دونم، فذهبت إلى الفلسطينيين. و80%من هذا الجزء الصغير كانت "تعويضا" عن الأراضي التي خُصصت للمستوطنات والأراضي البديلة التي تم منحها بعد النقل القسري للبدو الفلسطينيين من الأراضي التي كانوا يعيشون فيها. خصصت السلطات غالبية أراضي الدولة، المقدرة بـ 400 ألف دونم إجمالا، إلى "المنظمة الصهيونية العالمية"، بحسب معطيات قُدِّمت إلى جمعية حقوق المواطن في إسرائيل ومنظمة "بمكوم" في مارس/آذار 2013.[281] تُعرّف دائرة الاستيطان التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية مهمتها بـ "إنشاء وتعزيز الاستيطان اليهودي في محيط الدولة عبر تعزيز السيطرة على أراضي الدولة التي تمنحها لها الحكومة".[282]

جعلت السلطات الإسرائيلية حصول الفلسطينيين على تصاريح بناء في المنطقة "ج"، التي تشكل 60% من الضفة الغربية والخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الحصرية، أمرا شبه مستحيل.[283] طيلة فترة الـ20 عاما بين 2000 و2019، وافقت السلطات الإسرائيلية فقط على 245 تصريح بناء لفلسطينيين في المنطقة "ج"، أي أقل من 4% من مجموع الطلبات المقدّمة. أصدرت 21 تصريحا بين 2016 و2018، أي أقل من 1.5% من مجموع الطلبات.[284] هدمت إسرائيل أيضا 5,817 منزلا ومنشأة أخرى يملكها فلسطينيون في الضفة الغربية بين 2009 و2020، أغلبها بسبب عدم الحصول على تصاريح، بحسب "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (أوتشا).[285] وثّقت بتسيلم أن عدد المنازل الفلسطينية التي هدمتها السلطات في هذه الفترة كان 1,533 منزلا، أغلبها بسبب عدم الحصول على تصاريح، ما تسبب في تهجير 6,492 فلسطينيا.[286] في المقابل، تقدم السلطات الإسرائيلية مجموعة من الحوافز، بما في ذلك مخصصات للسكن، ودعم للأعمال التجارية، لا سيما في الزراعة والمناطق الصناعية، وتحفيزات مالية وإعفاءات ضريبية، لتشجيع الإسرائيليين اليهود على الانتقال إلى المستوطنات.[287] من خلال القيام بذلك ، قاموا بشكل منتظم  وغير قانوني بتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية على مدى عقود.بحسب السلام الآن، بدأت السلطات الإسرائيلية بين 2009 و2020 في بناء أكثر من 23,696 وحدة في مستوطنات الضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية.[288]

في 2013، قدّر البنك الدولي الخسائر التي تلحقها القيود التمييزية الإسرائيلية في المنطقة "ج" بالاقتصاد الفلسطيني بـ 3.4 مليار دولار سنويا.[289]

الموارد والخدمات

تمارس السلطات الإسرائيلية سيطرة أساسية على الموارد والبنية التحتية، وتعطي الأفضلية بشكل منهجي للمستوطنين اليهود الإسرائيليين على الفلسطينيين في مدّ الطرق وتوفير الماء والكهرباء والرعاية الصحية والخدمات الأخرى. حتى في الجيوب المحاصرة التي يمارس فيها الفلسطينيون درجة من الحكم الذاتي، هم يعتمدون على مشاريع للبنى التحتية، مثل الطرق وأبراج الكهرباء وأنابيب الماء والصرف الصحي، التي تتطلب تصاريح صادرة عن إسرائيل أو تمرّ من مناطق خاضعة لسيطرة إسرائيل في المنطقة "ج".

شيدت السلطات الإسرائيلية شبكة الطرق الأساسية في الضفة الغربية، غالبا بنفقة عالية وعلى الأراضي المصادرة من الفلسطينيين، لتجاوُز المناطق السكنية الفلسطينية ولربط المستوطنات بشبكة الطرق الإسرائيلية والمستوطنات الأخرى والمناطق الحضرية الأساسية داخل إسرائيل.[290] بحسب بتسيلم، تمنع السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين من السفر على أكثر من 40 كيلومتر من طرق الضفة الغربية، وتقيّد استخدامهم لحوالي 19 كيلومتر أخرى منها، لكن ذلك لا يشمل الطرق داخل مدينة الخليل.[291] تمنع القوات الإسرائيلية الفلسطينيين في الخليل من المشي في أجزاء كبيرة مما كان سابقا تقاطعا رئيسيا في المدينة كجزء من سياستها لجعل هذه المناطق "معقمّة" من الفلسطينيين، بحسب تعبير الجيش الإسرائيلي.[292]

لتسهيل تنقل الفلسطينيين بين مناطقهم دون استخدام الطرق الالتفافية التي يفضلها المستوطنون، أنشأت السلطات الإسرائيلية شبكة طرق ثانوية وبدائية للفلسطينيين. هذه الطرق التي يسميها الجيش الإسرائيلي بـ "طرق نسيج الحياة"، تمتد بشكل عام بجانب أو تحت "الطرق الالتفافية" التي يستخدمها الإسرائيليون.[293] من خلال البوابات الموجودة عند مداخل ومخارج الجيوب الفلسطينية المحاصرة، تستطيع السلطات متى شاءت إغلاق الشبكة وقطع الحركة المرورية بين مختلف أجزاء الضفة الغربية، منشئة ما أسماه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "نظام سيطرة قابل للمواءمة".[294]

مثلا، شيدت السلطات الإسرائيلية في الثمانينات قسما كبيرا من شارع  رقم 443 في الضفة الغربية، الذي  يقع جزء منه  على أراض فلسطينية مصادرة، لتزويد الإسرائيليين بمسار بديل للتنقل بين القدس وتل أبيب.[295] اعترض بعض أصحاب الأراضي على المصادرة، لكن المحكمة العليا رفضت التماسهم، وأيدت موقف الحكومة بأنها شيدت الشارع ، الذي  كان  أيضا يربط تاريخيا رام الله بالقرى الموجودة غربها، لأسباب منها خدمة للسكان الفلسطينيين المحليين.[296] في 2002، بعد هجمات نفذها فلسطينيون على مركبات إسرائيلية أثناء الانتفاضة الثانية، منعت السلطات الإسرائيلية المركبات الفلسطينية من استخدام الشارع  لأي سبب كان، وقال القائد العسكري الإسرائيلي المحلي آنذاك: "لقد حَوّلتُ الشارع  رقم 443 إلى شارع  خاص  بالإسرائيليين فقط".[297] في 2007 و2008، شيدت السلطات طرق "نسيج الحياة" لتسهيل وصول الفلسطينيين إلى رام الله دون استخدام الشارع  رقم 443. بعد سنوات من التقاضي من قبل منظمات حقوقية إسرائيلية، فتح الجيش الإسرائيلي الطريق مجددا أمام حركة المرور الفلسطينية في 2010.

غير أن الجيش أبقى حواجز في كل التقاطعات التي تسمح بالوصول إلى القرى الفلسطينية. كما أنهم أبقوا على حاجز  بالقرب من سجن عوفر، والتي كان الجنود فيها يعيدون جميع الفلسطينيين الذين لا يحملون تصاريح للتنقل نحو الشرق، والذين يمكن التعرف عليهم عبر لوحات ترخيص السيارات الخاصة بالضفة الغربية.  هذه الحواجز تمنعهم من الوصول إلى مخرج يقع على بعد بضع مئات من الأمتار والذي يؤدي مباشرة إلى رام الله، وهي مدينة مركزية لفلسطينيي الضفة الغربية.[298] بالتالي، بينما كان السائقون الفلسطينيون من الضفة الغربية يستطيعون استخدام قسم كبير من الشارع  رقم 443 بشكل رسمي، جعلت الحواجز، عبر منع الوصول إلى رام الله، هذه الشارع  لا يؤدي إلى أي مكان بالنسبة إلى معظم الفلسطينيين. بدلا من ذلك، أصبح الفلسطينيون من القرى الكائنة قرب شارع  443 يعتمدون على طرق نسيج الحياة التي تستغرق وقتا أطول بكثير للوصول إلى رام الله أو أي وجهة أخرى باستثناء عدد من القرى الأخرى المحاذية للشارع .

تمارس إسرائيل أيضا سيطرة أساسية على موارد المياه في الضفة الغربية، وتوزعها على الفلسطينيين بطريقة تمييزية. يمرّ اثنان من موارد المياه الرئيسية في إسرائيل عبر الضفة الغربية: نهر الأردن و"الحوض الجبلي للمياه الجوفية" المكوّن من ثلاثة أحواض. يشكل الحوض الساحلي المورد الثالث ويمتد على طول ساحل إسرائيل وغزة.[299] الأوامر العسكرية التي اعتُمِدت في الأشهر الـ18 الأولى من الاحتلال، عامي 1967 و1968، منحت الجيش سلطة كاملة على المسائل المتعلقة بالمياه في الضفة الغربية،[300] وأعلنت ملكية الدولة للموارد المائية،[301] ومنعت الفلسطينيين من تشييد أو استخدام أي منشآت مائية بدون تصريح.[302] في 1982، نقلت السلطات الإسرائيلية ملكية الموارد المائية والإمدادات المائية من الإدارة المدنية إلى شركة المياه الوطنية الإسرائيلية "مكوروت"، مع الاستمرار في منح الإدارة المدنية سلطة تنظيمية.[303]

استخدمت إسرائيل سيطرتها على أجزاء من الحوض الجبلي في الضفة الغربية لصالح مواطنيها والمستوطنين، في خرق للقانون الإنساني الدولي الذي يحظر على سلطة الاحتلال استغلال الموارد الطبيعية لمصالحها الاقتصادية الخاصة. رغم أنّ 80% من الحوض الجبلي يقع في الضفة الغربية،[304] إلا أن إسرائيل تسحب حوالي 90% من مجموع المياه المستخرجة منه  سنويا، تاركة فقط الـ10% المتبقية للاستخدام الفلسطيني المباشر.[305] عبر احتكارها لهذه الموارد المشتركة، تقيّد إسرائيل بشدة من قدرة الفلسطينيين على استغلال مواردهم الطبيعية مباشرة، وتجعلهم معتمدين على إسرائيل للتزوّد بالماء. على مدى عقود، حرمت السلطات أيضا الفلسطينيين من تصاريح حفر آبار جديدة، وخاصة في "الحوض الغربي" الأكثر غزارة، أو من تجديد الآبار القديمة. رغم أن "اتفاقيات أوسلو" لسنة 1995 تضمنت بنودا وعدت بتحسين حصول الفلسطينيين على المياه،[306] إلا أن مستويات الاستخراج الفلسطينية بقيت إلى حد كبير عند مستويات مرحلة ما قبل أوسلو بالرغم من التزايد السكاني.[307]

رغم إنشاء "لجنة المياه المشتركة" كجزء من اتفاقيات أوسلو، لاحظ البنك الدولي في 2009 أن إسرائيل حافظت على "سلطتها كاملة"، بما في ذلك حق النقض، على الموارد المائية للضفة الغربية.[308] بينما وافقت لجنة المياه المشتركة تقريبا على جميع المشاريع الاسرائيلية المقترحة لخدمة المستوطنين، رفضت العديد من المشاريع الفلسطينية، ومنها كل الطلبات المتعلقة بحفر آبار في الحوض الغربي.[309] غالبا ما يُسمح للإسرائيليين بحفر آبار أعمق في الحوض، وإنشاء شبكات مياه داخلية في المستوطنات بشكل منتظم دون الحاجة إلى موافقة لجنة المياه المشتركة،[310] واستخراج الماء دون قيود عندما تتدفق نحو إسرائيل دون الحاجة إلى موافقة اللجنة أيضا، بينما يحصل الفلسطينيون فقط على حصص استخراج صارمة.[311] لم تجتمع لجنة المياه المشتركة بين 2010 و2016، وهي الفترة التي سمحت فيها السلطات الإسرائيلية للفلسطينيين بحفر بئرين جديدتين فقط، بينما هدمت 11.[312]

إضافة إلى ذلك، حرمت السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين بالكامل تقريبا من الوصول إلى مياه نهر الأردن، وهو المصدر الوحيد للمياه السطحية في الضفة الغربية، عبر تحويل مساره قبل وصوله إلى الضفة الغربية.[313]

السياسات الإسرائيلية في المنطقة "ج" تزيد تقييد حصول الفلسطينيين على الماء. فجدار الفصل ، مثلا، يفصل الفلسطينيين عن أكثر من 20 بئرا في "منطقة التماس"، بين الجدار والخط الأخضر، ما يحدّ من قدرة الفلسطينيين على استخدام هذه الموارد المائية، فضلا عن فصلهم عن حوالي 70% من الحوض الغربي.[314] حرمت السلطات أيضا الفلسطينيين من التصاريح لتمديد أنابيب الماء وهدمت بنى تحتية مائية بنيت بدون تصاريح.[315] بحسب أوتشا، في الفترة من 2009 إلى يوليو/تموز 2019، هدمت السلطات الإسرائيلية أو استولت على 547 منشأة توفر الماء أو خدمات الصرف الصحي ذات الصلة، بما يشمل الصهاريج وأنابيب المياه والمراحيض المتنقلة.[316]

هذه القيود جعلت الفلسطينيين يعتمدون على شراء الماء، المستخرج في جزء كبير منه من أراضيهم، من شركة مكوروت. وجد تقرير لتقصي الحقائق أصدرته الأمم المتحدة في 2013 أن مكوروت توفر "قرابة نصف المياه التي تستهلكها المجتمعات المحلية الفلسطينية" في الضفة الغربية.[317] وفي الكثير من الأحيان، يدفع الفلسطينيون أكثر من الإسرائيليين من أجل الحصول على الماء، ويعود ذلك أحيانا إلى ارتفاع أسعار المياه التي تُباع لهم، وهي أعلى بكثير من الأسعار التي تُباع فيها المياه للمستوطنين الذين تدعم المنظمة الصهيونية العالمية مشترياتهم من الماء.[318] إضافة إلى ذلك، ما زالت العديد من القرى والبلدات في المنطقة "ج" غير متصلة بشبكة المياه، رغم أن أنابيب مكوروت تمر  أحيانا بجوارها، وتعتمد تلك المجتمعات على المياه المنقولة في صهاريج، ما يزيد من سعر المياه ويجعل بعض العائلات تنفق ما يصل إلى 40% من مدخولها على الماء.[319]

سياسات إسرائيل التمييزية في مجال المياه في الضفة الغربية تمكن المستوطنين من التمتع بمياه وفيرة بينما تفتقر بعض المجتمعات المحلية الفلسطينية إلى ما يكفي من المياه لتلبية احتياجاتها الأساسية. في 2017، وثقت "منظمة العفو الدولية" كيف أدى حفر الآبار الإسرائيلية في غور الأردن ومنع الفلسطينيين المحليين من الوصول إلى مواردهم المائية التقليدية إلى تقليص إمدادات الماء المتاحة لهم. هذه القيود، من بين عوامل أخرى، جعلت بعض المزارعين يتوجّهون إلى المحاصيل التي"تحتاج إلى كمية مياه أقل، ولكنها أقل ربحية" أو يتخلون عن زراعة المحاصيل بينما يتوجه بعضهم إلى العمل في مزارع المستوطنات المجاورة حيث توجد كميات أكبر من المياه.[320] وجد البنك الدولي في 2009 أنّ الإسرائيليين بمجملهم يستهلكون أكثر من أربعة أضعاف ما يستهلكه فلسطينيو الضفة الغربية من المياه.[321] تشير التقديرات إلى أن المستوطنين في الضفة الغربية يستخدمون في المتوسط ما لا يقلّ عن أربعة أضعاف كمية الماء التي يستخدمها الفلسطينيون الذين يعيشون في نفس المنطقة.[322]

دراسة حالة: محافظة سلفيت

تفصّل دراسة الحالة التالية كيف تستخدم السلطات الإسرائيلية وسائل قمعية لغرض إرساء السيطرة على محافظة سلفيت الفلسطينية في الضفة الغربية وتنتهك حقوق سكانها لصالح المستوطنين الإسرائيليين اليهود المقيمين في الجوار.

سلفيت هي إحدى المحافظات الفلسطينية الـ 11 في الضفة الغربية. يبلغ عدد سكانها 81,162 نسمة وتضم مجموعة من التلال والوديان في شمال غرب الضفة الغربية.[323] أراضي سلفيت الخصبة، وموقعها أعلى حوض الضفة الغربية حيث يوجد أكبر مخزون للمياه، وارتفاعها الكبير عن سطح البحر، وقربها من تل أبيب، على بعد 30 دقيقة بالسيارة، جعلت من المحافظة هدفا استراتيجيا للنشاط الاستيطاني.[324] صادرت السلطات الإسرائيلية أجزاء كبيرة من الأرض، وبنت مجموعة مستوطنات متمركزة حول مدينة "أريئيل" الاستيطانية. تُشكّل المستوطنات ممرا طوله 22 كيلومتر يخترق وسط المحافظة، ويقسم فلسطينيي سلفيت إلى ثلاثة جيوب من القرى المنفصلة عن بعضها البعض، ويفصل مدينة سلفيت، المركز الإداري والتجاري للمحافظة، عن القرى الأخرى في الشمال.[325] يواجه سكان هذه القرى مصادرة مستمرة للأراضي، وقيودا على الوصول إلى الأراضي الزراعية، وقيودا على التنقل، وعنف المستوطنين، وتسرب مياه الصرف الصحي من المستوطنات المجاورة.

المستوطنات الإسرائيلية تشكل ممرا بطول 22 كيلومتر يخترق وسط محافظة سلفيت الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة. © 2018 "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية"

انبثقت مجموعة المستوطنات من خطة الحكومة الإسرائيلية لعام 1977 التي وضعها أريئيل شارون، وزير الزراعة آنذاك ورئيس "اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان"، لتعزيز السيطرة الإسرائيلية في غرب الضفة الغربية. وفقا للمحلل والمسؤول الإسرائيلي السابق شاؤول أرئيلي، هدفت الخطة تحديدا إلى "إنشاء حاجز يهودي" بين التجمعات السكانية الفلسطينية و"السيطرة على قمم التلال الرئيسية المطلة على السهل الساحلي [داخل إسرائيل]".[326]

تُبيّن خطة أعدتها دائرة الاستيطان في "المنظمة الصهيونية العالمية" في 1997 "جاذبية" هذه المنطقة، والتي تشير إليها باسم "السامرة الغربية"، كـ "منطقة سكنية للعاملين في مركز البلاد"،[327] مشيرة إلى "قربها الشديد من مراكز التوظيف، والخدمات والثقافة الموجودة في السهل الساحلي"، وتصف كيف تُشكّل المنطقة "صماما لتنفيس الضغوط الحضرية في السهل الساحلي".[328]

تصف الخطة أيضا القيمة الاستراتيجية لشبكة الطرق التي تُسميها "عابر السامرة". يتكوّن الطريق العابر بشكل رئيسي من الطريق السريع رقم 5، الذي يبدأ في شمال تل أبيب ويمتد شرقا عبر الخط الأخضر إلى أريئيل، حيث يلتقي بالطريق 505، الذي يستمر شرقا، متجاوزا الشريان المركزي الرئيسي بين الشمال والجنوب، الطريق 60، يكمل حتى الطريق 90، الذي يمتد من الشمال إلى الجنوب عبر غور الأردن. تُبرر الخطة الحاجة إلى ممرات جانبية كهذه في الضفة الغربية لـ "منع العرب من البناء العشوائي، الأمر الذي قد يتسبب بقطع السهل الساحلي عن غور الأردن وتقسيم مناطق الاستيطان الإسرائيلية في يهودا والسامرة".[329] وفقا لـ بتسيلم، بينما يتنقل المستوطنون الإسرائيليون يوميا من أريئيل إلى داخل إسرائيل دون المرور بأي حواجز رئيسية، منعت السلطات مرور المركبات الفلسطينية على جزء بطول أربع كيلومترات من الطريق السريع.[330]

تقع مجموعة المستوطنات أيضا فوق الحوض الغربي، وهو الجزء الأكثر إنتاجية من الحوض الجبلي الغربي.[331] رغم ذلك، منعت السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين في سلفيت فعليا من استخراج المياه من الحوض الجوفي، مسببة عجزا في المياه في المحافظة. في ظل قلة الخيارات الأخرى، يشتري سكان سلفيت الجزء الأكبر من مياههم من شركة "مكوروت".[332]

هناك 24 مستوطنة ومناطق استيطانية إسرائيلية متلاصقة إلى حد كبير، أي أكثر من عدد التجمعات الفلسطينية في المنطقة، تنتشر على تلال المحافظة.[333] تقع أريئيل، إحدى أكثر المستوطنات اكتظاظا بالسكان في الضفة الغربية (20,500 نسمة)،[334] على الطرف الشرقي من مجموعة المستوطنات. المستوطنة، التي تأسست عام 1978 والذي  يبلغ مسطحها  البلدي  (11,600 دونم) أكثر من ثلاثة أضعاف مساحتها المبنية (3,500 دونم)،[335] تصف نفسها على موقع بلديتها على أنها "مدينة مزدهرة" "تقع في قلب إسرائيل".[336] لا يمكن للفلسطينيين في الضفة الغربية دخول أريئيل، بما في ذلك "جامعة أريئيل" التي تضم حوالي 16 ألف طالب يقيم نحو 3 آلاف منهم هناك،[337] إلا بتصريح من الجيش يصعُب الحصول عليه. [338]

شيّدت السلطات الإسرائيلية ثلاثة أسوار حول أريئيل منذ إنشائها، مع توسيع المساحة المُسيّجة في كل مرة: الأولى في الثمانينيات، والثانية في 1993، والأخيرة جدار الفصل في 2004. صادرت إسرائيل بعض الأراضي الخاصة لبناء الحواجز، وفي حالات أخرى، سيّجت فعليا آلاف الدونمات التي سلبتها من مُلاكها الفلسطينيين الذين يخضعون الآن لمجموعة معقدة من القيود الإدارية للوصول إلى أراضيهم. في 2004، فصل جدار الفصل المحيط بأريئيل الفلسطينيين في سلفيت عن 9 آلاف دونم (900 هكتار) من أراضيهم - تعود ملكية 3,500 دونم (350 هكتار) إلى أكثر من 200 مزارع من سلفيت، وتعود ملكية البقية إلى سكان من القرى المجاورة حارس، وكفل حارس، وإسكاكا، ومردا، وقيرة.[339]

في 2014 و2015، قابلت هيومن رايتس ووتش 14 مزارعا من سلفيت وقرية مردا، شمال أريئيل مباشرة، يمتلكون أراض إما صادرتها السلطات الإسرائيلية أو قيدت وصولهم إليها لبناء مستوطنة أو سياج أو نتيجة لمشاريعها الإنشائية. المزارعون الذين احتفظوا بملكية أراضيهم لا يمكنهم الوصول إليها إلا بإذن مسبق من الجيش الإسرائيلي، والذي غالبا لا يتيح لهم ذلك إلا مرتين أو ثلاث في السنة ولعدد محدود من الأيام. في كل حالة، وصف المزارعون كيف أدّت القيود الإسرائيلية، بما فيها على عدد المرات التي يمكنهم فيها زراعة الأرض والمُعدات التي يمكنهم استخدامها، إلى خفض إنتاجية محاصيلهم بشكل كبير، بل وحددت المحاصيل التي يمكنهم زراعتها. توقف مزارعان نهائيا عن زراعة كامل أراضيهما أو جزء منها، رغم مخاوفهما من أن تُصنفها إسرائيل كأراض تابعة للدولة على أساس أن الفلسطينيين لم يزرعوها باستمرار.

مستوطنة أرييل الإسرائيلية الواقعة بين قرية مردا الفلسطينية (أسفل الصورة) وسلفيت (أعلى الصورة) في الضفة الغربية المحتلة. صورة الأقمار الصناعية © 2021 "ماكسار تكنولجيز". المصدر: "غوغل إيرث"

[340]

قال مزارع من قرية مردا لـ هيومن رايتس ووتش في 2015 إن والده كان يملك أكثر من ألف دونم، لكنه خسرها كلها تقريبا على مر السنوات لصالح أريئيل. قال: "أخذوها شيئا فشيئا. في البداية [في 1978 و1979]، أخذوا 100 دونم ووضعوا فيها منازل متنقلة. في الثمانينات، أحاطوا المزيد من الأراضي بسياج من الأسلاك الشائكة؛ لم يُصادروا الأرض لكنهم أعلنوها منطقة عسكرية مغلقة. ثم بدأوا بالبناء عليها. في كل مرة يُحركون السياج [ليضم المزيد من الأراضي]، يقولون إنه لأسباب أمنية". قال المزارع إنه كان يتقدم بشكوى كل مرة إلى محكمة عسكرية إسرائيلية، مُبرزا جميع الأدلة المطلوبة على الملكية، لكنه خسر كل القضايا. قال آنذاك، إنه لم يكن يتبقى سوى 60 دونم، 30 منها خلف جدار الفصل الذي بُني في 2004، ولم يسمح له الجيش الإسرائيلي بدخول ما تبقى من أرضه إلا مرتين في السنة. [341]

شهدت قرية مسحة الفلسطينية الكائنة شمال غرب مجموعة المستوطنات حول أريئيل، مصادرة منتظمة للأراضي منذ السبعينيات. في 1978، استولى الجيش الإسرائيلي على أراضٍ في مسحة "لأغراض عسكرية".[342] في السنوات اللاحقة، أعلنوا أراضٍ حول مسحة "أراضي دولة" وخصصوها لإنشاء مستوطنة إلكانا إلى حدٍ كبير على أراض زراعية مملوكة لسكان مسحة. [343] في 2002، صادرت السلطات المزيد من الأراضي لبناء جدار الفصل، وفصلت السكان عن بعض أراضيهم. في 2018، قابلت هيومن رايتس ووتش عائلة عامر، وهم من سكان مسحة ويملكون نحو 400-500 دونم تقريبا من الأراضي على بعد كيلومترين من منزلهم، لكنها تقعن الآن خارج الجدار وداخل إلكانا. قال أحد أفراد الأسرة إن السلطات صادرت بعض أراضيهم وأنهم يحتاجون الآن إلى تصاريح للوصول إلى ما تبقى منها. تسمح لهم التصاريح فقط بالمرور عبر بوابة معينة تُفتح مرتين فقط في اليوم لمدة 15-30 دقيقة كل مرة. يتطلب الوصول إلى أراضيهم عبر البوابة ساعتين والمرور بتحويلة طولها 20 كيلومتر.[344]

المستوطنات تعيث فسادا بالحياة اليومية للسكان بطرق أخرى. قال اثنان من مُلاك الأراضي من بروقين، قرية في جيب معزول جنوب مجموعة المستوطنات، لـ هيومن رايتس ووتش إن الجنود منعوا السكان طوال الـ 20 سنة الماضية من الوصول إلى 100 دونم من الأراضي التي يملكونها بجوار مستوطنة بروخين، جنوب غرب أريئيل.[345] وضع المستوطنون أيضا بيوتا متنقلة على الأرض. قال المزارع جمال سلامة (60 عاما)، أحد مُلاك الأراضي، إنه يسعى دون جدوى بشكل منتظم منذ 2017 إلى الحصول على مساعدة "الإدارة المدنية" للوصول إلى قطعة الأرض هذه، حيث يمتلك بئرا واعتاد أن يزرع القمح والشعير.[346]

يمتلك سلامة قطعة أرض صغيرة أخرى على الجانب الآخر من بروخين والتي قال إن مستوطنين هاجموها في مناسبات متعددة، بما فيها في 2011 عندما أحرقوا مئات أشجار الزيتون التي زرعها في 1986، وعلى الأقل أربع مرات في مارس/آذار وأبريل/نيسان 2020 وسط القيود الكبيرة على الحركة المتصلة بتفشي فيروس كورونا. قال: "سلّم الجيش مقاليد الأمور للمستوطنين. لم أر الجيش في هذه المنطقة طوال العامين الماضيين"، مشيرا إلى أن مُلاك الأراضي الآخرين من بروقين توقفوا حتى عن محاولة الوصول إلى أراضيهم في هذه المنطقة بسبب هجمات المستوطنين المتكررة. روى أيضا حادثة من 2016 عندما قطعت مكوروت على حد قوله عشرات أشجار الزيتون التي يمتلكها دون سابق إنذار، من أجل بناء أنابيب المياه لخدمة المستوطنات. [347]

في قرية كفر الديك المجاورة، يمتلك فارس الديك وعائلته قطعة أرض مساحتها 4.5 دونم تشمل موقع دير سمعان الأثري، الذي أحاطت به لاحقا وبشكل تدريجي مستوطنتا ليشم وإيلي زهاف من ثلاث جهات. قال إن السلطات الإسرائيلية أغلقت في 2011 الطريق الزراعي المؤدي إلى أرضه دون سابق إنذار أو تفسير. قال لـ هيومن رايتس ووتش إن الجيش سمح له بإنشاء طريق آخر على نفقته الخاصة، لكن بعد عام من إنشائها بكلفة كبيرة، أغلقوا الطريق الجديد ببوابة.[348] أجبره ذلك على ركن سيارته على الطريق الرئيسي والمشي صعودا لمسافة 700 متر للوصول إلى أرضه. المستوطنون يقتحمون أرضه باستمرار دون إذن من أجل السباحة في البرك الطبيعية الموجودة هناك، وقال إنه خلال ذلك كان على عائلته "التنحي جانبا" لتجنب المواجهة. ذات مرة في 2019، قال إن المستوطنين اقتلعوا 13 شجرة تين وزيتون من أشجاره.

يمتلك الديك قطعة أرض ثانية في القرية والتي كان يلزمه قبل 2010 خمس دقائق ليصلها بالسيارة. إلا أن السلطات بدأت في 2010 أعمال بناء مستوطنة ليشم بحجة توسيع مستوطنة عاليه  زهاف المجاورة،[349] ما أدى إلى قطع الطريق إلى أرضه. قال إن الوصول إلى أرضه الآن يقتضي القيادة عبر قريتين قريبتين والمشي عبر واد تتدفق فيه مياه الصرف الصحي من المستوطنات المجاورة، في رحلة تستغرق أكثر من ساعة. قال إن والدته (70 عاما)، نتيجة لصعوبة الرحلة ومدتها، لم تزر الأرض منذ سبع سنوات وأنه يذهب مرة واحدة أو مرتين في السنة. أضاف أنه مع عدم القدرة على نقل المعدات، لم يتمكن من زراعة أي شيء جديد هناك. قال إن مياه الصرف الصحي تجعل ممتلكاته "محاصرة بالمياه الآسنة" من ثلاث جهات.[350]

قال مسؤولان من البلدية واثنان من السكان لـ هيومن رايتس ووتش إن في جميع أنحاء المحافظة، تتدفق مياه الصرف الصحي والنفايات الكيميائية الصناعية غير المُعالجة من المستوطنات والمناطق الصناعية إلى المناطق السكنية وحول مصادر المياه.[351] في تقرير صادر في 2009، وثّقت بتسيلم تدفّق مياه الصرف الصحي من أريئيل منذ منتصف التسعينيات جنوبا نحو مدينة سلفيت لتختلط مع مياه الصرف الصحي في سلفيت وتتدفق غربا إلى بروقين وكفر الديك.[352] وثّقت المجموعة كيف توقفت محطة معالجة مياه المجاري في أريئيل عن العمل تماما في 2008، بعد أكثر من عقد من التحذيرات من السلطات البيئية الإسرائيلية حول حالة المحطة والتي لم تجد آذان صاغية. [353]بقيت المحطة على هذا الوضع منذ ذلك الحين؛[354] أشار منشور حكومي إسرائيلي في 2016 إلى أن كفاءتها "منخفضة" مع "توجيه النفايات السائلة إلى الري ونهر شيلو".[355] سعت سلفيت على مدى أكثر من عقدين إلى بناء محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي، بل وتأمين التمويل للمشروع، لكن السلطات الإسرائيلية أحبطت جهودها باستمرار، وزعمت في إحدى المرات أن الموقع سيكون قريبا جدا من أريئيل،[356] في مرة أخرى ربطت الموافقة على إنشاء المعمل بالموافقة على معالجة مياه الصرف الصحي من أريئيل،[357] وهو شرط غالبا ما يرفضه الفلسطينيون لأنه كان ينطوي على اعتراف فعلي بالمستوطنات. في 2019، حصلت بلدية سلفيت على موافقة لبناء محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي فيها فقط وبدأت ببناء المحطة في نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام.[358]

ذكر تقرير نشره "صندوق الأمم المتحدة للطفولة" (يونيسف) و"مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين" في 2011 أن مستوطنة "منطقة بركان الصناعية"، بالقرب من أريئيل، "معروفة بإلقاء بقايا نفاياتها الكيميائية على قرى سلفيت".[359] يذكر التقرير أيضا أنه "يُعتقد أن هذه النفايات الكيميائية تشمل البتروكيماويات، والمعادن، والبلاستيك"، ويشير إلى أن "المعادن الثقيلة السامة ترتبط بقائمة لا تنتهي من الأمراض، من الإسهال إلى السكري، وفرط التقران، وفشل الأعضاء، والسرطان".[360] وفقا لـ بتسيلم، خلال موسم الأمطار، تتدفق مياه الصرف الصحي من أريئيل نحو الينابيع والوديان، متسببة بفيضان محطة الضخ المركزية في سلفيت.[361] قال مراد سمارة، وهو موظف في بلدية بروقين، لـ هيومن رايتس ووتش إنه في وادي المطوي، بين سلفيت وبروقين، تتدفق مياه الصرف الصحي من أريئيل وسلفيت عبر واد تعيش فيه 50 عائلة على الأقل.[362] يشعر الناس في المنطقة بالقلق من أن التعرض لمياه الصرف الصحي والنفايات الكيميائية كان يُسبب المرض للناس. قالت مي بركات، أم لأربعة أطفال تعيش في الوادي، لـ هيومن رايتس ووتش إن "الرائحة في الوادي تقتل" وأن ابنتها (3 أعوام) شُخِّصت بسرطان الدم منذ عامين. قالت إنها لم تعد تسمح لأطفالها باللعب في الخارج بعدما سقط أحدهم في المجاري قبل عدة سنوات. [363]

تمر مجموعة أخرى من المستوطنات عبر شمالي سلفيت وتمتد في عمق محافظة قلقيلية المجاورة. يحيط جدار الفصل بكامل مدينة قلقيلية، موطن أكثر من 55 ألف شخص،[364] مع طريق واحد فقط يصل داخل المدينة وخارجها، من أجل "خلق استمرارية بين إسرائيل" والمستوطنات هناك، وفقا لـ بتسيلم.[365] وجدوا أن الجدار يفصل قلقيلية عن نصف أراضيها الزراعية - حوالي 2,500 دونم. [366]

القدس الشرقية

بعد احتلال الضفة الغربية في 1967، ضمّت إسرائيل من جانب واحد 72 كيلومترا مربعا، تشمل الجزء الشرقي من القدس وأراض تابعة لـ 28 قرية محيطة بها في الضفة الغربية، إلى بلدية القدس. على حدّ علم هيومن رايتس ووتش، لا توجد أي دولة في العالم، باستثناء الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، تعترف بضمّ إسرائيل للقدس الشرقية، التي تبقى أرضا محتلة بموجب القانون الدولي.[367]

في سبتمبر/أيلول 2020، وبحسب "دائرة الإحصاء المركزية" في إسرائيل، كانت بلدية القدس تضمّ 371,800 فلسطيني و563,200 يهودي إسرائيلي.[368] يشمل السكان اليهود أكثر من 220 ألف مستوطن يعيشون في القدس الشرقية المحتلة.[369] تستخدم إسرائيل مجموعة من القوانين لليهود الإسرائيليين وأخرى للفلسطينيين في جميع نواحي الحياة في القدس.

 المكانة القانونية

تُصنّف السلطات الإسرائيلية فلسطينيي القدس الشرقية كـ "مقيمين دائمين"، وهي  نفس المكانة التي  يتمنح للأجنبي الذي ينتقل إلى إسرائيل.[370] هذا الوضع الهش مرتبط بوجودهم المادي في القدس، وقد سحبتها وزارة الداخلية من 14,701 فلسطيني على الأقل منذ 1967، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى أنّهم لم يثبتوا أنّ لهم "مركز حياة" في القدس.[371]

هناك طريقة لحصول الفلسطينيين المقيمين في القدس على الجنسية، غير أن الغالبية العظمى منهم لم يتبعوها، لأنها تتضمن الاعتراف بإسرائيل، سلطة الاحتلال، كصاحبة سيادة شرعية. علاوة على ذلك، فإن الغالبية العظمى ممن تقدموا بطلبات لم يحصلوا على المواطنة.[372] بصفتهم مقيمين دائمين، فإن الفلسطينيين المقدسيين غير المواطنين يمكنهم النصويت في الانتخابات البلدية، ليس في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية.[373]

في المقابل، يُعتبر اليهود الإسرائيليون من القدس، بمن فيهم المستوطنون في القدس الشرقية، مواطنين إسرائيليين، ولا يحتاجون إلى إثبات أنّ لهم صلات بالمدينة لضمان وضعهم القانوني. لم تُلغ السلطات الإسرائيلية المكانة  القانونية لأي يهودي إسرائيلي لأنه لم يثبت أنّ له "مركز حياة" في القدس. اليهود الإسرائيليون يصوتون أيضا في الانتخابات البلدية والبرلمانيّة.

بينما يخضع الفلسطينيون واليهود المقيمون في القدس لنفس القانون الجنائي، فإن التمييز متجذر في فرض السيطرة الأمنية على المدينة، حيث أن 77% من الأطفال الذين اعتُقلوا في كافة أرجاء القدس في 2018 كانوا فلسطينيين، رغم أن الفلسطينيين يشكلون فقط 40% من مجموع سكان المدينة.[374] لاحظت "بتسيلم" أن عنف الشرطة "هو جزء من سياسة إسرائيل... لضمان التفوق اليهودي في المدينة".[375] مثلا، وبحسب بتسيلم، اعتقلت السلطات الإسرائيلية أكثر من 850 فلسطيني من حي العيساوية في القدس الشرقية بين أبريل/نيسان 2019 وأبريل/نيسان 2020، أغلبهم أطفال، وضربت الكثير منهم.[376] وصفت بتسيلم العملية في العيساوية بـ "حملة تجبّر وعقاب جماعي مستمرة على حيّ العيساوية"،[377] ووثقت كيف تداهم قوات الشرطة الحي بانتظام "ويفتعلون 'احتكاكات' بالسكان... ويغلقون الشوارع الضيقة في الحي، ويلقون قنابل الصوت، ويطلقون الرصاص الاسفنجي، ويعتقلون ويضربون السكان".[378] جريدة "هآرتس" الإسرائيلية، التي نشرت تقارير عن مداهمات ودوريات وحواجز وكمائن شبه يومية في العيساوية، ووصفت هذه السياسة بـ "العقاب الجماعي"،[379] وجدت أن "جزءا صغيرا" من المعتقلين وُجهت لهم تهمة إلقاء الحجارة أو جرائم أخرى.[380]

إضافة إلى ذلك، يمرّ جدار الفصل عبر القدس الشرقية، ويفصل التجمعات السكانية الفلسطينية بثلاث طرق على الأقل. أولا، وضع الجدار عشرات الآلاف من المقدسيين الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطق مثل كفر عقب ومخيم شعفاط للاجئين على الجهة الواقعة في الضفة الغربية وراء الجدار، ما فصلهم عن بقية القدس الشرقية.[381] ثانيا، يحاصر الجدار فلسطينيي الضفة الغربية على الجهة الواقعة في القدس، كما هو الحال مثلا في النبي صموئيل. فلسطينيو الضفة الغربية الذين يعيشون في هذه المناطق ممنوعون فعليا من التواجد في أي مكان على جانب الجدار من جهة القدس غير منازلهم، وعليهم عبور حواجز حتى يصلوا إلى المدارس أو العمل أو متاجر البقالة أو المستشفى.[382] ثالثا، خلق الجدار العديد من الجيوب المحاصرة بالكامل في الضفة الغربية، مثل بير نبالا، المتصلة بالبلدات الفلسطينية الأخرى عبر طرق "نسيج الحياة" فقط.[383]

الأرض والمسكن

منذ 1967، صادرت السلطات الإسرائيلية من الفلسطينيين نحو ثلث الأراضي في الضفة الغربية، أي 23,378 دونم من الأراضي على الأقل، أغلبها من أجل المستوطنات.[384] كما هو الحال في بقية الضفة الغربية، جمّدت السلطات الإسرائيلية منذ 1967 عملية تسجيل الأراضي للفلسطينيين في القدس الشرقية، بينما استمرت في تسجيل أراضي المستوطنات هناك طيلة هذه الفترة.[385] هذا التجميد يجعل أراضي الفلسطينيين الذين لم يسجلوها قبل 1967 مهددة بالمصادرة، ويصعّب عليهم أيضا الحصول على تصاريح بناء. قدّرت منظمة "عير عميم" الحقوقية الإسرائيلية في تقرير نشرته سنة 2015 أنّ نصف أراضي القدس الشرقية غير مسجلة.[386]

بالإضافة إلى المصادرة الرسمية من قبل الدولة، تسمح القوانين والسياسات التمييزية للمستوطنين ومنظمات استيطانية بالاستيلاء على منازل الفلسطينيين، وطرد أصحاب الأرض الفلسطينيين ونقل ملكيتها إلى مالكين يهود في أحياء القدس الشرقية.[387] لطالما فعلوا ذلك استنادا إلى قانون من سنة 1970 يفرض على السلطات إعادة ممتلكات اليهود في القدس قبل 1948، والتي بقيت تحت تصرف السلطات الأردنية بين 1948 و1967، إلى أصحابها اليهود أو ورثتهم.[388] في المقابل، سمحت السلطات إلى حد كبير بالاستيلاء على أراضي ومنازل الفلسطينيين في القدس الغربية الذين طُرِدوا أو هربوا نتيجة لأحداث 1947-1949، والفلسطينيين الذي طُردوا أو هربوا نتيجة بداية الاحتلال الإسرائيلي في 1967، من خلال إعلانها "أملاك غائبين".[389]

مثلا، رفعت منظمة "عتيرت كوهانيم" الاستيطانية عشرات قضايا الإخلاء ضدّ حوالي مئة عائلة فلسطينية تعيش في منطقة بطن الهوى في سلوان، القدس الشرقية، مدعية أن منازلهم تعود لصندوق ممتلكات يهودي كان يؤمن المأوى ليهود يمنيين في أواخر القرن 19.[390] تسعى عتيرت كوهانيم إلى خلق حيّ يهودي في قلب سلوان، ما يعرض 700 فلسطيني لخطر الإخلاء.[391] قضت محكمة الصلح في القدس لصالح عتيرت كوهانيم في عدد من هذه القضايا في 2020، وأمرت بإخلاء العائلات التي كانت تعيش هناك منذ عقود.[392] في يونيو/حزيران 2020، قضت محكمة في القدس لصالح "الصندوق القومي اليهودي" في قضية إخلاء كان الصندوق قد رفعها ضدّ عائلة تتكون من 18 شخصا وتعيش في مبنى في سلوان منذ خمسينات القرن الماضي.[393] تم الطعن في هذه القرارات وحتى مارس/آذار 2021، لم تكن عمليات الإخلاء هذه قد نُفِّذت.[394]

جعلت السلطات حصول الفلسطينيين على تصاريح بناء في القدس الشرقية أمرا شبه مستحيل، لا سيما خارج الأحياء المبنية والتي تشكّل 15% من القدس الشرقية و8.5% من بلدية القدس.[395] بحسب حركة  السلام الآن، "بينما بادرت الحكومة إلى التخطيط والاستيلاء على أراضي للبناء والمناقصات لبناء أكثر من 55 ألف وحدة سكنية للإسرائيليين في القدس الشرقية منذ 1967، شهد الفلسطينيون بناء 600 وحدة سكنية فقط بمبادرة من الحكومة (في سبعينيات القرن الماضي)".[396] نتيجة لذلك، تعتمد أغلب أعمال البناء الفلسطينية في القدس الشرقية على مبادرات خاصة وليس حكومية. وافق المخططون البلديون بين 1991 و2018 على 9,536 تصريح بناء فقط للفلسطينيين مقابل 48,201 تصريح في الأحياء اليهودية في القدس، منها 21,834 في المستوطنات.[397]

بحسب "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (أوتشا)، هدمت السلطات الإسرائيلية 1,434 منشأة في القدس الشرقية بين 2009 و2020؛ هُدم أكثر من 98% منها لافتقارها إلى تصريح بناء.[398] قدّرت بتسيلم عدد المنازل التي هدمتها السلطات في القدس الشرقية في نفس الفترة بـ 786 منزلا، متسببة في تهجير 2,561 فلسطينيا.[399] في المقابل، لم تهدم السلطات تقريبا أي منزل للإسرائيليين اليهود في القدس، حتى في حالات مخالفات البناء.[400]

الموارد والخدمات

تُميّز السلطات الإسرائيلية بشدّة في توفير الموارد والخدمات بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين في القدس. بينما تعاني معظم الأحياء الفلسطينية من بنية تحتية ضعيفة وخدمات ومنشآت صحية وترفيهية وتعليمية لا تلبي الاحتياجات، تتمتع معظم الأحياء ذات الأغلبية اليهودية بطرقات معبّدة جيدا، والعديد من الحدائق والملاعب، وخدمات جيدة لجمع القمامة، وأماكن كافية للأطفال في المدارس.[401] في يناير/كانون الثاني 2016، أمرت المحكمة المركزية في القدس البلدية ببناء المزيد من الملاعب في حيَيْ شعفاط وبيت حنينا الفلسطينيين، بعد أن اشتكى سكان هذين الحيَيْن من أنّ لديهم ملعبين فقط لما مجموعه 60 ألف ساكن، بينما يوجد في الأحياء اليهودية ملعب لكل ألف ساكن.[402]

بحسب المنظمة الحقوقية الإسرائيلية عير عميم، خصصت بلدية القدس في العام 2013 فقط 10.1% من ميزانيتها للمشاريع والإنفاق في الأحياء الفلسطينية، مع أن حوالي 37% من سكان المدينة في ذلك الوقت كانوا فلسطينيين ويدفعون الضرائب.[403] في 2020، قدّرت عير عميم النقص في الغرف الدراسية الذي يواجهه فلسطينيو القدس الشرقية بـ 3,794 غرفة. بينما يوجد نقص بسيط في الغرف الدراسية في التجمعات السكانية اليهودية أيضا، لا سيما في التجمعات الأرثوذوكسية، إلا أن المنظمة توقعت أنّ "نقص الغرف في القدس سيكون محصورا فقط بالمناطق العربية" في أواخر 2022.[404] إضافة إلى ذلك، وبحسب جمعية حقوق المواطن في إسرائيل، 44% فقط من فلسطينيي القدس الشرقية متصلون بشبكة المياه "بطريقة منظمة وقانونية"، ما يجعل الكثير من السكان يواجهون نقصا في إمدادات المياه.[405]

التمييز في تخصيص الموارد يساهم في خلق واقعين متناقضين بشكل صارخ للفلسطينيين واليهود الإسرائيليين في القدس. 72 %من العائلات الفلسطينية تعيش تحت خط الفقر، مقارنة بـ 26% من العائلات اليهودية.[406] رغم ذلك، تسيّر الحكومة ستة مكاتب رفاه، التي توفر معلومات للسكان الساعين إلى الحصول على مساعدات حكومية وخدمات أخرى، في الأحياء الفلسطينية، مقابل 19 مكتبا في الأحياء ذات الأغلبية اليهودية.[407] 32% من الطلبة الفلسطينيين في القدس الشرقية لا يكملون 16 سنة من التعليم، مقابل 1.5% فقط من الطلاب اليهود في القدس.[408]

دراسة حالة: كفر عقب

توضح دراسة الحالة التالية كيف مارست السلطات الإسرائيلية الهيمنة والتمييز ضد الفلسطينيين المقيمين في كفر عقب، على مشارف القدس الشرقية، بالدرجة الأولى من خلال بناء جدار الفصل بينها وبين بقية المدينة في 2002، ثم تجاهل احتياجات السكان بشكل كبير. يختلف الوضع في كفر عقب عن السياسات والممارسات الأكثر شيوعا والتي تُميّز بشكل مؤسسي ضد فلسطينيي القدس، ولكنها تُمثل طريقة مختلفة يؤدي من خلالها نظام تمييزي بشكل قمعي إلى انتهاكات لحقوق الفلسطينيين المقيمين في المدينة.

كفر عقب، وهي بلدة فلسطينية تقع إلى حد كبير ضمن حدود بلدية القدس التي رسّمتها إسرائيل في أقصى شمالها، معزولة بفعل جدار الفصل عن بقية القدس. خلال عقدين تقريبا منذ إقامة الجدار، تقاعست السلطات الإسرائيلية فعليا عن الإدارة في كفر عقب، فلم تفرض الأمن أو تنظم البناء، وإلى حد كبير لم تقدم الخدمات للسكان. أدى الإهمال والانفلات الأمني الناتج عنه إلى تحويل كفر عقب إلى حي فقير مكتظ وما اعتبره معهد سياسي إسرائيلي نوعا من "المنطقة المحايدة".[409]

منطقة كفر عقب الفلسطينية، التي تقع إلى حد كبير ضمن نطاق بلدية القدس التي تحكمها إسرائيل، معزولة فعليا عن بقية المدينة لأنها تقع على جانب الضفة الغربية من جدار الفاصل. © 2018 وكالة الصحافة الفرنسية/غيتي

بعد حرب 1967، ضمّت إسرائيل معظم كفر عقب، بما يشمل ما كان حينها مطار القدس وحيَّي سميراميس وصغيّر  وهي أحياء كانت تاريخيا جزءا من كفر عقب، وجعلتها بالإضافة إلى غيرها من قرى الضفة الغربية والقدس الشرقية جزءا من بلدية القدس، على يبدو من أجل السيطرة على المطار.[410] إلا أن الضم أدى إلى تقسيم البلدة إلى جزأين، مع بقاء حوالي 40% خارج المنطقة التي ضمتها إسرائيل وتقع اليوم ضمن المنطقة "ج" من الضفة الغربية، حيث تحتفظ إسرائيل بالسيطرة المدنية والأمنية الكاملة.[411] يخدم المجلس المحلي لكفر عقب بشكل رسمي الجزء من البلدة الواقع في الضفة الغربية، ولكنه عمليا يتعامل أيضا مع سكان الجزء المقدسي من البلدة. لا تملك السلطات الإسرائيلية ولا الفلسطينية أرقاما سكانية دقيقة لكفر عقب - يُقدّر الكثيرون أنها تتراوح بين 70 ألفا و100 ألف،[412] بينما يقدر المجلس المحلي في كفر عقب الرقم الفعلي بحوالي 120 ألف. [413]

وفقا لـ بتسيلم، صادرت السلطات الإسرائيلية في الثمانينات 1,415 دونم من كفر عقب كأراضي دولة وخصصتها لإقامة مستوطنة كوخاف يعكوف. [414] يُقدّر مسؤول في المجلس المحلي أن كفر عقب فقدت حوالي ثلث أراضيها لصالح كوخاف يعكوف.[415] في أغسطس/آب 2009، أقام المستوطنون 12 مبنًى على أراض أخرى في كفر عقب هي ملكية خاصة لسكانها. عندما قدم المجلس التماسا إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، أعلن الجيش الإسرائيلي المنطقة منطقةً عسكرية مغلقة، رغم السماح للمستوطنين بالبقاء، وصادر بعد ذلك بعدة سنوات نحو 224 دونم كأراضي دولة، وفقا للمنظمة الحقوقية الإسرائيلية "ييش دين''.[416] رفضت المحكمة العليا في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 مطالبة السكان بملكية الأرض، وبالتالي رفضت طعنهم في تصنيف الأرض كأراضي دولة.[417] في فبراير/شباط 2020، قدّمت "وزارة البناء والإسكان" الإسرائيلية خطة لبناء مستوطنة في المنطقة التي كان فيها مطار القدس. [418]

في 2002، شيّدت السلطات الإسرائيلية، متذرّعة بأسباب أمنية، جزءا من جدار الفصل في منطقة القدس بطول أكثر من 200 كيلومتر. أشارت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "عير عميم" إلى أن مسار الجدار "يُضيف إلى القدس السكان اليهود المقيمين في الكتل الاستيطانية خارج المنطقة التابعة  لمدينة، بالإضافة إلى مساحة كبيرة جدا من الأرض خارجها"، بينما "يُنقص السكان الفلسطينيين المقيمين في تلك المناطق من القدس".[419] وفقا لمسؤولين في المجلس المحلي لكفر عقب، يمر الجدار الذي يمتد بين كفر عقب والمنطقة حيث كان المطار، جزئيا في أراضي كفر عقب، ويفصل السكان عن القدس وأكثر من 500 دونم من أراضي البلدة الزراعية.[420] يمتد الجدار جنوبا إلى حاجز قلنديا، المعبر الرئيسي بين رام الله والقدس، والذي يجب على سكان كفر عقب والذين يحمل معظمهم بطاقات هوية القدس عبوره للوصول إلى باقي القدس. بوجود رام الله إلى الشمال، ومخيم قلنديا للاجئين ومستوطنة كوخاف يعقوب إلى الشرق، والحاجز إلى الجنوب، طوّق اكتمال جدار الفصل كفر عقب بالكامل.

كفر عقب، منطقة فلسطينية في أقصى شمال حدود بلدية القدس التي رسمتها إسرائيل، يحيط بها من الغرب جدار الفصل، ومن الجنوب حاجز قلنديا الذي يفصل بين مدينتي رام الله والقدس. ويحدها من الشرق مخيم قلنديا للاجئين ومستوطنة كوخاف يعكوف، التي بنيت جزئيا على أرض كفر عقب، ومن الشمال رام الله. © صورة القمر الصناعي من "بلانيت لابس"، 2021

[421]

علاوة على فصل الفلسطينيين ماديا عن بعضهم البعض، تزامن بناء الجدار مع تخلي الحكومة الإسرائيلية فعليا عن الإدارة وإنفاذ القانون في كفر عقب. لا تدير السلطات الإسرائيلية مركز شرطة في كفر عقب،[422] وحسبما أقر به تقرير مراقب الدولة لعام 2008، لا تقوم "بأي عمليات للشرطة لفرض النظام أو الحفاظ عليه" هناك.[423] قال رئيس اللجنة لأهالي كفر عقب منير صغيّر لـ هيومن رايتس ووتش إنه لا يعلم بأي دخول للشرطة الإسرائيلية إلى كفر عقب منذ 2001، وأنه حتى عندما يعبر السكان الحاجز ويذهبون شخصيا إلى مركز شرطة، غالبا لا تتدخل السلطات.[424] الجيش، المكلف منذ 2006 بمسؤولية الأمن في كفر عقب، يدخل أحيانا إلى البلدة لتنفيذ عمليات أمنية واعتقالات، على الرغم من أنه يُعرّف المنطقة على أنها تقع داخل الأراضي الخاضعة لسيادة إسرائيل وبالتالي لا تخضع للحكم العسكري. [425]

مع منع السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقيات أوسلو من العمل في كفر عقب، تخلق هذه السياسات ما أسمته أوتشا "فراغا أمنيا ظهر في زيادة الانفلات الأمني، والجريمة وتهريب المخدرات"،[426] وتُوفّر أرضية خصبة للهاربين من شرطة السلطة الفلسطينية.[427] قال ثلاثة من سكان كفر عقب لـ هيومن رايتس ووتش إنهم يسمعون بانتظام إطلاق نار، لدرجة أن عائلة أحدهم أصبحت "تخاف الذهاب إلى الشرفة".[428] قال آخر، "أنا خائف دائما - قد يحدث أي شيء وإلى من يجب أن ألجأ عندما يحذث ذلك؟"[429] في غياب الشرطة، قال صغيّر، رئيس لجنة الأهالي، إن بعض العائلات الكبيرة المقيمة هناك أخذت على عاتقها مسؤولية الفصل في النزاعات. [430]

كما توقفت السلطات الإسرائيلية فعليا منذ بناء الجدار عن تنظيم البناء. وافقت السلطات البلدية على خطة لكفر عقب في 2005، لكن عير عميم وجدت حينها أنها رغم ذلك "لم تعد قائمة".[431] قال كل من صغيّر ومسؤول في المجلس المحلي، لـ هيومن رايتس ووتش إن السلطات لم تصدر رخصة بناء للمنطقة منذ 2001.[432] قال معين عودة، وهو محام رفع قضايا نيابة عن أهالي كفر عقب ومقيم سابق، إن السكان كانوا يضطرون للحصول على تصريح صعب المنال "لبناء أي شيء"، ولكن إثر اندلاع الانتفاضة الثانية وبناء الجدار، أبلغت السلطات بعض المقاولين والمقيمين بشكل غير رسمي بأنهم ليسوا بحاجة إلى تصريح، وتوقف السكان في النهاية عن تقديم الطلبات.[433] نقلت عير عميم عن مدير قسم تفتيش المباني في البلدية في تقرير في يونيو/حزيران 2015 إقرارا بأن البلدية لا تراقب البناء أو تفرض قواعد عليه هناك.[434] توصلت المنظمة أيضا إلى أن القسم لم يدخل كفر عقب منذ عقد. [435]

يتعارض نقص التنظيم في كفر عقب بشدة مع سياسة الحكومة في فرض قيود مشددة على البناء في الأحياء الفلسطينية الأخرى في القدس الشرقية وهدم آلاف المنازل منذ 1967.[436] وسط أزمة الإسكان وصعوبة البناء في الأحياء الفلسطينية داخل منطقة جدار الفصل، انتقل العديد من الفلسطينيين المقدسيين إلى كفر عقب، حيث تقل تكلفة العقارات بمقدار الثلث، وفقا لصغيّر. [437]

جذبت كفر عقب منذ بناء الجدار المقدسيين المتزوجين من فلسطينيي الضفة الغربية، الذين بموجب "قانون الجنسية والدخول إلى إسرائيل" لعام 2003 (أمر الساعة) لا يمكنهم الحصول على إقامة دائمة بالزواج من أحد سكان القدس.[438] بما أن كفر عقب تقع داخل بلدية القدس، يمكن للمقدسيين المقيمين هناك الادعاء أنهم يعيشون في المدينة وبالتالي لا يخسرون إقامتهم على هذا الأساس كما حدث لأعداد كبيرة من الفلسطينيين منذ 1967 الذين انتقلوا إلى أجزاء أخرى من الضفة الغربية.[439] في الوقت نفسه، فإن موقعها وراء الجدار وغياب الشرطة يعني أن سكان الضفة الغربية يمكنهم الإقامة هناك دون عبور أي حاجز إسرائيلي.

بسبب النظام التمييزي الإسرائيلي، يمكن للأزواج الفلسطينيين "المختلطين" من القدس والضفة الغربية أن يعيشوا معا بشكل قانوني على أساس طويل الأجل وآمن،  في أحياء مثل كفر عقب فقط، باستثناء حالات قليلة. في المقابل، يمكن للأزواج اليهود "المختلطين"، بمن فيهم سكان القدس المتزوجون من مستوطني الضفة الغربية، الإقامة بحرية في أي مكان في إسرائيل، والقدس الشرقية، ومستوطنات الضفة الغربية.

قالت امرأة فلسطينية إنها عاشت أربع سنوات في حي بالقدس داخل جدار الفصل بعيدا عن زوجها، وهو من الخليل ولم يتمكن من الحصول على تصاريح لدخول القدس. خلال ذلك الوقت، كان عليها أن تربي أطفالهما الثلاثة لوحدها، بهدف الحفاظ على "مركز الحياة" في المدينة وبالتالي الحفاظ على إقامتها.[440] عندما علمت أنها تستطيع في الوقت نفسه القيام بذلك والإقامة مع زوجها في كفر عقب، قالت إنهما انتقلا هناك في 2006 وبقيت العائلة هناك منذئذ. مع ذلك، استمرت ابنتها بارتياد مدرسة خلف الجدار، حيث كانت تعبر حاجز قلنديا يوميا. قالت إن عائلتها لا ترغب في البقاء في كفر عقب، ذاكرة صعوبة الحياة هناك، لكن ليس لديها خيارات أخرى.

أدى ارتفاع الطلب وانعدام التنظيم في كفر عقب إلى "الزيادة السريعة وغير الرسمية في البناء السكني، وخاصة المباني الشاهقة".[441] بعلو 10-12 طابقا، ترتفع العديد من المباني المبنية بدون تدقيق صحيح للمخططات، ولا الخضوع للإشراف، وغالبا لا يفصل بينها سوى أمتار، ودون بنى تحتية كافية "للمياه، والمجاري، والصرف الصحي، والكهرباء، والطرق" ولا يبدو أنها تُلبّي معايير السلامة الأساسية.[442] يُضيف المحامي عودة أن هذا النوع من البناء يخلق واقعا من المعتاد ألا يعرف فيه أحد الحدود الفاصلة بين قطع الأراضي، وحيث تجاوز الحدود بين الأراضي أمر شائع.[443] وفقا لموظف في المجلس البلدي يعمل في التفتيش، فإن المباني متعددة الطوابق، و90% منها بُني بدون تصريح، شيدت على أرض تصل إلى الجدار[444] وتشغل كل المساحة المتاحة تقريبا للمناطق العامة، وتسهم في الكثافة السكانية.[445] لاحظ مسؤول في المجلس المحلي أن المكان الوحيد المتبقي للبناء هو "في اتجاه السماء".[446]

على الرغم من أن المقدسيين المقيمين في كفر عقب يدفعون نفس الضرائب البلدية التي يدفعها المقيمون في أحياء القدس الأخرى، فقد "تدهورت البنية التحتية العامة، والموارد والخدمات بشكل كبير أو انعدمت بالكامل".[447] في فبراير/شباط 2015، اعترف نائب المستشار القانوني للبلدية لـ عير عميم بأن "البلدية تواجه صعوبات" في خدمة كفر عقب.[448] تخلو كفر عقب من المباني الحكومية بخلاف مكتب وزارة الداخلية داخل حاجز قلنديا، ولا توجد خدمات للطوارئ الصحية، أو الإطفاء، الحريق، أو المعاملات المصرفية، أو الرفاه الاجتماعي.[449] نتيجة لذلك، يضطر السكان عموما إلى عبور حاجز قلنديا، حيث ينتظرون ساعة أو أكثر للحصول على معظم الخدمات البلدية. طبقا لصغيّر، رئيس لجنة الأهالي، يعبر حوالي 3,800 طفل الحاجز في أيام الدراسة للذهاب إلى المدرسة على الجانب الآخر من الجدار، نظرا إلى المدارس القليلة نسبيا المبنية داخل كفر عقب.[450] بشكل عام، لا تخدم خدمة الطوارئ الوطنية الإسرائيلية، "نجمة داوود الحمراء"، المناطق وراء الجدار مثل كفر عقب،[451] لذلك، حتى يتمكن السكان من الوصول إلى مستشفى في القدس بواسطة سيارة إسعاف، يجب أن يأخذوا سيارة إسعاف فلسطينية إلى الحاجز وينتقلون هناك إلى سيارة إسعاف تابعة لنجمة داوود الحمراء يمكنها نقلهم إلى مستشفى في القدس. [452]

في 2006، أنشأت الحكومة الإسرائيلية "إدارة غلاف القدس" (الإدارة) للإشراف على البلدات والأحياء التابعة لبلدية القدس لكن الواقعة وراء جدار الفصل، وخاصة كفر عقب ومخيم شعفاط للاجئين، بالإضافة إلى بعض التجمعات الصغيرة.[453] قدرت أوتشا في 2016 أن حوالي 160 ألف فلسطيني يعيشون في هذه المناطق.[454] وفقا لعير عميم، تحصل هذه المناطق على جزء صغير فقط من الميزانية المخصصة لأحياء القدس الأخرى.[455] قالت المجموعة إن الإدارة "عملت فعليا على إبعاد السكان عن البلدية"، والتي غالبا ما تُحيل السكان إلى الإدارة. وبدورها، غالبا ما تبلغهم الإدارة بأنها لا تملك تمويلا لتنفيذ المشاريع الضرورية.[456] أقرّ رئيس الإدارة السابق لعير عميم بـ "إهمال" الحكومة لهذه المناطق، وتحدث عن "الانفلات الأمني" هناك، مشيرا إلى أنه "لا وجود للحكومة في [كفر عقب] فيما يتعلق بالنظام العام".[457] أشارت عير عميم إلى استثناء واحد لإهمال المنطقة: محققون خاصون وظّفتهم الحكومة للتحقق من أن السكان يعيشون هناك فعلا، وذلك في إطار التحقيق في حالة إقامتهم. [458]

حتى عندما تقدم البلدية الخدمات، فإنها إلى حد كبير لا تلبي احتياجات السكان. تعاقدت البلدية، مثلا، مع شركة خاصة لجمع النفايات، ولكن تستند في تعاقدها إلى تقدير أقل من عدد السكان الفعلي الذين من المفترض أن تخدمهم الشركة. [459] زعمت دعوى قضائية رفعها سكان كفر عقب ضد البلدية أن القدس، في 2012، أنفقت حوالي 328 مليون شيكل على جمع النفايات، لكن أنفقت حوالي مليونَي شيكل فقط - أو أقل من 1% - في كفر عقب، رغم أن الجزء من كفر عقب الواقع ضمن حدود المدينة يأوي نسبة من سكان المدينة أكبر بست مرات على الأرجح.[460] زادت البلدية الميزانية بعد الدعوى،[461] لكن عودة، المحامي الذي رفعها، قال إن جدول جمع النفايات ما يزال لا يلبي احتياجات السكان، الذين يلجؤون في الغالب إلى حرق نفاياتهم. [462]

قدرت عير عميم في 2015 أن عشرة من أصل 25 كيلومتر من الطرق في كفر عقب غير مُعبّدة، وثمانية في حالة "متداعية"، وأربعة فقط معبدة "وفي حالة معقولة". أشارت المنظمة إلى أن حتى الأجزاء المُعبّدة "تفتقر إلى الأرصفة واللافتات ومعابر المشاة"، وأن "إشارة المرور الوحيدة في كفر عقب معطلة بشكل دائم".[463] تُشير وثائق البلدية التي استشهد بها عودة في التماس قدمه إلى أنه في 2015، ذهب أقل من 0.02% من ميزانية البلدية للطرق إلى كفر عقب وبلدات وأحياءأخرى خارج الجدار. [464] جُدّدت بعض الطرق منذ 2015، لكن الحالة العامة للطرق لا تزال سيئة. [465]

تُفاقم الحالة السيئة للطرق من الازدحام المروري الكثيف أصلا في كفر عقب؛ فالحركة المرورية يقطعها الطريق الرئيسي الذي يربط رام الله بجنوب الضفة الغربية بما يشمل مدينتَي بيت لحم والخليل، وبالقدس، وذلك عبر حاجز قلنديا. يعبر الطريق حوالي 26 ألف شخص يوميا وفقا لبيان صادر عن السلطات الإسرائيلية أوردته "رويترز" في أبريل/نيسان 2017.[466] بسبب الازدحام الذي عادة ما يكون كثيفا، قد يستغرق عبور المنطقة حول الحاجز ما يصل إلى ساعتين أو ثلاثة خلال التنقلات الصباحية والمسائية. [467]

كما تتسبب البنية التحتية السيئة، ولا سيما نظام خطوط المياه المتهالك، في فقدان السكان لحوالي ربع المياه المخصصة لهم.[468] في حين تُوفر شركة المياه الوطنية الإسرائيلية مكوروت المياه لمعظم الأحياء في القدس، بما فيها المستوطنات، تخدم "مصلحة مياه محافظة القدس" الفلسطينية، والتي تعمل في رام الله والمناطق المجاورة، كفر عقب كما كانت تفعل قبل 1967، وتكافح من أجل تلبية متطلبات السكان. [469].

زار رئيس بلدية القدس موشيه ليون كفر عقب في فبراير/شباط 2021، وبحسب التقارير كانت هذه الزيارة الأولى، وقال إن البلدية "ستزيد نشاطها وتتخذ خطوات لبناء الثقة".[470]

اقترح أعضاء في الكنيست في 2017 تشريعا يفصل الأحياء والبلدات وراء الجدار عن بلدية القدس ويؤسس سلطة محلية منفصلة لإدارتها. [471]لم يُمرَّر التشريع، لكن السكان أعربوا عن قلقهم من أن القانون يُجسد خطط الحكومة طويلة المدى لهذه المناطق. لطالما اتبعت السلطات سياسة حصار، وفصل، وضغط على المقدسيين الفلسطينيين لدفعهم إلى العيش وراء الجدار. يُهدد مشروع القانون بدفع الأمور بهذا الاتجاه وفتح الباب لإزالة سكان كفر عقب، ومناطق أخرى واقعة بالكامل وراء الجدار، من الحسابات الديمغرافية للقدس بهدف الحفاظ على الأغلبية اليهودية هناك.

قطاع غزة

كانت للسلطات الإسرائيلية السيطرة الرئيسية على قطاع غزة منذ أن احتلته عام 1967. اعترفت إسرائيل بغزة كـ "وحدة إقليمية واحدة" مع الضفة الغربية في اتفاقيات أوسلو للعام 1995.[472] سحبت إسرائيل قواتها البرية ومستوطنيها في 2005، فتقلصت سيطرتها على الحياة اليومية، وسمح ذلك للسلطات الفلسطينية بممارسة قدر أكبر من الحكم الذاتي داخل القطاع مقارنة بما قبل. في 2007، انتزعت حماس الحكم في غزة من السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح.

ومع ذلك، بقيت السلطات الإسرائيلية من نواحٍ أساسية هي السلطة الأقوى وسيطرت على الشريط الساحلي بسبل أخرى.[473] تسيطر إسرائيل على المياه الإقليمية والمجال الجوي لقطاع غزة وأوقفت بناء مطار وميناء بحري، ما عرقل بشكل كبير السفر إلى الخارج.[474] تسيطر إسرائيل على حركة الأشخاص والبضائع من قطاع غزة وإليه، باستثناء الحدود مع مصر، التي تفرض عليها أيضا الحكومة المصرية قيودا مشددة. تسيطر إسرائيل على الحركة بأكملها بين غزة والضفة الغربية، وتفرض "سياسة الفصل" بين جزئَيْ الأراضي الفلسطينية المحتلة.[475] تسيطر إسرائيل أيضا على سجل السكان الفلسطينيين الذي يحدد أهلية الإقامة القانونية والحصول على بطاقة الهوية.[476] وتحدد رسوم الجمارك وضرائب القيمة المضافة التي تجمعها نيابة عن السلطة الفلسطينية على السلع التي تدخل السوق المشتركة.[477] وهي تفرض ما يسمى بـ"المنطقة العازلة" داخل غزة بالقرب من الأراضي الإسرائيلية.[478] كما أنها تتحكم في البنية التحتية التي تعتمد عليها غزة، بما فيها خطوط الكهرباء، والكوابل تحت الماء التي تجري المكالمات الهاتفية عبرها، والشبكة التي توفر الإنترنت، والترددات المخصصة لشركات الهاتف الخلوي الفلسطينية.[479]

تفرض السلطات الإسرائيلية حصارا عاما على قطاع غزة والذي تفاقم بسبب القيود التي فرضتها مصر على حدودها مع غزة. © 2020 "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية"

في ضوء أوجه السيطرة هذه التي تمارسها إسرائيل على حياة الفلسطينيين ورفاههم في غزة، ما تزال إسرائيل ملزمة بتزويدهم بالحقوق والحماية التي يوفرها لهم قانون الاحتلال، بحسب ما توصلت إليه "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" والأمم المتحدة.[480] تقاعست السلطات الإسرائيلية باستمرار عن تلبية التزاماتها كسلطة احتلال.

غالبا ما تفرض الحكومة المصرية قيودا على طول حدودها مع غزة، ما يفاقم تأثير السياسات الإسرائيلية على سكان غزة. لكن التزامات مصر تختلف لأنها ليست سلطة احتلال، ويمكنها، مع بعض القيود الأساسية، أن تقرر من تسمح له بدخول أراضيها.[481]

في ضوء الإجماع الدولي على أن غزة والضفة الغربية تشكلان وحدة إقليمية، هي الأراضي الفلسطينية المحتلة واعتراف إسرائيل بذلك، تقيّم هيومن رايتس ووتش الديناميكيات في غزة على أنها جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، رغم "سياسة الفصل" الإسرائيلية. من هذه الزاوية، يتناقض القمع الشديد للفلسطينيين في غزة بوضوح مع معاملة المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس الشرقية. تحرم السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها غزة، من الحقوق والخدمات الأساسية التي توفرها للإسرائيليين الذين يعيشون في إقليم ضمن الحدود نفسها. تشمل هذه الحقوق حرية التنقل، والحق في العيش مع أحبائهم أو زيارتهم في مكان آخر من هذه الأراضي، والكهرباء على مدار الساعة، والمياه النظيفة.

المكانة القانونية

يحمل الفلسطينيون في غزة، كما أولئك في الضفة الغربية، بطاقات هوية وجوازات سفر صادرة عن إسرائيل تمنحهم الإقامة في غزة، ولكن لا تمنحهم المواطنة أو الجنسية. حوالي 70% من سكان غزة البالغ عددهم تقريبا 2.1 مليون نسمة هم لاجئون أُجبروا على الفرار من ديارهم في مناطق أصبحت لاحقا إسرائيل، أو أبناؤهم وأحفادهم، والذين حُرموا من حقهم في العودة إلى المناطق التي كانوا يعيشون فيها هم أو أسرهم.[482] شطبت السلطات الإسرائيلية من السجل آلاف الفلسطينيين الغزاويين، الذين لم يكونوا متواجدين في 1967 عندما بدأ الاحتلال، لأنهم إما فروا أثناء القتال أو كانوا في الخارج حينها، بالإضافة إلى أكثر من 100 ألف شخص بين 1967 و1994 عاشوا في الخارج لفترات طويلة.[483] الفلسطينيون غير المسجلين في السجل السكاني لا يمكنهم الحصول على بطاقات هوية وبالتالي الدخول إلى غزة أو الخروج منها عبر المعابر التي تسيطر عليها إسرائيل أو مصر.[484] على عكس ذلك، لا يواجه المستوطنون الإسرائيليون أبدا خطر فقدان جنسيتهم، حتى وإن عاشوا في الخارج لفترات طويلة.

حتى 2005، حكم الجيش الإسرائيلي غزة بشكل مباشر، بينما طبّق القانون المدني الإسرائيلي على 7,500  ألف  مستوطن يهودي تقريبا كانوا يعيشون هناك.[485] بعد انسحاب هؤلاء المستوطنين في 2005 وسيطرة حماس عام 2007، أعلنت إسرائيل غزة "منطقةً معادية"[486] وشددت القيود على التنقل، وفرضت حظر سفر شامل  على باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة أو الخارج، بغض النظر عن أي تقييم فردي للمخاطر لشخص معين. ينطبق الحظر على جميع الفلسطينيين ما عدا أولئك الذين تعتبرهم إسرائيل "حالات إنسانية استثنائية".[487] هذا الإغلاق، بالإضافة إلى قيود مصر على حدودها مع القطاع، قائم منذ 2007، وقد شتّت العائلات وقيّد حصول السكان على الرعاية الطبية والفرص التعليمية والاقتصادية.[488] أما المستوطنون الإسرائيليون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيتمتعون بحرية كاملة في التنقل في أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية ومستوطنات الضفة الغربية، بالإضافة إلى التنقل إلى داخل إسرائيل وخارجها.

غيرت التحولات التي حدثت بين 2005 و2007 آليات الهيمنة الإسرائيلية على قطاع غزة، لكنها لم تغير حقيقة السيطرة الإسرائيلية على القطاع أو الاضطهاد الممنهج بحق سكانه. انسحاب المستوطنين والقوات البرية النظامية من غزة غيّر ممارسات إسرائيل من كونها مرتكزة على المداهمات والاعتقالات، كما هو الحال في الضفة الغربية، لتعتمد على الاستخدام الدوري للقوة العسكرية الساحقة، ما يكون له غالبا نتائج مدمرة على السكان.

في الفترة منذ 2007، شن الجيش الإسرائيلي عدة هجمات عسكرية واسعة النطاق في غزة، شملت تلك التي وقعت في 2009-2008، و2012، و2014، واشتبك عشرات المرات مع المجموعات الفلسطينية المسلحة في القطاع. خلال هذه المواجهات، استخدمت القوات الإسرائيلية بانتظام القوة المفرطة وغير المتناسبة، واستهدفت أحيانا المدنيين أو البنية التحتية المدنية،[489] وفي المجمل، قتلت أكثر من ألفَيْ مدني فلسطيني.[490]

كما ارتكبت المجموعات الفلسطينية المسلحة جرائم حرب، منها الهجمات الصاروخية العشوائية على المراكز السكانية الإسرائيلية،[491] لكن الهجمات الإسرائيلية تخطت مجرد ضرب المسؤولين عن هذه الهجمات. إلى جانب آلاف القتلى أو المصابين، دمرت الهجمات الإسرائيلية عشرات آلاف المباني والبنى التحتية الحيوية، منها البيوت، والمستشفيات، والمدارس، ومحطة الطاقة الوحيدة في غزة، وتسببت بأضرار كبيرة بحياة المدنيين استمرت لسنوات لاحقة.[492] العمليات القتالية عام 2014 وحدها دمرت بالكامل أو ألحقت أضرارا جسيمة بحوالي 18 ألف وحدة سكنية، فجعلت أكثر من 100 ألف شخص بدون منازل، بحسب بتسيلم.[493] حتى يوليو/تموز 2019، كان لا  يزال حوالي 8,200 شخص ممن هُجّروا نتيجة القتال عام 2014، وفقا لـ "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" التابع للأمم المتحدة (أوتشا).[494] في يناير/كانون الثاني 2019، في حملته الانتخابية، قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق بيني غانتس، وهو رئيس الوزراء بالتناوب ووزير الدفاع حاليا، إن هذه الهجمات "أعادت [أجزاء من غزة] إلى العصر الحجري".[495] أظهرت السلطات الإسرائيلية باستمرار تقاعسا منذ سنوات عن إجراء تحقيقات موثوقة في الهجمات غير القانونية ومحاسبة المسؤولين عنها.[496]

ردت القوات الإسرائيلية المتمركزة على الجانب الإسرائيلي من السياج الفاصل بين غزة وإسرائيل بالقوة القاتلة المفرطة على المظاهرات الأسبوعية، التي كانت تجري على الجانب الغزاوي من السياج  معظم عامي 2018 و2019 للمطالبة بحقوق الفلسطينيين.[497] قتلت القناصة، بحسب أوتشا، 214 متظاهرا فلسطينيا، كان العديد منهم على بعد أكثر من مئة متر، وأصابوا بالرصاص الحيّ أكثر من 8 آلاف آخرين، منهم 156 شخصا تطلبت حالتهم بتر أطرافهم.[498] وعلى حد تعبير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، أطلقت القوات الإسرائيلية النار على "المتظاهرين العزل، على الأطفال و[الاشخاص ذوي الاعاقة[ ، على المسعفين والصحفيين الذين يؤدون واجباتهم، وهم يعرفون من هم".[499] وخلص المفوضون إلى أنه بينما كانت المظاهرات "عنيفة في بعض الأحيان" في 187 من عمليات القتل الـ 189 التي وقعت في 2018، لم يكن المتظاهرين يشكلون تهديدا وشيكا على الحياة، واستخدام إسرائيل للقوة "لم يكن ضروريا ولا متناسبا".[500] نفذت القناصة أوامر من كبار المسؤولين، الذين سمحوا باستخدام الذخيرة الحية ضد الفلسطينيين الذين اقتربوا من السياج بين غزة وإسرائيل أو حاولوا عبوره أو تخريبه، بغض النظر عما إذا كانوا يشكلون تهديدا وشيكا للحياة. تنبع هذه الممارسات من نمط مستمر منذ عقود لم يتغير كثيرا منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، يتمثّل باستخدام القوة المفرطة لقمع الاحتجاجات والاضطرابات وله كلفة بالغة على المدنيين. رغم تكرار مثل هذه الحوادث على مر السنين، لم تطور السلطات الإسرائيلية أساليب لفرض الأمن تتناسب مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، التي تحظر استخدام القوة القاتلة إلا عند الضرورة لمنع تهديد وشيك للحياة أو إصابة خطيرة.[501] لطالما بررت السلطات الإسرائيلية هذه الأساليب متذرعةً بحماية المجتمعات الإسرائيلية على الجانب الآخر من سياج غزة من الأذى المحتمل،[502] بدون تبرير استخدام القوة بضرورة منع تهديد وشيك.

الأرض والمسكن

يحصر الإغلاق الإسرائيلي سكان غزة البالغ عددهم مليونَي نسمة في منطقة طولها 41 كيلومتر وعرضها بين ستة و12 كيلومتر، بمساحة إجمالية بالغة 365 كيلومتر مربعا. بالإضافة إلى  القيود التي غالبا ما تفرضها الحكومة المصرية على قطاع غزة.

 تبلغ الكثافة السكانية في غزة حوالي 5,453 نسمة لكل كيلومتر مربع، أي أكثر من 13 ضعف الكثافة السكانية في إسرائيل البالغة 400 نسمة لكل كيلومتر مربع.[503]

تبلغ الكثافة السكانية في غزة التي يعيش فيها أكثر من مليوني فلسطيني على مساحة صغيرة،  نحو 5,453 شخص في الكيلومتر المربع. © 2016 "عين ميديا"

إمعانا في حصار الفلسطينيين في غزة، أنشأت السلطات الإسرائيلية "منطقة عازلة" داخل القطاع تمتد على طول السياج الذي بنته ليفصل القطاع عن إسرائيل. أبلغ الجيش الإسرائيلي المنظمة الحقوقية الإسرائيلية "ﭽيشاه–مسلك" في أغسطس/آب 2015 أنه يمنع سكان غزة من الاقتراب مسافة 300 متر من السياج، باستثناء المزارعين الذين يسمح لهم بالاقتراب حتى 100 متر من السياج.[504] تطلق القوات الإسرائيلية النار بالعادة على أولئك الذين يدخلون "المنطقة العازلة" أو يقتربون منها؛ بين 2010 و2017، قبل موجة الاحتجاجات التي بدأت في مارس/آذار 2018، أفادت ﭽيشاه–مسلك عن 1,300 حادثة إطلاق رصاص حي على سكان غزة، قُتِل فيها 161 فلسطينيا وأصيب  أكثر من 3 آلاف.[505]

منذ 2014، رشت السلطات الإسرائيلية بانتظام مبيدات الأعشاب على طول السياج الشرقي لإزالة الغطاء النباتي، وذلك من أجل "استمرار تنفيذ أفضل العمليات الأمنية".[506] قالت السلطات أيضا إن الرش يتم "حصريا" على الأراضي الإسرائيلية،[507] لكن وثقت مجموعة الأبحاث "فورينسيك أركيتكتشر" في يناير/كانون الثاني 2020 كيف ألحقت مبيدات الأعشاب على الجانب الإسرائيلي من السياج، بفعل الرياح الغربية، أضرارا بأكثر من 350 متر داخل أراضي غزة.[508] كما يتسبب رش هذه الأنواع من المبيدات بأضرار جسيمة بالمحاصيل في منطقة تضم الأراضي الأكثر ملاءمة للزراعة في جميع أنحاء غزة، ما يلحق خسائر مالية بالمزارعين،[509] ويمكن أن يؤذي صحة سكان المنطقة.[510]

تحت ذريعة التخوف من تهريب الأسلحة، تقيّد السلطات الإسرائيلية أيضا المساحة البحرية التي يمكن للسكان الوصول إليها، بما فيها المياه الإقليمية لغزة. لسنوات، سمحت إسرائيل للفلسطينيين عموما بالوصول حتى ستة أميال بحرية قبالة الساحل، على الرغم من تقلب هذا الرقم بشكل متكرر؛ فلفترة قصيرة في 2019، مددت الحد إلى 15 ميلا بحريا، ولكن في أوقات أخرى منعت الوصول تماما.[511] لم تبرر إسرائيل هذه التقلبات في منطقة الصيد لأسباب أمنية، وإنما كإجراءات عقابية ردا على إطلاق الصواريخ أو البالونات الحارقة من قبل المجموعات الفلسطينية المسلحة، وهي أعمال لم يشترك فيها الصيادون بأي شكل.[512] بين 2010 و2017، وثق "مركز الميزان لحقوق الإنسان" الفلسطيني 976 حادثة إطلاق رصاص حي في البحر قتلت خمسة أشخاص، و250 حادثة استولت فيها السلطات الإسرائيلية على قوارب أو معدات أخرى، بزعم تجاوزها منطقة الصيد المسموح بها.[513] وجدت "بتسيلم" في 2017 أن عدد الصيادين المسجلين في غزة انخفض من حوالي 10 آلاف عام 2000 إلى حوالي 4 آلاف في 2017، نصفهم عاطلون عن العمل و95٪ منهم تحت خط الفقر. خلصت بتسيلم إلى أن السياسات الإسرائيلية، بما فيها "مضايقة الصيادين"، "تدمر قطاع الصيد في غزة".[514]

الموارد والخدمات

تقيد القيود والأعباء التمييزية التي تفرضها السلطات الإسرائيلية على دخول وخروج البضائع من غزة وإليها، وتحد حصول سكان غزة على الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه.

يقيّد الإغلاق الإسرائيلي منذ 13 عاما حركة البضائع بشكل كبير. في أعقاب استيلاء حماس على الحكم في 2007 وإعلان غزة "منطقة معادية" من قبل إسرائيل،[515] منعت السلطات الإسرائيلية بين سبتمبر/أيلول 2007 ومايو/أيار 2010 معظم السلع المدنية من دخول غزة، بما فيها الكزبرة، والورق، والشوكولاتة.[516] حسبت السلطات الإسرائيلية في يناير/كانون الثاني 2008 الحد الأدنى من السعرات الحرارية التي يحتاج إليها سكان غزة لتجنب سوء التغذية، مع أنها تصر أنها لا تطبق السياسات بناء على هذه الحسابات.[517] قال مسؤولون إسرائيليون في ذلك الوقت إنهم يريدون إبقاء اقتصاد غزة "على شفا الانهيار" مع تجنب أزمة إنسانية.[518]

منذ 2010، سمحت السلطات بدخول معظم السلع اليومية، لكنها تقيد بشدة وغالبا ما تمنع تماما ما ترى أن له "استخداما مزدوجا" أو ما يمكن استخدامه لأغراض عسكرية، مثل المواد التي قد تستخدم في بناء أو تدعيم الأنفاق المؤدية إلى إسرائيل.[519] قائمة "الاستخدام المزدوج" الحكومية تشمل فئات فضفاضة ومواد ضرورية لتلبية احتياجات سكان غزة، منها "معدات الاتصالات"، و"عناصر الفولاذ ومنتجات البناء"، و"معدات الحفر"، و"الأسمدة والكيماويات"، وخزانات الغاز، وزيت الخروع، و"المركبات باستثناء المركبات الشخصية (لا تشمل مركبات الدفع الرباعي)".[520] وبحسب منظمة الصحة العالمية، زعمت السلطات أيضا أن أنواعا معينة من المعدات الطبية، بما فيها معدات الأشعة السينية، هي عناصر "ذات استخدام مزدوج".[521] وقد وثقت ﭽيشاه-مسلك كيف أن هذه العناصر "نادرا ما يُسمح لها بالدخول إلى القطاع".[522] وقد قالت أوتشا إن هذه "القيود تعيق إيصال المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية وبرامج إعادة الإعمار وتقوض القدرة على الاستجابة لحالات الطوارئ".[523] ومع ذلك، استمرت السلطات الإسرائيلية في تطبيق هذه القيود عوضا عن البدائل مثل المراقبة الدولية لاستخدام المواد ذات الاستخدام المزدوج. لم تبدأ مصر رسميا بالسماح بدخول البضائع إلى غزة إلا في فبراير/شباط 2018، لكنها تفرض إجراءات غير واضحة، منها رفض بعض البضائع التي منعتها السلطات الإسرائيلية أيضا، وسمحت بإدخال البضائع بكميات أقل بكثير من تلك التي تدخل من خلال المعبر الذي تديره إسرائيل.[524]

كما تفرض السلطات الإسرائيلية، كجزء من سياسة الإغلاق، قيودا صارمة على تصدير البضائع من غزة إلى كل من الضفة الغربية، وإسرائيل، والخارج. بين يونيو/حزيران 2007 وأكتوبر/تشرين الأول 2014، سمحت السلطات الإسرائيلية في المتوسط لـ 14 شاحنة فقط بالخروج شهريا، بحسب ﭽيشاه-مسلك.[525] تحسن الوضع إلى حد ما منذئذ، مع خروج 219 شاحنة في المتوسط خلال السنوات الأربع من 2016 إلى 2019، ولكن هذا الرقم ما زال لا يتجاوز 20% من الشاحنات الـ 1,064 التي كانت تخرج قبل تشديد الإغلاق في يونيو/حزيران 2007.[526] لا تسمح مصر بشحن البضائع من غزة من خلال المعبر الذي تديره.[527]

اعترفت السلطات الإسرائيلية بأن قراراتها لا تتعلق فقط بالوضع الأمني. فعلى سبيل المثال، فرضت أحيانا قيودا على الصادرات أو منعتها تماما كإجراء عقابي، وهو ما فعلته طوال ما مجموعه 50 يوما في 2018 و2019، وفقا لـ ﭽيشاه-مسلك.[528] بالإضافة إلى ذلك، أقرت السلطات بالأخذ بعين الأعتبار  "الاعتبارات المتعلقة بقدرات التصنيع، فضلا عن العرض والطلب في الأسواق ذات الصلة".[529] على سبيل المثال، تمنع السلطات الإسرائيلية تسويق العديد من الفواكه والخضروات من غزة في الضفة الغربية وإسرائيل.[530] بينما توجد مجموعة أوسع من المنتجات الزراعية من غزة التي يمكن بيعها في الضفة الغربية، فإن السلطات الإسرائيلية لم تسمح عمليا إلا في مارس/آذار 2021 ببيع الباذنجان والطماطم في السوق الإسرائيلي.[531] كما منعت حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2020 دخول البضائع المصنعة من غزة إلى أسواق الضفة الغربية وإسرائيل.[532]

لا يُستثنى المنتجون الإسرائيليون في الأراضي الفلسطينية المحتلة من هذه القيود فحسب، بل إن إسرائيل خلقت في غزة "السوق الأكثر تقييدا في العالم" لصالح الشركات الإسرائيلية، على حد وصف ﭽيشاه–مسلك.[533] يتم شراء أكثر من 80% من البضائع التي تدخل غزة من شركات وموردين إسرائيليين، والتي بلغت قيمتها عام 2015 وحده تقريبا مليارَيْ شيكل (أكثر من 556 مليون دولار أمريكي)، وفقا لـ ﭽيشاه-مسلك.[534] كما تنتج شركة الإسمنت الإسرائيلية "نيشر" تقريبا كل الإسمنت المستخدم في غزة.[535]

دمّرت هذه القيود اقتصاد غزة.[536] وانخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في غزة بنسبة 23% بين 1994 و2016 بالقيمة الحقيقية للدولار.[537] يعتمد 80% من سكان غزة على المساعدات الإنسانية، وفقا للأونروا،[538] ويعيش أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر.[539] تراوحت معدلات البطالة في غزة لبعض الوقت حول 50% وهي أعلى بين الشباب والنساء.[540]

كما أن السياسات الإسرائيلية تقيد بشدة الحصول على الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه. بين 1967 و2002، اعتمدت غزة على الكهرباء التي كانت تتلقاها من "شركة الكهرباء الإسرائيلية".[541] على الرغم من تشغيل محطة توليد الكهرباء في غزة في 2002، إلا أنها تعمل بقدرة جزئية فقط، وأحد أسباب ذلك هو الهجمات الجوية الإسرائيلية العديدة.على حد تعبير المحكمة الإسرائيلية العليا في 2008، ما تزال غزة "معتمدة بالكامل تقريبا" على إسرائيل لإمدادها بالكهرباء بشكل مباشر أو غير مباشر.[542] رغم أن   شركة الكهرباء الإسرائيلية تبيع كمية محددة فقط من الكهرباء لغزة، وهي غير كافية لتلبية طلب السكان، حتى لو كانت محطة الطاقة تعمل بكامل طاقتها،  كما أنها تقلص التغذية الكهربائية بشكل دوري.[543] في 2017، على سبيل المثال، خفضت الشركة كمية الكهرباء التي زودت بها غزة بنسبة 30%، بناء على طلب من السلطة الفلسطينية، التي سعت للضغط على سلطات حماس للتخلي عن سيطرتها على القطاع.[544] قصفت القوات الإسرائيلية محطة الطاقة الوحيدة في غزة مرات عدة،[545] ما قلّص قدرتها بشكل كبير.[546] القيود التي فرضتها إسرائيل على دخول البضائع، بما فيها قطع الغيار والمعدات التي تعتبر ذات استخدام مزدوج، أعاقت جهود إصلاح محطة التوليد.[547] بالإضافة إلى ذلك، تقيّد السلطات دوريا، أحيانا بشكل عقابي وفي بعض الاحيان بسبب النزاعات على المدفوعات، كمية الوقود الصناعي الذي تسمح بشرائه للمحطة، والذي تحتاج إليه المحطة لتعمل. [548] كما تقيّد إسرائيل دخول الألواح الشمسية والبطاريات، ما يعيق الجهود لتطوير مصادر طاقة بديلة من شأنها أن تمنح غزة درجة من الاستقلالية فيما يتعلق بالطاقة.[549] كانت غزة تشتري أحيانا كمية صغيرة من الكهرباء من مصر، لكنها كانت غير كافية لتلبية احتياجات سكانها.[550] في 2017 و2018، كان متوسط التغذية الكهربائية في غزة 6.2 ساعات في اليوم؛ ارتفع هذا الرقم إلى 12 في 2019، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى سماح إسرائيل لقطر بشراء الوقود من المزودين الإسرائيليين لاستخدامه في غزة.[551] في الوقت نفسه، يتمتع المستوطنون الإسرائيليون في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالكهرباء دون انقطاع، وهي تغذية يأتي معظمها من نفس شركة الكهرباء الإسرائيلية. يؤثر انقطاع التيار الكهربائي المنتظم على العديد من جوانب الحياة اليومية في غزة، من التدفئة والتبريد ومعالجة مياه الصرف الصحي، إلى الرعاية الصحية والأعمال.[552]

كما أن سكان غزة لا يحصلون بانتظام على مياه نظيفة. تعتمد غزة كمصدر وحيد تقريبا للمياه على الحوض الساحلي، الذي يمتد على طول الساحل في إسرائيل والقطاع ويمكن الوصول إليه داخل غزة عبر الآبار.[553] وبحسب أوتشا، فإن الاستخراج المفرط، سواء من قبل الإسرائيليين أو من قبل الفلسطينيين في غزة، وتسرب مياه البحر والصرف الصحي والنترات، جعل أكثر من 96% من المياه الجوفية "غير صالحة للاستهلاك البشري".[554] وجدت دراسة أجرتها مؤسسة RAND في 2018 أن تلوث المياه يسبب 26% من الأمراض في غزة وهو السبب الرئيسي لوفيات الأطفال.[555] كما تشتري غزة المياه من شركة المياه الإسرائيلية "مكوروت"، لكن إسرائيل تسيطر على الإمداد. تمر المياه من مكوروت عبر نفس شبكة الأنابيب التي تمر فيها المياه الجوفية وتختلط معها، ما يقلل من جودتها.[556] تتسبب شبكة أنابيب المياه القديمة في غزة أيضا في فقدان حوالي 30% من الإمدادات بسبب التسرب،[557] لكن إسرائيل تصعب الصيانة، إذ تقيّد استيراد حوالي 70% من المواد والمعدات اللازمة لإصلاح شبكات المياه والصرف الصحي على أساس أنها "مواد ذات استخدام مزدوج".[558] تحلّي غزة كمية معينة من المياه، ولكن تحلية المياه تتطلب قدرا كبيرا من الكهرباء، والوقود، والتمويل.[559] تجبر هذه القيود معظم الأسر في غزة على الاعتماد على شراء مياه الشرب المكررة من الشركات الخاصة، عندما تستطيع تحمل تكاليفها.[560] في 2019، استخدم سكان غزة 79 لتر من الماء يوميا، بزيادة عن 2017 و2018، ولكن أقل من الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية وهو مئة لتر.[561]

دراسة حالات: غزة

توضح دراسة الحالات الفردية التالية كيف تمارس السلطات الإسرائيلية القمع الممنهج بحق الفلسطينيين في غزة، بصفتها جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، من خلال انتهاك حقوق الإنسان الأساسية.

"يزن": شعَر يزن (26 عاما) أن حلمه قد تحقق؛ عرضت عليه "جامعة نوتنغهام" في بريطانيا القبول لمرحلة الماجستير. لم يلحق يزن بداية الفصل الدراسي في أكتوبر/تشرين الأول 2018، إذ كان ينتظر الرد على طلب تصريح من إسرائيل ورسالة تتيح له السفر عبر الأردن إلى بريطانيا. حصل على التصريح في ديسمبر/كانون الأول، وفي 18 ديسمبر/كانون الأول 2018، وصل إلى معبر بيت حانون/إيرز لبدء رحلته. لكن عند وصوله، اصطحبه جندي إسرائيلي إلى غرفة لاستجوابه. قال لـ هيومن رايتس ووتش إن الجنود سألوه عن الوضع في غزة، وأحد جيرانه، ومبلغ من المال كان قد  دفعه والده.[562] بعد الانتظار لثلاث ساعات، عاد الجندي وقال: "ستتمكن من السفر وسيسير كل شيء على ما يرام. ما رأيك بتزويدنا ببعض الأشياء البسيطة مقابل المال والسفر؟" فهم يزن ذلك التصريح على أنه طلب لتوفير المعلومات الاستخبارية عن أشخاص في محيطه، فرفض. أرجعه الجندي، محذرا إياه: "أنت تدمر مستقبلك"، ثم حثه قائلا، "فكّر بالموضوع". قال يزن إنه فكّر بالمغادرة عبر معبر رفح إلى مصر، لكن قائمة الانتظار التي تديرها حماس كانت طويلة. لم يكن بإمكانه دفع آلاف الدولارات لتقديم دوره على قائمة الانتظار، وفاتته الفرصة. تجعل سياسة الفصل الإسرائيلية من المستحيل فعليا على يزن التماس الفرص التعليمية أو المهنية في الضفة الغربية، رغم أن والدته من نابلس.[563] انتهى به الأمر بالدراسة في غزة ويعمل الآن في وظائف بعقود مؤقتة، ولكن "لا يزال لديه نفس الحلم بالدراسة في الخارج" ويستمر في تقديم طلبات للمنح الدراسية. قال لـ هيومن رايتس ووتش: "حلّقت بعيدا مع هذا الحلم، لكنني سقطت فجأة ووجدت نفسي في العالم الحقيقي. أشعر وكأنني طائر داخل قفص - يمكنني أن أطير في القفص، لكنني أبقى دائما بداخله. هذه هي غزة - أنت في سجن كبير، تتساءل ماذا يوجد في العالم الخارجي".

"لين": حصلت لين (23 عاما)، وهي ممثلة، على تصريح لمغادرة غزة لإجراء مقابلة تأشيرة في القدس في يوليو/تموز 2016، لكنها قررت عدم العودة وذهبت لتعيش مع عمها في جنين. قالت لـ هيومن رايتس ووتش إن سفرها إلى الخارج سابقا جعلها تشعر أنها "لن تتمكن من تحقيق أي شيء في غزة" ولم تتمكن من تقبّل البقاء هناك.[564] بدأت تدرس في الجامعة وتُمثّل، وانتقلت إلى رام الله وتقدمت بطلب لتغيير عنوانها، لتتمكن من البقاء قانونيا في الضفة الغربية. لكنها لم تتلق أي معلومات بخصوص طلبها. جمّدت السلطات الإسرائيلية فعليا السجل السكاني منذ العام 2000، معرقلةً حتى تغيير العناوين.[565] انتهت صلاحية تصريحها، وأصبح وجودها في الضفة الغربية غير قانوني، وقالت إنها بدأت تخشى توقيفها وإعادتها إلى غزة. قالت: "أحلم بالحصول على بطاقة هوية فلسطينية تتيح لي التنقل بحرية والسفر، ثم العودة إلى غزة لرؤية أسرتي". تجد نفسها الآن عالقة، عاجزة عن زيارة عائلتها، لكنها غير مستعدة للتخلي عن حلمها في السعي إلى حياة أفضل في الضفة الغربية. أضافت: "غزة سجن صغير. رام الله سجن كبير…. لو أتيحت لي الفرصة للعودة في الزمن، لبقيتُ في غزة وتعلمتُ التأقلم على الحياة هناك".

"سامية": سافرت سامية (27 عاما)، وهي معلمة لغة إنغليزية، إلى الأردن في 2016 للدراسة. قالت لـ هيومن رايتس ووتش إنها قررت بعد مدة قصيرة العودة إلى غزة، لكن أقاربها الذين زارتهم في الضفة الغربية أقنعوها بالبقاء معهم. [566]قالت إنها قدمت طلبا لتغيير عنوانها إلى الضفة الغربية عن طريق "الهيئة العامة للشؤون المدنية" (الأحوال) الفلسطينية، التي تحيل الطلبات إلى السلطات الإسرائيلية، لكنها لم تتلق أي رد. بدأت سامية العمل كمعلمة للغة الإنغليزية في رام الله وعقدت خطوبتها، لكنها شعرت بأنها دائما مقيدة، وغير قادرة على التنقل بحرية مع الأصدقاء والعائلة. في 3 يوليو/تموز 2019، ذهبت في سيارة أجرة لزيارة أقاربها في نابلس. في الطريق، أوقفها جنود إسرائيليون عند حاجز كانوا قد أقاموه. عندما رأوا أن عنوانها مسجل في غزة، اتهموها بأنها "تُقيم هنا بشكل غير قانوني" واعتقلوها في مركز عسكري، حيث أمضت الليلة. قالت إنه في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، وضع العناصر الأصفاد على يديها ورجليها، ووضعوها في سيارة بدون نوافذ، واقتادوها إلى معبر إيرز، حيث أعادوها إلى غزة دون متعلقاتها أو حتى بطاقة هويتها. قالت سامية: "كان كابوسا". كانت تُخطط للزواج في 2020، واستأجرت بالفعل مكانا وبدأت بتأثيثه، ثم "انتهى كل شيء في ثوان". قالت إنها لا تصدق أنها "أُبعِدْتُ من الجزء الثاني من بلدي"، مكان على بعد ساعة فقط. قدمت طلبا للحصول على تصريح عودة إلى الضفة الغربية، لكن الشؤون المدنية  الفلسطينية في غزة أخبروها أن الإسرائيليين وضعوا عليها منعا أمنيا مدته ستة أشهر، ما منعها من السفر. قالت إن خطيبها قدم مرتين طلب تصريح لزيارة غزة، لكن السلطات الإسرائيلية رفضته في المرتين: مرة بسبب الأعياد اليهودية والأخرى بدون سبب. قالت، "فقدت الأمل" وحتى "طلبتُ من خطيبي الانفصال عني، إذا لم يكن بإمكاننا أن نكون معا". قالت إنه رفض، وما زالا يبحثان عن طريقة للعيش معا.

"هديل": في 2011، أحبّت هديل (37 عاما)، وهي منسقة لمواقع التواصل الاجتماعي في غزة، رجلا من نابلس التقت به في مؤتمر في عمّان. قالت لـ هيومن رايتس ووتش إنها بدأت تقديم طلبات للحصول على تصاريح لزيارته، لكن السلطات الإسرائيلية رفضتها باستمرار، 11 مرة بالإجمال.[567] في 2012، تمكن الرجل من دخول غزة عبر مصر للزيارة وعقدا خطوبتهما. بعد فترة قصيرة، عقب الانقلاب العسكري في مصر في يوليو/تموز 2013، أغلقت السلطات المصرية حدودها مع غزة إلى حد كبير. قدمت هديل في 2014 طلبَ لمّ شمل للعيش مع خطيبها في الضفة الغربية، ولكنه رُفض دون سبب محدد. في أواخر 2015، تمكنت من الحصول على تصريح لحضور مؤتمر في الخارج. في طريق عودتها، أثناء عبورها الضفة الغربية قادمة من الأردن، فكرت في البقاء. لكنها خافت من القبض عليها وإعادتها إلى "السجن المؤبد في غزة" في إشارة إلى خوفها من عدم تمكنها من تأمين تصريح سفر مجددا، فعادت إلى غزة وانفصل الخطيبان في مايو/أيار 2015. إلا أنها تمكنت في 2019 من الحصول على تصاريح من خلالها عملها للسفر إلى الضفة الغربية، والتقت برجل من رام الله وخطبته. قالت إنها تقلق دائما من مواجهة نفس المصير في هذه العلاقة. قالت إنها تحدثت إلى محامين لتقديم طلب لتغيير عنوانها، لكنهم أخبروها أن احتمال سماح إسرائيل لها بالإقامة القانونية في الضفة الغربية ضئيل للغاية، وأن العملية ستستغرق وقتا طويلا. شجعتها عائلة خطيبها على البقاء بدون وضع قانوني في الضفة الغربية، لكنها لا تريد المخاطرة. قالت إنها وخطيبها لا يعتبران غزة خيارا، لأنهما اشتريا بالفعل منزلا في الضفة الغربية ولم تشأ أن تفصل خطيبها عن عائلته. قالت إنهما يركزان الآن على إيجاد طريقة ليعيشا معا في الخارج، لأن السبيل إلى العيش في الأراضي الفلسطينية المحتلة مسدودا.

"كيران": في 2016، قررت كيران (33 عاما) وزوجها الانتقال من غزة إلى الضفة الغربية بحثا عن حياة أفضل. قالت كيران لـ هيومن رايتس ووتش إن زوجها حصل على تصريح سفر كرجل أعمال، وقرر البقاء في الضفة الغربية.[568] قالت لـ هيومن رايتس ووتش إنه بدون تلبية المعايير الصارمة التي تفرضها إسرائيل للسماح لسكان غزة بالسفر، حصلت كيران على إحالة طبية مزورة تشير إلى أن ابنها (ثلاثة أعوام آنذاك) يحتاج إلى السفر للحصول على رعاية طبية عاجلة. منحته السلطات تصريحا ومنحتها تصريحا لمرافقته وسافرا في 2017 مصطحبين ابنها الثاني (ثمانية أشهر). ظلوا في الضفة الغربية بدون أن يكون وضعهما قانونيا منذئذ. طلب زوجها تغيير عنوانه ليصبح في الضفة الغربية في 2016، لكن، حتى كتابة هذا التقرير، لم يكن قد تلقى أي رد. قالت كيران إن عائلتها المكونة من خمسة أفراد، بمن فيهم طفلة ثالثة أنجبتها في الضفة الغربية، تعيش في "خوف دائم" من التوقيف والإعادة إلى غزة، وتبقى في المنزل كلما "كان هناك أي توتر". يشعرون أنهم "غرباء في وطننا"، كما لو أنهم "يقيمون بشكل غير قانوني في بلد آخر". قالت إنها لم تحضر عدة مناسبات عائلية في غزة، بما فيها حفلَيْ زفاف شقيقيها، وإن زوجها لم يرَ أطفاله الخمسة من زواج سابق منذ مغادرته غزة. قالت إنها فكرت بالعودة إلى غزة، لكنها قلقة حيال تأثير الحياة في القطاع على أطفالها الثلاثة. قالت لـ هيومن رايتس ووتش إن "أولادي يفرحون عندما يرون طائرات في السماء ... لا أستطيع تخيّل رد فعلهم عندما سيرون الطائرات التي يحبونها تطلق الصواريخ والقنابل. لا أريدهم أن يجرّبوا الحرب والموت".

التمييز المؤسسي في إسرائيل

في إسرائيل، تمارس السلطات تمييزيا مؤسسيا بين السكان اليهود والفلسطينيين، وإن كان في بعض الجوانب أقل شدة من القمع والاضطهاد في الأراضي الفلسطينية المحتلة. بحسب بيانات "دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية"، هناك حوال 6.2 مليون يهودي و1.6 مليون فلسطيني على الجانب الإسرائيلي من الخط الأخضر.[569] نص "إعلان الاستقلال" الإسرائيلي على "المساواة الكاملة" بين جميع السكان. خلافا لفلسطينيي الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية (باستثناء أقلية صغيرة من الفلسطينيين المقدسيين الذين تقدموا بطلب الجنسية الإسرائيلية وحصلوا عليها)، الفلسطينيون الذين يعيشون في إسرائيل هم مواطنون يحق لهم التصويت في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية (انتخابات الكنيست). غير أنّ طيلة السنوات الـ17 الأولى من وجود إسرائيل كدولة، وضعت السلطات أغلب الفلسطينيين تحت الحكم العسكري، وحاصرتهم في عشرات الجيوب، وفرضت عليهم الحصول على تصاريح لمغادرة أماكنهم، وقيودا مشددة على حقوقهم.[570] عندما انتهى الحكم العسكري في العام 1966، منحت السلطات الفلسطينيين حرية التنقل، لكنها استمرت في معاملة اليهود والفلسطينيين بغياب صارخ للمساواة، بما يشمل المكانة القانونية، وسياسات الأراضي، والحصول على الموارد والخدمات. تهدف هذه المعاملة التمييزية إلى تعزيز السيطرة اليهودية على التركيبة السكانية والأراضي، كما اعترف بذلك مسؤولون وبشكل مباشر.[571]

المكانة القانونية

تعتمد إسرائيل نظام مواطنة مزدوج المسارات، لا يساوي بين الفلسطينيين واليهود في المعاملة. رغم أنّ اليهود والفلسطينيين الذين يعيشون داخل إسرائيل هم مواطنون، فإن إجراءات منح الجنسية الإسرائيلية تعطي امتيازات لليهود وتفرض قيودا مشددة على الفلسطينيين الذين، بخلاف معظم السكان الحاليين وأبنائهم وأحفادهم، يمكن أن يصبحوا مواطنين.

كان "قانون الجنسية" الإسرائيلي لعام 1952 ينصّ في البداية على أنّ الدولة تمنح الجنسية عبر أربعة مسارات: (1) "العودة"، أو (2) "الإقامة في إسرائيل" أو (3) الولادة أو (4) التجنّس.[572] غير أنّ إسرائيل تخصص المسار الأول (العودة) لليهود حصريا، وهو نابع من "قانون العودة" لعام 1950 الذي يمنح اليهود الذين لديهم جنسيات أخرى حق الاستقرار في إسرائيل.[573] ينصّ قانون المواطنة  على أن يحصل اليهود الذين كانوا يعيشون أصلا في إسرائيل آنذاك على المواطنة عبر هذا المسار، خلافا لمسار "الإقامة في إسرائيل".

على النقيض من ذلك، حصل الفلسطينيون على المواطنة في 1952 عبر المسار الثاني، "الإقامة في إسرائيل". غير أن القانون جعل الحصول على المواطنة مشروطا بإثبات الإقامة قبل 1948 أو التواجد المستمر هناك مع التسجيل في السجل السكاني أو الدخول بشكل قانوني في الفترة الممتدة من 1948 إلى 1952. جميع هذه القيود لا تنطبق على اليهود. هذه الصياغة لا تكتفي بإقصاء 700 ألف فلسطيني كانوا قد فروا أو طردوا من ديارهم في 1948 بالإضافة إلى أبنائهم وأحفادهم،[574] بل تقصي أيضا كل من لم يُدرَج في سجل السكان بسبب إجراءات التسجيل الصُوَرِية، وكل من لم يكن متواجدا هناك أو لم تثبت إقامته قبل 1948 أو بشكل مستمر بين 1948 و1952.[575]

أفادت "هآرتس" في 2017 أن السلطات الإسرائيلية كانت قد سحبت المواطنة من "مئات إن لم يكن آلاف" البدو الفلسطينيين في منطقة النقب في السنوات الأخيرة بإدعاء "التسجيل الخاطئ" الذي قاموا به هم أو عائلاتهم بين 1948 و1952.[576] في جلسة للكنيست في 20 أغسطس/آب 2020، أقرّ مسؤولون حكوميون بالتحقيق في الملابسات المحيطة بمنح المواطنة  لحوالي 2,600 شخص، وقالوا إنهم وجدوا أنّ حوالي 500 منهم حصلوا على المواطنة  عن طريق الخطأ، رغم أنهم زعموا أنهم أعادوا المواطنة إلى 362 منهم عبر مسار سريع.[577]

بينما يشمل المسار الثالث، الولادة، اليهود والفلسطينيين معا، فإنّ المسار الرابع، التجنس، ينطبق فقط على غير اليهود. يسمح قانون المواطنة لوزارة الداخلية بمنح المواطنة لكل من تتوفر فيه مجموعة من الشروط، تشمل الإقامة في إسرائيل لعدة سنوات، ونية الاستقرار فيها، ومعرفة اللغة العبرية، والتخلي عن الجنسية الأجنبية، وقسم الولاء.

في يوليو/تموز 2003، أصدرت الحكومة الإسرائيلية "قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل" (أمر الساعة)، الذي علّق فعليا عملية التجنس والمكانة القانونية طويلة الأمد للفلسطينيين المتزوجين من مواطنين إسرائيليين أو سكان الضفة الغربية وغزة.[578] أيدت المحكمة العليا القانون، فعمد الكنيست إلى تجديده كل سنة منذ ذلك الحين، وكانت آخر مرة في يونيو/حزيران 2020. في 2005، سمح الكنيست للنساء الفلسطينيات فوق سن 25 عاما والرجال الفلسطينيين فوق 35 عاما، المتزوجين من مواطنين إسرائيليين، التقدّم بطلب تصاريح مؤقتة قابلة للتجديد. وفي 2017، وسّع الكنيست نطاق القيود ليشمل الأزواج من لبنان، وسوريا، والعراق، وإيران.[579]

تميّز السلطات الإسرائيلية أيضا بين المواطنة والقومية، وتمارس تمييزا هيكليا بين المواطنين بناءً على قوميتهم. تسجل الحكومة الإسرائيلية الأصل القومي لجميع المواطنين، وكانت حتى 2005 تُدرجه في بطاقة الهوية لكل مواطن.[580] يُعتبر اليهود والفلسطينيون من قوميات مختلفة: "يهود" و"عرب". رغم أنها تعترف بأكثر من 140 قومية، لا تعترف الحكومة بـ "قومية إسرائيلية"، وترفض طلبات المواطنين في تعريف أنفسهم على هذا النحو.[581] التمس مواطنون للمحكمة العليا ضد هذا الرفض، لكن المحكمة أيدته. في 2013، أكدت المحكمة مجددا حكما كان قد صدر في 1972 يقضي بأن "القومية الإسرائيلية أصبحت موجودة، بشكل منفصل ومختلف عن القومية اليهودية".[582] وفي رأي مؤيد، كتب القاضي حنان ميلسير أن "'الصفة اليهودية الدستورية' للدولة تلغي إمكانية الاعتراف بـ 'القومية الإسرائيلية'، وهي مختلفة عن ́القومية اليهودية̀".[583]

التفرقة بين المواطنة والقومية يعني أن القانون الإسرائيلي يجعل الفلسطينيين عند الولادة في مكانة أدنى بموجب القانون. لطالما عرّفت إسرائيل نفسها بـ "الدولة القومية للشعب اليهودي"، على النحو المنصوص عليه في "قانون أساس: إسرائيل - الدولة القومية للشعب اليهودي" لعام 2018. هذا القانون، الذي يتمتع بوضع دستوري، ينص على حق تقرير المصير لليهود فقط، ويجعل بناء المنازل لليهود دون سواهم أولوية وطنية.[584] استثناء الفلسطينيين من التعريف الذي وضعته الأمة لنفسها يوفر أساسا قانونيا لاعتماد سياسات تفضّل اليهود على الفلسطينيين، تحت عنوان تعزيز "المصلحة القومية" أو "الأمن القومي". على سبيل المثال، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، استشهدت محكمة صلح إسرائيلية بـ "قانون الدولة القومية" لعام 2018 لرفض دعوى قضائية رفعها طالبان فلسطينيان للحصول على تعويض عن نفقات السفر إلى مدرسة فلسطينية قريبة، حيث لا توجد مثل هذه المدارس في مدينة كرميئيل في شمال إسرائيل حيث يعيشان. نص الحكم على أن "كرميئيل مدينة يهودية تهدف إلى ترسيخ الاستيطان اليهودي في الجليل. إن إنشاء مدرسة تدرس اللغة العربية أو حتى تمويل السفر المدرسي للطلاب العرب من شأنه تغيير التوازن الديموغرافي ويضر بطابع المدينة". وأضافت أن "تطوير وإقامة الاستيطان اليهودي هو قيمة قومية مرسخة في القانون الأساسي وهو اعتبار ذو قيمة وله الأولوية في صنع القرار على مستوى البلدية".[585]

الاجراءات القانونية الرامية إلى حماية الطابع اليهودي للدولة والتي تميّز ضدّ الفلسطينيين تقوّض التعهد الوارد في إعلان الاستقلال بـ "المساواة التامة في الحقوق اجتماعيا وسياسيا بين جميع رعاياها دون التمييز من ناحية الدين والعرق والجنس". يصوّت مواطنو إسرائيل الفلسطينيون في الانتخابات، ويمثَّلون في الكنيست، غير أن " قانون  أساس: الكنيست – 1958"، الذي يحظى بوضع دستوري، أعلن أنه لا يحق الترشح للكنيست لكل من أنكر "قيام دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية".[586] كما أنّ "قانون الأحزاب السياسية" لعام 1992 يأخذ خطوة إضافية بمنع تسجيل أي حزب له أهداف تنكر بشكل مباشر أو غير مباشر "قيام دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية".[587] رغم أن المحكمة العليا غالبا ما ترفض إلغاء الترشح بسبب خرق هذه البنود،[588] إلا أن هذه الأحكام القانونية تمنع الفلسطينيين من الاعتراض رسميا على القوانين التي تقنّن إخضاعهم، وبذلك تقلل من شأن حق الفلسطينيين في التصويت. حقيقة أن كل الحكومات الإسرائيلية عبر التاريخ لم تشمل قط ممثلين عن أحزاب بقيادة فلسطينية يؤكد استضعاف هذا المجتمع".[589]

كتب عضو الكنيست السابق عزمي بشارة عن وضع الفلسطينيين داخل إسرائيل: "في 1948، خسرنا بلدا وكسبنا مواطنة".[590]

الأرض والمسكن

نتيجة عقود من مصادرة الأراضي والسياسات التمييزية، طوّقت السلطات الإسرائيلية البلدات والقرى الفلسطينية، بينما رعت نمو التجمعات اليهودية ووسعتها؛ العديد منها يستثني عمليا الفلسطينيين. أغلب الفلسطينيين في إسرائيل يعيشون في هذه البلدات والقرى، بينما يعيش البعض في "مدن مختلطة"، مثل تل أبيب-يافا وحيفا.[591]

93 % من الأراضي داخل إسرائيل تشكل أراضي دولة، وتسيطر عليها الحكومة الإسرائيلية مباشرة.[592] صادرت السلطات الإسرائيلية الكثير من هذه الأراضي من الفلسطينيين - عدة ملايين من الدونمات - بأساليب قانونية مختلفة، كما هو موثق في قسم لاحق.[593] هناك جهاز حكومي يُسمى "سلطة أراضي إسرائيل"، وهو المسؤول عن إدارة وتخصيص أراضي الدولة. نصف أعضاء مجلس إدارته تقريبا ينتمون إلى "الصندوق القومي اليهودي"،[594] الذي تتمثل مهمته الصريحة في تطوير واستئجار الأراضي لليهود، وليس لأي شريحة سكانية أخرى.[595] يمتلك الصندوق 13% من أراضي إسرائيل، والدولة مسؤولة عن استخدامها "لغرض استيطان اليهود".[596]

خصّصت السلطات الإسرائيلية أراضي الدولة بشكل شبه حصري لتطوير وتوسيع التجمعات اليهودية.[597] منذ 1948، رخصت الحكومة إنشاء أكثر من 900 "بلدة يهودية" في إسرائيل.[598] وفي المقابل، لم ترخّص لأي بلدة فلسطينية، باستثناء عدد قليل من البلدات الصغيرة والقرى التي تخضع للتخطيط الحكومي الإسرائيلي في النقب والجليل، والتي تهدف في أغلبها إلى تجميع البدو الذين هُجِّروا سابقا.[599] بحسب تقديرات لمجموعات إسرائيلية وفلسطينية صدرت في 2017، فإنّ أقلّ من 3% من مجمل الأراضي في إسرائيل خاضعة للسلطات المحلية الفلسطينية، حيث يعيش أغلب مواطني إسرائيل الفلسطينيين.[600]

حتى في البلدات والقرى الفلسطينية الموجودة داخل إسرائيل، تفرض السلطات الإسرائيلية قيودا تمييزية على الأراضي المخصصة للتوسع السكاني. خصصت السلطات أجزاء كبيرة من البلدات والقرى الفلسطينية للاستخدام "الزراعي" أو كمناطق "خضراء" ومنعت المباني السكنية فيها، وشيدت طرقات ومشاريع بنية تحتية أخرى تعرقل التوسع. خلُص تقرير بتكليف من الحكومة الإسرائيلية في 2003 إلى أن "العديد من البلدات والقرى العربية محاطة بأراضٍ مصنّفة مناطق أمنية، أو مجالس إقليمية يهودية، أو حدائق وطنية ومحميات طبيعية، أو شوارع سريعة، ما يمنع أو يعيق إمكانية توسعها في المستقبل".[601] رغم التركيز المتزايد على هذه المسائل في السنوات الأخيرة والذي أدى إلى زيادة في التطوير السكاني بموافقة الدولة،[602] إلا أن السلطات لم تفعل شيئا يُذكر لتغيير واقع البلدات والقرى الفلسطينية المحاصرة. في مقابل ذلك، وجدت هيومن رايتس ووتش في دراسات حالات وثقتها في ست مناطق إدارية في إسرائيل أن سلطات التخطيط منحت أراضٍ كافية وتصاريح لتخصيص وجهة استعمالها للمجتمعات ذات الأغلبية اليهودية وذلك لتسهيل نموها.[603]

هذه القيود تخلق مشاكل تتعلق بالكثافة وأزمة السكن في التجمعات الفلسطينية. قال "المركز العربي للتخطيط البديل"، ومقره إسرائيل، لـ هيومن رايتس ووتش في ديسمبر/كانون الأول 2018، إنه يقدّر أنّ 15 إلى 20 % من المنازل في البلدات والقرى الفلسطينية لا تملك تصاريح بناء، بعضها بسبب رفض طلبات أصحابها والبعض الآخر لأن أصحابها لم يقدموا طلبات لأنهم يعلمون مسبقا أن السلطات سترفضها على أساس أنها مخالفة لتخصيص وجهة استعمال الأراضي الساري مفعوله. كما قدّرت المنظمة أن بين 60 و70 ألف منزل في إسرائيل، باستثناء القدس، كان معرضا لخطر الهدم الكامل حتى سنة 2018.[604] حتى يوليو/تموز 2015، كانت 97 % من أوامر الهدم القضائية الإسرائيلية العالقة تخصّ بُنى موجودة داخل البلدات الفلسطينية.[605]

تتجلى هذه الديناميكيات بشكل أكثر حدة في النقب، حيث تتسبب السياسات والممارسات الإسرائيلية في جعل أكثر من 90 ألف من البدو الفلسطينيين يعيشون في تجمعات غير رسمية "غير معترف بها"، وحيث تواجه منازلهم تهديدا دائما بالهدم.[606] في الوقت نفسه، استثمرت السلطات الإسرائيلية والهيئات شبه الحكومية مليارات الشواكل في بناء مشاريع جديدة مخصصة بمعظمها لليهود في النقب.[607]

يسمح القانون الإسرائيلي للبلدات التي فيها عدد  العائلات يصل إلى 400 في النقب والجليل، وهي مناطق تشكل ثلثي الأراضي في إسرائيل،[608] بالإبقاء على لجان القبول، التي بإمكانها رفض طلبات السكن هناك لـ "عدم ملاءمة المتقدمين الحياة الاجتماعية فيها" أو عدم المواءمة مع "النسيج الاجتماعي-الثقافي".[609] تسمح هذه الهيئات فعليا باستبعاد الفلسطينيين من البلدات اليهودية الصغيرة، التي قدّر مركز "عدالة" الحقوقي، ومقره حيفا، سنة 2014 أنها تشكل 43 % من مجموع البلدات في إسرائيل، وإن كانت تضم نسبة أصغر من سكان البلاد.[610] في دراسة أجريت في 2015، وجد الأستاذ في "التخنيون - معهد إسرائيل التكنولوجي" في حيفا البروفيسور يوسف جبارين أن أكثر من 900 بلدة يهودية صغيرة، بما فيها الكيبوتسات، في جميع أنحاء إسرائيل بإمكانها فرض قيود على من يمكنه العيش فيها، وليس فيها أي مواطنين فلسطينيين.[611]

الموارد والخدمات

تميّز السلطات الإسرائيلية في توفير الموارد والخدمات بين البلدات والقرى الفلسطينية واليهودية داخل إسرائيل. تأتي عائدات هذه التجمعات داخل إسرائيل أساسا من مصدرين: بعضها محلي عن طريق الضرائب، وبعضها الآخر من الحكومة. وجدت المنظمتان الحقوقيتان "سيكوي" و"إنجاز" في تقرير صدر في 2014 أن أنه بينما تشكل الضرائب المحلية 66 % من موارد البلدات في جميع أنحاء إسرائيل، إلا أنها لا تتجاوز 31 % من الميزانية العامة للبلدات والقرى الفلسطينية.[612] رغم أن هذه الفجوة تعكس بشكل جزئي انخفاض القاعدة الضريبية بشكل ملحوظ في البلدات والقرى الفلسطينية، وجدت المنظمتان تفاوتا أكبر في الدخل ناتجا عن الضرائب غير السكنية أو الضرائب التجارية، وسلطتا الضوء بشكل خاص على ندرة "الممتلكات المدرة للدخل" في البلدات الفلسطينية، بما في ذلك القطاعات السكنية، والصناعية، والتجارية، والسياحية، والمصرفية، والبنية التحتية.[613] في مايو/أيار 2020، وجدت سيكوي، استنادا إلى بيانات من 2018، أن الضرائب السكنية التي جمعتها البلدات اليهودية بلغت ضعفين ونصف مقارنة بالضرائب الفلسطينية، بينما جمعت ستة أضعاف ونصف من الضرائب غير السكنية.[614]

مستويات الضرائب غير السكنية الأعلى بشكل ملحوظ التي تجمعها البلدات اليهودية هي نتيجة السياسات التمييزية للدولة. وجد "مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست" في يوليو/تموز 2018 أن 2 % فقط من المناطق الصناعية التي تديرها الحكومة، والتي تدر مدخولات كبيرة، توجد في البلدات الفلسطينية.[615] المباني الحكومية أيضا تدرّ مدخولات ضريبية هامة، لكن دراسة أعدها مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست في 2020 وجدت أن 0.4 % فقط من المباني الحكومية التي تدر إيرادات موجودة في بلدات فلسطينية.[616] إضافة إلى ذلك، وفقا لـ سيكوي، لا توجد بلدة فلسطينية واحدة فيها مستشفى أو جامعة أو قاعدة عسكرية أو مبنى حكومي.[617] وجدت دراسة أعدها مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيسة في أبريل/نيسان 2020 أن البلدات الفلسطينية، التي يعيش فيها حوالي 90 % من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل،[618] حصلت في 2018 فقط على 2.2 % من مجموع الضرائب غير السكنية في البلاد.[619]

البلدات والقرى التي تجمع إيرادات ضريبية بشكل أقل تعتمد أكثر على تمويل الحكومة. وهنا أيضا، تخصص السلطات الإسرائيلية الميزانيات بشكل تمييزي. على سبيل المثال، من أصل 2.82 مليار شيكل (804 مليون دولار) مخصصة للانتعاش الاقتصادي والتي سلمتها الحكومة الإسرائيلية للسلطات المحلية في أبريل/نيسان 2020، خلال تفشي فيروس "كورونا"، تم تحويل 1.7 % فقط منها إلى بلدات فلسطينية، بحسب مركز عدالة.[620] في مجال التعليم، تدير الحكومة نظامين مدرسيين منفصلين: واحد للأطفال اليهود وآخر للأطفال الفلسطينيين في إسرائيل.[621] يطغى التمييز على كل جوانب هذين النظامين، حيث غالبا ما تكون المدارس الحكومية الخاصة بالأطفال الفلسطينيين مكتظة وتعاني من نقص الموظفين، وسيئة البناء والصيانة، وتوفر مرافق وفرص تعليمية أقل من تلك التي تقدم إلى الأطفال اليهود.[622] وجد مركز "مساواة" الحقوقي، ومقره حيفا، استنادا إلى بيانات حكومية، أن الانفاق السنوي على كل طالب في البلدات والقرى الفلسطينية في 2013 بلغ 734 شيكل (220 دولار)، مقارنة بـ 3,344 شيكل (1,004 دولار) في البلدات اليهودية الفقيرة و5,934 شيكل (781 دولار) في البلدات اليهودية الأكثر ثراء.[623] كما وجدت هآرتس، من خلال بيانات حكومية تتعلق بالعام الدراسي نفسه، أن إنفاق الدولة على طلاب المدارس الثانوية اليهود كان أعلى بنسبة تتراوح بين 35 و68 % مقارنة بالطلاب الفلسطينيين من نفس المستوى الاقتصادي-الاجتماعي.[624]

رغم أن السلطات قد خفضت فوارق الميزانيات في السنوات الأخيرة، إلا أنه ما زالت هناك فجوات كبيرة. على وجه الخصوص، زادت "الخطة الاقتصادية الخماسية لتطوير المجتمع العربي"[625] التي اعتمدت في ديسمبر/كانون الأول 2015، وقيمتها تتجاوز 10 مليار شيكل (3 مليون دولار)، من المخصصات الموجهة إلى قطاعات مثل النقل. لكنها لم تعالج مجالات تفاوت أخرى، مثل خدمات الرفاه الاجتماعي والتعليم الثانوي.[626] كما تلقت البلدات الفلسطينية تمويلا من خلال "منح التكافؤ" التي تقدمها الحكومة وصندوق حكومي والتي تهدف إلى "سدّ الفجوات [الاقتصادية]" بين التجمعات ذات المواقع المختلفة، لكن بحسب سيكوي، فإنها تبقى دون مستوى الفجوات الموجودة مقارنة بالبلدات اليهودية.[627] وجد مركز مساواة في دراسة خاصة بميزانية إسرائيل لسنة 2019 أن التمويل الممنوح للمناطق الفلسطينية يبقى "ضئيلا"، مع وجود احتياجات كبيرة في التعليم والمجالات الأخرى، وأن "التمييز الممنهج" ما زال طاغيا على الإنفاق الحكومي.[628]

تساهم هذه الفوارق في الاختلاف الصارخ للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين الفلسطينيين واليهود. بحسب أرقام صادرة عن وزارة المساوة الاجتماعية الإسرائيلية في مايو/أيار 2020، فإنّ 45.3% من العائلات الفلسطينية تعيش تحت خط الفقر، مقارنة بـ 13.4 %من العائلات اليهودية.[629] كما وجدت سيكوي في 2015 أن الفارق في الدخل بين الفلسطينيين واليهود بلغ 44.6 % لدى الرجال و31 % لدى النساء، وأن 47.4 % من الفلسطينيين يعملون في أعمال لا تتطلب مهارة البناء، مقارنة بـ 10.4 % من اليهود.[630]

دراسة حالة: الناصرة

توضح دراسة الحالة التالية كيف تميز السلطات الإسرائيلية ضدّ سكان مدينة الناصرة الفلسطينية في إسرائيل بطرق تعرقل نمو المجتمع المحلي وتقوّض رفاه المجتمع، بينما تعزّز تطوّر مدينة ذات أغلبية يهودية بجوارها.

الناصرة هي أكبر مدينة فلسطينية في إسرائيل، ويبلغ عدد سكانها 77,400 نسمة.[631] وتقع في منطقة لواء الشمال، وهي المدينة الفلسطينية الوحيدة التي نجت من أحداث 1948.[632] سياسات الأراضي التمييزية الإسرائيلية حصرتها إلى حدّ كبير في نفس المساحة الجغرافية التي كانت عليها في ذلك الوقت، رغم أنّ عدد سكانها قد تضاعف أكثر من خمس مرات.[633] وفي الوقت نفسه، أنشأت السلطات الإسرائيلية نتسيرت عيليت (الناصرة العليا، التي أعيدت تسميتها بـ نوف هجليل في 2019، والمشار إليها من هنا فصاعدا باسمها الأصلي) في خمسينات القرن الماضي كـ"بلدة يهودية"،[634] بحسب رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون، وقال مسؤول بارز آنذاك أن الهدف من تأسيسها هو أن "تبتلع الناصرة".[635] الشارع السريع 75 أو شارع الصهيونية يرسم إلى حد كبير الحدود اليوم بين الناصرة ونتسيرت عيليت. ومنذ ذلك الحين، عززت السلطات الإسرائيلية نمو نتسيرت عيليت وتطورها، غالبا على حساب الناصرة. اليوم، تطورت نتسيرت عيليت لتصبح "مدينة مختلطة" يُشكل الفلسطينيون حوالي 26 % من سكانها، ويعود ذلك أساسا إلى هجرة سكان الناصرة بسبب التضييق الذي يعيشونه، كما هو موضح أدناه.[636]

تواجه الناصرة، أكبر تجمع للفلسطينيين داخل إسرائيل، مشاكل تتعلق بالكثافة وأزمة سكنية ناجمة جزئيا عن سياسات الأراضي الإسرائيلية التي تعطي الأفضلية لتطوير البلديات ذات الأغلبية اليهودية. صورة جوية التقطت بين عامي 2011 و2015. © "لو شوت ليميتد"

كان من المقرر أن تكون مدينة الناصرة تابعة للدولة العربية وفقا لخطة تقسيم الأمم المتحدة لسنة 1947، لكنها أصبحت خاضعة لسيطرة إسرائيل في يوليو/تموز 1948. خلافا لمئات آلاف الفلسطينيين الذين أجبروا على مغادرة بلداتهم وقراهم أثناء إقامة دولة إسرائيل، تمكن أغلب سكان الناصرة من البقاء في ديارهم. بحسب المؤرخ بيني موريس، أصدر المسؤولون الإسرائيليون أمرا بـ "اقتلاع جميع سكان الناصرة"، لكن قائد اللواء في الجيش الإسرائيلي الناشئ الذي تلقى الأمر بان دانكلمان رفض تنفيذه، فسمحت السلطات في الأخير باستسلام المدينة.[637] ارتفع عدد سكان الناصرة بعد أحداث 1948 بسبب استقبالها أكثر من 5 آلاف فلسطيني هُجِّروا من القرى المجاورة ومُنعوا من العودة إليها.[638] ومنذئذ، بقي الكثير من المهجّرين في الناصرة، ولم يتمكنوا من العودة إلى قراهم.[639]

أحد الفلسطينيين المهجرين، هو أمين محمد علي الذي يُعرف أيضا بـ أبو عرب (85 عاما) ويملك متجر تحف وتذكارات، قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه جاء إلى الناصرة في 1949، بعد أشهر من فراره هو وعائلته من قريتهم صفورية، التي كانت تبعد ستة كيلومترات شمال الناصرة، تحت النيران الإسرائيلية.[640] كان عمره آنذاك 13 عاما. قال إن عائلته أمضت عدة أشهر في لبنان ثم تمكنت من الدخول إلى إسرائيل قبل أن تشدّد قواتها السيطرة على الحدود وتمنع اللاجئين من العودة.[641] تمكّن بعض سكان صفورية الآخرين من العودة أيضا، ما دفع السلطات الإسرائيلية في يناير/كانون الثاني 1949، بحسب ما وثّقه بني موريس، إلى إجبار السكان الذين بقوا في القرية أو عادوا إليها على المغادرة.[642] وفي وقت لاحق من ذلك العام، أنشأت السلطات الإسرائيلية "موشاف" يهودي، أو قرية تعاونية، اسمها تسيبوري على أراضي صفورية.[643] قال أبو عرب إن عائلته فقدت منزلها وحوالي 200 دونم من الأراضي التي كانت تملكها في القرية.

في وقت لاحق من 1949، انتقلت عائلة أبو عرب إلى حيّ في الناصرة صار يُعرف فيما بعد بحي الصَفافرة، بعد أن استقر فيه العديد من المهجرين من صفورية.[644] في يناير/كانون الثاني 2001، قدّرت هآرتس أن المهجرين الفلسطينيين وأبناءهم وأحفادهم يشكلون نصف سكان الناصرة تقريبا.[645] أغلب أقارب أبو عرب الذين كانوا يعيشون في صفورية، بمن فيهم عشرات العمات والخالات والأعمام والأخوال وأولادهم، لم يعودوا قط إلى البلاد، وما زالوا هم وأبناءهم وأحفادهم لاجئين إلى اليوم، وممنوعين حتى من الزيارة. قال أبو عرب إنه يزور تسيبوري أحيانا، التي تفرض قيودا على من يستطيع العيش فيها أو دخولها، خاصة للعناية بخمسة مقابر يرقد فيها أجداد أهالي صفورية وأقاربه، منهم اثنان من أبناء عمه. وقال إنه كان يستطيع رؤية أراضي صفورية من منزله في الناصرة، ويحنّ إلى العودة إليها.[646]

بعد فترة وجيزة من تأسيس دولة إسرائيل، وضعت السلطات الإسرائيلية الناصرة تحت الحكم العسكري، وبدأت في الخمسينات في تنفيذ سياسة "تهويد الجليل".[647] أصبح إنشاء نتسيرت عيليت جزءا أساسيا من الخطة كما قال مدير قسم التخطيط في الجيش آنذاك يوفال نئمان لـ "التأكيد على الطابع اليهودي للجليل ككل والحفاظ عليه".[648] كتب الحاكم العسكري الشمالي في ذلك الوقت، العقيد ميخائيل ميخائيل، إن إنشاء نتسيرت عيليت سيؤدي إلى "نقل مركز ثقل الحياة من الناصرة إلى الحي اليهودي".[649]

أنشأت السلطات الإسرائيلية نتسيرت عيليت في الخمسينات على أراض يملكها سكان من الناصرة والقرى المجاورة. حصلت المصادرة الأولى، لحوالي 1,200 دونم من أراضي الناصرة، في يونيو/حزيران 1954 بموجب قانون يعود إلى 1943 ("حيازة للأغراض العامة")، وهو من مخلفات قانون الانتداب البريطاني الذي كان يسمح بمصادرة الأراضي لغرض عام.[650] قدّم سكان الناصرة طعنا قانونيا ضدّ القرار، لكن المحكمة الإسرائيلية العليا أيدته، استنادا إلى إعلان الدولة أنها صادرت الأرض لإنشاء مبانٍ حكومية فقط.[651] استخدمت السلطات جزءا بسيطا من الأرض لإنشاء مبانٍ حكومية – 109 دونمات بحسب مؤرخ – وخصصت أغلبها لبناء "حي يهودي" داخل الناصرة.[652] في أغسطس/آب 1952، قال سكرتير الحكومة زئيف شيرف إن "الفرصة الوحيدة لجعل الناصرة مدينة يهودية جزئيا هي من خلال تركيز مؤسسات [الدولة] هناك. إنه عمل استعماري تتخلله صعوبات، لكنه ضروري لتهويد الناصرة".[653]

حرصا على عدم جعل المجتمع اليهودي أقليةً في الناصرة، قرر المسؤولون الإسرائيليون في أواخر الخمسينات جعل نتسيرت عيليت بلدة منفصلة، بهدف دمج البلديتن في وقت لاحق بمجرد أن يتجاوز السكان اليهود السكان الفلسطينيين.[654] استمرت السلطات في مصادرة الأراضي الفلسطينية لبناء نتسيرت عيليت في الستينات والسبعينات، ومنها قطعة أرض مساحتها 160 دونما في وسط الناصرة تُعرف بجيب شبرينساك. استخدم الموقع كقاعدة عسكرية لسنوات وفيه فندق، وهو تابع لبلدية نتسيرت عيليت، رغم أنه يقع وسط الناصرة، ما يعني أن نتسيرت عيليت تحصل على ضرائب من المنشآت الموجودة هناك.[655] من خلال هذه المصادرات، عمقت نتسيرت عيليت موطئ قدمها في الجليل، ومركزت موقعها بين الناصرة وست قرى فلسطينية أخرى، وبذلك أعاقت إمكانية إقامة بلدة فلسطينية أكبر بجوارها. كتب الصحفي المقيم في الناصرة جوناثان كوك أن تطوير نتسيرت عيليت منع الناصرة من "التحول إلى العاصمة الحقيقية للأقلية الفلسطينية في إسرائيل"، "تكتل حضري" يسكنه أكثر من 200 ألف شخص وسط إسرائيل، وبدل ذلك تحولت الناصرة إلى "أكبر قرية عربية في إسرائيل"، بحسب أحد سكانها.[656]

بحسب مؤرخ، كان عدد سكان الناصرة قبل 1948 حوالي 15 ألف نسمة، وكانت مساحتها 12,599 دونم.[657] أما اليوم، فعدد سكانها 77,400 نسمة، ومساحتها 14,172 دونم.[658] تأخرت موافقة السلطات الإسرائيلية على أول مخطط بلدي حتى العام 2009؛ كان المخطط السابق قد وضع العام 1942 في حقبة الانتداب.[659] مجمل التوسع في الناصرة لأكثر من 70 عاما، ومجموعه أكثر من 6 آلاف دونم، لم يتخطَّ إلا بقليل مساحة الأراضي التي فقدت في الأحداث التي رافقت قيام دولة إسرائيل في 1948 والسنوات اللاحقة.[660] قدّرت بلدية الناصرة في السنوات اللاحقة أنها تحتاج بين 10,403 و12,378 دونما إضافية لتلبية احتياجات السكان، بما يشمل أحياء سكنية جديدة، وأراضي للتطوير الصناعي والتجاري والمزيد من المساحات العامة.[661] في مسح لسكان الناصرة أجراه البروفيسور يوسف جبارين من معهد التخنيون في حيفا، سنة 2013، قال 71.8% من المستجوَبين إن القوانين المحلية منعتهم من أي بناء لتوسيع ممتلكاتهم الحالية.[662]

القيود على الحصول على الأرض بغرض البناء لاستيعاب النمو السكاني الطبيعي تسببت في خلق مشاكل متعلقة بالكثافة وأزمة سكن في الناصرة. في نفس المسح، وصف 86.6% من السكان حركة المرور و83.7% الكثافة السكانية كمشاكل "خطيرة للغاية".[663] قال عضو المجلس البلدي في الناصرة مصعب دخان لـ هيومن رايتس ووتش إن "الشوارع الضيقة وعدم وجود أماكن لوقوف السيارات يتسببان في ازدحام خانق" وإنّ "الجيل الجديد ليس له أمل في بناء مستقبل هنا والبقاء في المدينة".[664] وصفت إحدى السكان الناصرة بـ "المدينة التي لا تستطيع التنفس وتشعر دائما بالتوتر".[665]

بالتوازي مع التضييق على الناصرة، سمحت السلطات الإسرائيلية لنتسيرت عيليت بالنمو بسرعة. بُنيت نتسيرت عيليت جزئيا على أرض للدولة وصُممت كمدينة لاستقبال المهاجرين اليهود الجدد، واستثمرت فيها السلطات الإسرائيلية بسخاء، بما في ذلك إنشاء "منطقة تسيبوريت الصناعية" العام 1992، التي تشمل مصانع وشركات للتكنولوجيا المتطورة. كان مقررا في البداية أن تكون منطقة صناعية إقليمية بمساحة 3,560 دونم،[666] لكن الإيرادات التي تدرها لا يذهب منها أي جزء إلى الناصرة، الموجودة جنوبها، أو القرى الفلسطينية المجاورة لها مباشرة.[667] في المقابل، توجد في الناصرة منطقتان صناعيتان صغيرتان، واحدة تتكون من ورش نجارة في البلدة القديمة، والأخرى لورش تصليح السيارات.[668]

لطالما مثّلت الناصرة مركزا إداريا إقليميا. لكن بدءا من  أواخر الخمسينات، نقلت السلطات الإسرائيلية تدريجيا العديد من المكاتب الحكومية من الناصرة إلى نتسيرت عيليت. من المكاتب التي نُقِلت تلك التابعة لوزارة الزراعة، ووزارة التعليم، ووزارة الصحة، ووزارة الداخلية، ومقر رئيس الوزراء، ومكتب الإحصاء، ومكتب الجمارك وضريبة القيمة المضافة، وهيئة الضرائب، وقسم تسجيل الأراضي، ومحكمة الصلح، والمحكمة المركزية، ومحكمة العمل المركزية.[669] بعض المباني متمركزة إلى الغرب من الشارع السريع 75، على الجهة الواقعة في الناصرة، لكنها ضمن الحدود البلدية لـ نتسيرت عيليت.

نقلُ هذه المكاتب يعني أنّ الناصرة فقدت جزءا كبيرا من إيرادات الضرائب التي تدرها المباني الحكومية، والتي كان يمكن أن تحفز التنمية.[670] في تقرير صدر في 2017، قدر المركز العربي للتخطيط البديل أنّ الناصرة حصلت على أقل من 30 % من الضرائب غير السكنية للفرد، التي تأتي أساسا من الضرائب المفروضة على الشركات والممتلكات الحكومية في نتسيرت عيليت.[671]

سياسة الحكومة الإسرائيلية المتمثلة في تحويل الموارد من الناصرة إلى نتسيرت عيليت كشفت أيضا عن نهجها في مجال السياحة. رغم أن الناصرة معروفة على نطاق واسع بأنها بلد يسوع المسيح، وفيها كنيسة رئيسية في التقليد المسيحي، إلا أن السلطات لم تستثمر كثيرا على مر التاريخ في البنية التحتية السياحية للمدينة، ونتيجة لذلك لم تستفد المدينة من مجموعات السياح الدينيين الذين يزورونها.[672] انتظرت السلطات حتى 1993 لتمنح الناصرة مكانة "أولوية قومية أ" في السياحة التي تؤهلها لتلقي المنح والإعفاءات الضريبية، استعدادا للألفية الجديدة وزيارة البابا التي كانت مرتقبة حينها.[673] لم تفتح أول سلسلة فنادق تجارية أبوابها في الناصرة إلا في آخر التسعينات.[674] ألغت الحكومات التالية وضع الأولوية السياحية في الناصرة، وحافظت عليه في نتسيرت عيليت، التي كانت قد حصلت عليه في السبعينات.[675]

قال ثلاثة من أصحاب الأعمال في البلدة القديمة في الناصرة أو قربها – واحد لديه مطعم، وواحدة لديها مقهى، وآخر لديه متجر للهدايا والتحف التذكارية – لـ هيومن رايتس ووتش إن السياح، وخاصة المجموعات السياحية المنظمة، غالبا ما يقضون ساعة أو اثنتين فقط في كنائس الناصرة، دون الدخول إلى البلدة القديمة أو إنفاق المال أو قضاء الليل في المدينة.[676] بعضهم يقيمون في فنادق نتسيرت عيليت، لكن الآخرين يكملون طريقهم للأكل والنوم في مدينة طبريا القريبة ذات الأغلبية اليهودية، على بحيرة طبريا.[677]

نقص العقارات المدرة للدخل، والتوزيع التمييزي للميزانيات من قبل الحكومة المركزية، يعني أن سكان الناصرة يحصلون في معظم الأحيان على خدمات أسوأ مقارنة بنتسيرت عيليت. قارن أصحاب الأعمال كلٌ على حدة بين ازدحام السير، ونقص مواقف السيارات، والطرق الضيقة مع توافر المواقف والطرق المفتوحة في نتسيرت عيليت.[678] وجدت دراسة أجراها مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست في 2015 أن معدّل الطلاب في الغرفة الدراسية الواحدة في الناصرة هو 30.3 بينما لا يتجاوز 21.4 في نتسيرت عيليت.[679] قال المسؤول البلدي مصعب دخان إنه حتى أبريل/نيسان 2021، زاد الفارق في عدد الطلاب في كل غرفة بين الناصرة ونتسيرت عيليت إلى عشرة على الأقل، وفي بعض الحالات إلى 20.[680]

أزمة السكن، والكثافة السكانية، والإيجارات المرتفعة دفعت الكثير من سكان الناصرة إلى مغادرة المدينة. يتوجه أهالي الناصرة غالبا إلى البلدات المجاورة ذات الأغلبية اليهودية لقضاء الأوقات في الحدائق نظرا لندرتها وندرة الفضاءات العامة الأخرى في مدينتهم الأصلية. حاولت إحدى سكان الناصرة دخول حديقة عامة في مدينة العفولة ذات الأغلبية اليهودية المجاورة في يونيو/حزيران 2019، لكن حراس الأمن منعوها بعد أن علموا أنها من الناصرة، بعد أشهر من وعد قطعه رئيس بلدية العفولة بالعمل على وقف "غزو الحديقة"، إذ دعا السكان إلى "رفع الأعلام الإسرائيلية في جميع أنحاء الحديقة وتشغيل الموسيقى بالعبرية"، ووقف على منبر ليشنّ حملة من أجل "الحفاظ على الطابع اليهودي للعفولة".[681] لكن بعد دعوى قضائية رفعها مركز عدالة، ألغت المدينة هذا المسار ووافقت على فتح حديقتها لجميع الزوار.[682]

من المفارقات أنّ الآلاف من سكان الناصرة انتقلوا إلى نتسيرت عيليت في السنوات الأخيرة، والكثير منهم اشتروا مباني من اليهود الذين تم توطينهم هناك كمهاجرين ثم جنوا ما يكفي من المال "للتوجه نحو حياة أفضل في مركز  البلاد"، بحسب كوك.[683]  خليل حداد (43 عاما)، وهو صاحب مطعم في الناصرة، قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه ولد وترعرع في نتسيرت عيليت، إلا أنه قرر هو وزوجته بعد أن تزوجا في 2006 العيش في الناصرة، معتبرين ذلك "واجبهما الوطني" كفلسطينيين. غير أن الكثافة السكانية، ومشكلة السكن، وعدم وجود ملاعب وحدائق وغيرها من المساحات العامة قلصت معارضته للعيش في نتسيرت عيليت، وفي الأخير قررا الانتقال إلى هناك في 2014.[684]

بعض العوامل التي شجعت حداد على مغادرة المدينة التي أحبها مع أسرته الشابة تحمل بعض أوجه التشابه مع الضغوط التي تدفع سكان المدن في أوضاع أخرى إلى تركها، مثل ارتفاع تكاليف السكن، والازدحام، ونقص المساحات الخضراء. في حالة الناصرة، تعود بعض هذه الضغوطات إلى السياسات الإسرائيلية التمييزية بشأن الأراضي والميزانية.

قالت المديرة العامة لبلدية نتسيرت عيليت حافا بخار لـ هيومن رايتس ووتش في 2020 إنّ 26% من سكان المدينة اليوم فلسطينيون، الكثير منهم من الناصرة، وهو ما تفسره بأنّ "الناصرة والبلدات [الفلسطينية] المجاورة ليس لديها مساحة للنمو".[685] أشارت  بخار أن البلدية لن "تتنازل عن الأرض" لهذه البلدات، نظرا إلى "طموحنا في الوصول إلى 100 ألف ساكن"، واقترحت بدلا من ذلك أن تبني إسرائيل "مدينة جديدة للمواطنين العرب".[686] كما أشارت  أن المدينة بصدد "جلب عائلات يهودية للاستيطان" من أجل "ضمان بقائها يهودية".[687]

رغم انتقالهم إلى نتسيرت عيليت، فإن الكثير من أهل الناصرة ما تزال مدينتهم الأصلية هي مركز حياتهم. قال حداد إنه استمر في التسوق من الناصرة، بما يشمل البقالة، واصفا نتسيرت عيليت بـ "مكان غرفة النوم".[688] لا توجد في نتسيرت عيليت مدرسة حكومية لحوالي 3 آلاف طفل فلسطيني في سن المدرسة، وهو ما أجبر أغلب الأطفال الفلسطينيين، بمن فيهم ابن حداد، على التنقل ذهابا وإيابا إلى الناصرة، لأن الأطفال الفلسطينيين واليهود يرتادون مدارس مختلفة.[689] في 2013، قال رئيس بلدية نتسيرت عيليت حينها شمعون غابسو، الذي وصف الناصرة يوما بـ "عش الإرهاب"،[690] لـ "واشنطن بوست": "أفضّل أن أقطع ذراعي اليمنى على بناء مدرسة عربية".[691]

الخلاصة

تستخدم السلطات الإسرائيلية سلسلة من السياسات والممارسات لتمنح اليهود الإسرائيليين امتيازات وتقمع الفلسطينيين بشكل ممنهج. ترقى شدة القمع الذي يمارس في الأرض الفلسطينية المحتلة إلى "القمع المنهجي" من قبل جماعة عرقية بحق أخرى، وهو مكوِّن رئيسي لجريمة الفصل العنصري على النحو المنصوص عليه في كل من نظام روما الأساسي واتفاقية الفصل العنصري.[692]

 

5. الأفعال اللاإنسانية والانتهاكات الأخرى للحقوق الأساسية

عندما تُرتكب الانتهاكات الجسيمة أو "الأفعال اللاإنسانية"، على النحو الذي حددته اتفاقية الفصل العنصري ونظام روما الأساسي، في سياق قمع منهجي بقصد الحفاظ على نظام هيمنة، فهي ترقى إلى جريمة الفصل العنصري المرتكبة ضد الإنسانية. وعندما تُرتكب انتهاكات جسيمة للحقوق الأساسية بقصد تمييزي، فهي تشكل جريمة الاضطهاد المرتكبة ضدّ الإنسانية.

للحفاظ على هيمنة اليهود الإسرائيليين على الفلسطينيين، نفذت السلطات الإسرائيلية على مدى سنوات عدة مجموعة من الأفعال اللاإنسانية ضدّ الفلسطينيين، وارتكبت انتهاكات خطيرة لحقوقهم الأساسية.

في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ترقى العديد من هذه الانتهاكات إلى أفعال لاإنسانية، وهي إحدى العناصر الثلاثة لجريمة الفصل العنصري. تشمل الانتهاكات:

·      قيود شاملة على التنقل؛

·      مصادرة مئات آلاف الدونمات من أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، وحرمانهم من ممتلكاتهم وسُبل عيشهم، وبالتالي تطويقهم في جيوب محاصرة مكتظة حيث يعيش معظمهم؛

·      وفرض ظروف قاسية عليهم، تشمل الرفض شبه القطعي لتصاريح البناء في أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، ما أجبر الآلاف على هجر منازلهم في ظروف ترقى إلى النقل القسري؛

·      وحرمان مئات آلاف الفلسطينيين وأقاربهم من حقوق الإقامة بسبب تواجدهم بالخارج عند بداية الاحتلال في 1967، أو لغيابهم لفترات طويلة في عقود الاحتلال الأولى، أو بسبب التجميد الفعلي للمّ شمل الأسر على امتداد العقدين الماضيين؛ و

·      تعليق الحقوق المدنية الأساسية، مثل حرية التجمع وتكوين الجمعيات، ما حرم الملايين من فرصة إيصال صوتهم في مجموعة واسعة من المسائل التي تؤثر بشكل كبير على حياتهم اليومية ومستقبلهم.

بمعزل عن الأفعال اللاإنسانية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ارتكبت الحكومة الإسرائيلية انتهاكات ضدّ الفلسطينيين داخل إسرائيل، منها:

·      منعهم من الوصول إلى ملايين الدونمات من الأراضي التي صودرت منهم؛

·      تنفيذ سياسات تجعل من المستحيل عمليا على عشرات آلاف الفلسطينيين في منطقة النقب العيش بشكل قانوني في القرى والبلدات التي عاشوا فيها منذ عقود؛

·      منع أكثر من 700 ألف فلسطيني ممن فروا أو طردوا في 1948 وأبناءهم وأحفادهم من العودة إلى إسرائيل؛

·      فرض قيود على الإقامة بطرق تمنع الكثير من الأزواج الفلسطينيين وعائلاتهم من العيش معا في إسرائيل.

نفذت الحكومة الإسرائيلية هذه الأعمال وفقا لسياسات وممارسات طويلة الأمد، فأدت إلى تجريد

العديد من الفلسطينيين من ممتلكاتهم، ومنع البعض من الوصول إلى مناطقهم الأصلية ومنع آخرين من مغادرتها، وفصلت  العائلات قسرا، كما عاثت فسادا في آخرين كثر.

الأفعال اللاإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة

نفذت السلطات الإسرائيلية مجموعة واسعة من الأفعال اللاإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

القيود على التنقل

تفرض السلطات الإسرائيلية منذ أكثر من عقدين قيودا كاسحة على  أكثر من مليونَي فلسطيني الحق في مغادرة غزّة، وتقيد بشدة تنقل 2.7 مليون فلسطيني آخرين يعيشون في الضفة الغربية، داخل مناطقهم إلى خارجها.

إغلاق غزّة

على مدى الأعوام الـ25 الماضية، فرضت إسرائيل قيودا متزايدة على تنقل سكان غزّة. منذ 2007، وهو العام الذي استولت فيه حركة حماس فعليا على القطاع من السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، تفرض إسرائيل حظرا شاملاً على السفر، ودخول القطاع الصغير والخروج منه، باستثناء حالات قليلة. ومنذ 2007 أيضا، قيّد الجيش الإسرائيلي السفر عبر معبر إيرز الذي يمر منه المسافرون من غزة إلى مناطق أخرى في الأراضي المحتلة، الضفة الغربية، والعالم، وكذلك إسرائيل. كما جعلت إسرائيل العبور مقتصرا على "الظروف الإنسانية الاستثنائية"، ما يعني بشكل رئيسي المحتاجين إلى رعاية طبية أساسية خارج غزة ومرافقيهم، رغم أنّها تمنح كلّ سنة أيضا تصاريح للمئات من سكان غزة الذين تتوفر فيهم معايير أخرى، مثل كبار رجال الأعمال والتجار.[693] وفرضت إسرائيل قيودا حتى على الراغبين في السفر في إطار الاستثناءات القليلة ضمن سياسة الإغلاق.[694] أغلب سكان القطاع لا تنطبق عليهم هذه الاستثناءات. بحسب منظمة "ﭽيشاه–مسلك" الحقوقية الإسرائيلية، فإنّ معدّل خروج الفلسطينيين من قطاع غزة عبر معبر إيرز خلال سنوات الخمس من 2015 إلى 2019 بلغ 373 شخصا يوميا، أي أقل من 1.5 % من المعدل اليومي لسبتمبر/أيلول 2000، قبل الإغلاق، والذي كان يقدّر بـ26 ألف شخص.[695] مُعظم الفلسطينيين الذين نشأوا في ظلّ هذا الإغلاق لم يغادروا القطاع مطلقا.

تفرض السلطات الإسرائيلية أيضا منذ أكثر من عقدين قيودا مشددة على استخدام الفلسطينيين للمجال الجوي والمياه الإقليمية لغزّة. فقد منعت إعادة فتح مطار كان الفلسطينيون يديرونه هناك، وتشييد ميناء بحري، ما جعلهم يعتمدون فقط على السفر برّا للخروج من غزة.[696] في معظم السنوات الـ 15 الماضية، أبقت مصر معبرها مع غزة مغلقا، وهو المنفذ الآخر الوحيد لسكان غزة نحو العالم الخارجي، فساهمت بذلك في الإغلاق.

تقيّد إسرائيل جميع أنواع السفر بين غزة والضفة الغربية، رغم اعترافها بأنّ المنطقتين تُشكلان إقليما واحدا،[697] حتى عندما يكون السفر عبر الطريق المتعرجة نحو مصر والأردن وليس عبر الأراضي الإسرائيلية. يؤثر الإغلاق سلبا على العديد من جوانب الحياة اليومية، ويُساهم في انتهاكات أخرى لحقوق الفلسطينيين، منها الحق في لمّ شمل العائلة ، وحق الحصول على الرعاية الصحية، والتعليم، والفرص الاقتصادية.[698]

غالبا ما تبرّر السلطات الإسرائيلية إغلاق غزة بأسباب أمنية. قالت على وجه الخصوص إنها تريد تقليص السفر بين غزّة والضفة الغربية لمنع "نقل بنية تحتية إرهابية بشرية" من غزة إلى الضفة، التي تتقاسم مع إسرائيل حدودا غير محكمة الإغلاق، ويعيش فيها مئات آلاف المستوطنين الإسرائيليين.[699]

لكن بصفتها سلطة احتلال تمارس سيطرة كبيرة على جوانب الحياة في غزة، رغم سحب جنودها رسميا،[700] تقع على إسرائيل التزامات بموجب القانون الإنساني الدولي لضمان رفاه السكان هناك. كما أن للفلسطينيين بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان الحق في حرية التنقل، لا سيما ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو حق تستطيع إسرائيل تقييده فقط استجابةً لتهديدات أمنية ملموسة ومحددة. بفعل سياستها القائمة على حرمان الفلسطينيين تلقائيا من التنقل، مع استثناءات قليلة، استنادا إلى تهديدات أمنية معممة ودون تقييم فردي لهذه التهديدات، فإن إسرائيل لا توفق بأي شكل معقول بين المخاوف الأمنية والحق الإنساني في حرية التنقل. رغم أنّ إسرائيل لها مخاوف أمنية مشروعة تسمح لها بتنظيم الدخول إلى أراضيها، إلا أنّ ذلك لا يبرّر الانتهاك الجماعي للحقوق الذي يسببه منع السفر شبه الكامل، الذي يمسّ بأكثر من مليونَي فلسطيني يعيشون في مساحة ضئيلة.

نظام التصاريح في الضفة الغربية

فرضت السلطات الإسرائيلية أيضا قيودا منهِكة على حرية التنقل في الضفة الغربية، مبررة ذلك بـ"أسباب أمنية جوهرية" لأنّ "سكانا فلسطينيين من المنطقة نفذوا... مئات الهجمات الإرهابية القاتلة".[701] غير أن السياسات الإسرائيلية تحدّ من تنقّل جميع الفلسطينيين، وليس فقط الذين تعتبرهم السلطات تهديدا أمنيا. يشترط الجيش على حاملي بطاقات الهوية الفلسطينية، مع استثناءات قليلة، الحصول من الجيش الإسرائيلي على تصاريح  لمدة زمنية محددة لدخول أجزاء كبيرة من الضفة الغربيّة،[702] تشمل القدس الشرقية و"منطقة التماس" بين جدار الفصل والخط الأخضر التي تغطي أكثر من 184 ألف دونم،[703] والمناطق الخاضعة لسيطرة المستوطنات والجيش، بينما يُسمح للإسرائيليين والأجانب بالتنقل بحرية بين هذه المناطق، وكذلك دخول إسرائيل، بدون تصاريح. بحسب منظمة بتسيلم الحقوقية، فإنّ الحصول على هذه التصاريح يجعل الفلسطينيين في "مجابهة نظام بيروقراطي تعسفي ويفتقر إلى الشفافية"، ولا يمكنهم "معرفة احتمالات قبول أو رفض طلبهم ولا متى يتلقون ردا".[704] كما أكدت المنظمة أنّ "كثيرا من الطلبات تُرفض دون توضيح ودون توفر إمكانية حقيقية للاعتراض" وأنّه "يُمكن لإسرائيل، بعد أن تمنح تصريحا أن تسحبه بسهولة، وهذا أيضا ما تفعله دون أيّ توضيح". الكثير ممن تُرفض تصاريحهم لم يتعرضوا أبدا للاعتقال أو الإدانة لأسباب أمنية. [705] حالة الغموض هذه تثني الكثير من الفلسطينيين عن تقديم طلبات تصاريح أصلا.

فيما يخص السفر إلى الخارج، يتعيّن على فلسطينيي الضفة الغربية السفر عبر الأردن مرورا بمعبر اللنبي الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، ما لم يحصلوا على تصريح مغادرة صعب المنال يسمح لهم بالسفر من مطار بن غوريون قرب تل أبيب. غير أن السلطات الإسرائيلية تمنعهم أحيانا حتى من استخدام ذلك المعبر لأسباب أمنية غير محددة. [706] من 2015 إلى 2019، قدّمت منظمة "هموكيد" الحقوقية 797 اعتراضا على قرارات منع سفر إسرائيلية بحق فلسطينيين. [707]

رغم الهامش الواسع الذي تتمتع به الدول لتقييد الدخول عبر حدودها، فإنّ إسرائيل تقيّد كثيرا تنقل السكان الخاضعين للاحتلال ليس فقط عندما يسافرون بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى وإن كان العبور لا يمر بإسرائيل، وإنما أيضا عندما يتنقلون داخل الضفة الغربية نفسها. على سبيل المثال، وضعت السلطات الإسرائيلية حوالي 600 عائق دائم داخل الضفة الغربية، مثل الحواجز  وعقبات لإغلاق الطرق، بحسب أوتشا. [708]كما يواجه الفلسطينيون بانتظام حواجز  غير ثابتة، أو "طيارة"، في كل أرجاء الضفة الغربية، حيث قدرت أوتشا عدد هذه النقاط التي أنشأها الجيش الإسرائيلي بـ 1,500 من أبريل/نيسان 2019 إلى مارس/آذار 2020 فقط. [709] تمنع السلطات الإسرائيلية اعتياديا مرور الفلسطينيين أو تهينهم وتؤخرهم على الحواجز دون تبرير، فتعرقل تنقلهم إلى المدارس أو العمل أو المواعيد بجميع أنواعها. [710] كما أن جدار الفصل، الذي يقع 85 % منه داخل الضفة الغربية بدل الامتداد على طول الخط الأخضر، يزيد إعاقة الحركة داخل الضفة الغربية.[711]

منع السفر الشامل الذي تفرضه السلطات الإسرائيلية على غزة، والذي يمنع تلقائيا السكان من مغادرة القطاع، يرقى إلى مستوى الإجراء الذي يحرم الفلسطينيين من "الحق في مغادرة الوطن والعودة إليه"، وهو أحد الأفعال اللاإنسانية المذكورة في اتفاقية الفصل العنصري.[712] كما أنّ إغلاق غزة، وتقييد التنقل بشدّة ضمن الضفة الغربية وبينها وبين غزة، وكلاهما ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيهما انتهاك لحق الفلسطينيين في حرية التنقل، وهو أيضا مكفول في اتفاقية الفصل العنصري. [713] يُشكّل الإغلاق أيضا، من خلال القيود الشديدة المفروضة على دخول وخروج الأشخاص والسلع والخدمات،[714] "ظروفا تحول دون النماء التام" للمجتمع المحلي، وهو أيضا تحدده اتفاقية الفصل العنصري. [715]

مصادرة الأراضي وإنشاء جيوب محاصرة (الضفة الغربية والقدس الشرقية)

منذ 1967، استخدمت إسرائيل مجموعة من التبريرات الرسمية للاستحواذ على جزء كبير من أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية من أجل تلبية حاجيات المستوطنين اليهود. وجدت منظمتا بتسيلم و"كِرِم نابوت" أنّ السلطات الإسرائيلية صادرت أكثر من مليونَيْ دونم من الأراضي والتي تشكل أكثر من ثلث الضفة الغربية.[716] تسيطر سلطات المستوطنات فعليا على هذه الأراضي، بما فيها نحو 540 ألف دونم تقع رسميا تحت صلاحيتها.

في أغلب الأحيان، تستحوذ السلطات الإسرائيلية على الأراضي، بما فيها الأراضي الخاصة التي يملكها الفلسطينيون، وتعلنها "أراضي دولة".[717] تقدّر حركة السلام الآن الإسرائيلية أنّ الحكومة الإسرائيلية تستحوذ على حوالي 1.4 مليون دونم من الأراضي، أي حوالي ربع الضفة الغربية، كأراضي دولة. [718]

بموجب الممارسات والسياسات القضائية والعسكرية الإسرائيلية، فإن الأراضي التي لم تُسجل رسميا كملكية خاصة من قبل السلطات التي كانت تحكم الضفة الغربية قبل 1967 يُمكن إعلانها أراضي دولة. بعد أن احتل الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية في 1967، جمّد تسجيل الأراضي الذي كان يتمّ تحت إشراف أردني، ولم يُجر أي تسجيل منذئذ. أصحاب الأراضي الذين لم يسجلوا أراضيهم قبل 1967 يقع عليهم عبء إثبات ملكيتها في عملية طويلة ومكلفة تستوجب إظهار مستندات ضريبية، وجمع الشهادات من الجيران والمسؤولين المحليين، ودفع تكاليف مسح للأراضي بموافقة المحكمة.[719] في بعض الحالات، أعلنت السلطات بعض القطع أراض للدولة رغم أن أصحابها كانوا يدفعون سابقا ضرائب للسلطات الأردنية، وهو إثبات لملكيتها في ذلك الوقت. قضت محاكم إسرائيلية بقانونية الآلية التي تعتمدها الدولة لإعلان أراضي الدولة.[720]

حتى وإن كان إثبات الملكية ممكنا، فإنّ السلطات الإسرائيلية تفسّر القانون العثماني بطريقة تجعلها تستحوذ على الأرض دون دفع تعويض لأصحابها عندما تكون قادرة على الادعاء أنّ 50 % من قطعة الأرض على الأقل لم تتم زراعتها في السنوات الثلاث السابقة.[721] هذا التأويل سهّل الاستحواذ على ممتلكات "الغائبين"، أي الفلسطينيين الذين فرّوا أثناء حرب 1967 أو بعدها، وكذلك الفلسطينيين الذين بقوا في الضفة الغربية وفقدوا القدرة على الوصول إلى أراضيهم.[722] ابتداءً من 1979، بعد صدور حُكم من "المحكمة الإسرائيلية العليا" بتقييد سلطة الجيش في تسليم أراض للمستوطنات إثر مصادرتها لأسباب أمنية مزعومة وبعد أن كان الجيش يعترف بأنها بملكية خاصة للفلسطينيين،[723] أجرى الوصيّ العسكري الإسرائيلي مسحا متسرعا ومليئا بالأخطاء لممتلكات الحكومة بهدف تحديد الأراضي غير المزروعة التي تستطيع السلطات الإسرائيلية اعتبارها أراضي دولة.[724] واعتمادا على هذا المسح، صنّفت السلطات الإسرائيلية ما يلي كأراضي دولة: الأراضي غير المزروعة بشكل مكثف؛ والأراضي الصخرية التي بمعظمها غير صالحة للزراعة؛ والأراضي التي كان الفلسطينيون يحاولون إثبات ملكيتها بآليات غير رسمية في الضفة الغربية لكنهم لم يسجلوها في السجل الرسمي للأراضي.[725]

من خلال هذا الإجراء، صنّفت السلطات الإسرائيلية حوالي 788 ألف دونم من الأراضي كأراض للدولة، باستثناء القدس الشرقية، لكن باحتساب حوالي 100 ألف دونم تقع حاليا ضمن المنطقتين "أ" و"ب".[726] تتكوّن الـ600 ألف دونم المتبقية تقريبا من أراضي الدولة، بما فيها 70 ألف دونم تقع حاليا في المنطقتين "أ" و"ب"، في أراض سجلتها السلطات الأردنية أو البريطانية كأراض للدولة أثناء فترة حكم كل منهما للضفة الغربية التي احتلتها إسرائيل في 1967.[727]

أصدرت السلطات الإسرائيلية مئات أوامر الإخلاء ضدّ فلسطينيين زعمت أنّ "بحوزتهم أراض بشكل غير قانوني".[728] وجدت المنظمتان الحقوقيتان الإسرائيليتان كِرِم نابوت و"حقل"، بالاستناد إلى مراجعة أكثر من 600 أمر إخلاء صادر ضدّ فلسطينيين بين 2005 و2018، أن 41.5 % من الأراضي المشمولة بالأوامر لم تكن قد أعلنت رسميا كأراض للدولة من طرف السلطات من قبل.[729]

من أصل أكثر من 675 ألف دونم من أراضي الدولة التي منحتها السلطات الإسرائيلية رسميا لأطراف ثالثة في الضفة الغربية، خَصَّصت أكثر من 99 % منها لخدمة احتياجات المدنيين الإسرائيليين.[730]

بخلاف ما تعتبره إسرائيل أراض للدولة، صادرت السلطات الإسرائيلية عشرات آلاف الدونمات من الأراضي التي تعترف بأنها ملكية خاصة للفلسطينيين. في 2007، وجدت حركة السلام الآن، استنادا إلى بيانات زودتها بها الحكومة الإسرائيلية، أن أكثر من 30 % من الأراضي الواقعة داخل المستوطنات هي أراض خاصة يملكها فلسطينيون، بحسب سجلات الحكومة الإسرائيلية نفسها.[731] إضافة إلى ذلك، تقدّر منظمة كرم نابوت الحقوقية أنّ أكثر من 40 % من أصل 55 ألف دونم تقريبا من الأراضي الموجودة خارج نطاق بلديات المستوطنات، التي يستخدمها المستوطنون في النشاط الزراعي، توجد في أراض معترف بها على أنها أراض فلسطينية خاصة.[732]

اعتمدت السلطات الإسرائيلية على أداتين قانونيتين أساسيتين لتنفيذ مصادرة الممتلكات الفلسطينية الخاصة المعترف بها. أولا، صادرت السلطات الأراضي للاستخدام العام، وجردت أصحاب الأراضي الفلسطينيين بشكل دائم من حقوقهم فيها مقابل بعض التعويضات.[733] ثانيا، استولى الجيش الإسرائيلي، لا سيما خلال السنوات الـ 12 الأولى من احتلاله، على أراض  بملكية خاصة في الضفة الغربية لأغراض أمنية. أوامر الاستيلاء هذه لم تغير ملكية الأرض، لأنها بنيت على افتراض أن الاحتلال مؤقت. لكن بينما استمرت السلطات الإسرائيلية بتصنيف الأراضي المصادرة على أنها ملك لأصحابها الفلسطينيين، سلمتها لمدنيين إسرائيليين وقيدت بشدة قدرة أصحابها الفلسطينيين وورثتهم من الوصول إليها. بناءً على مراجعة لأكثر من 1000 أمر مصادرة، توصلت كرم نابوت إلى أنه بين 1967 و2014 صادرت السلطات الإسرائيلية لأسباب أمنية أكثر من 100 ألف دونم من الأراضي، معظمها ملكية خاصة لفلسطينيين، لبناء مستوطنات أو بنية تحتية معظمها مخصص لتلبية احتياجات المستوطنين.[734] حدثت معظم المصادرات قبل 1979، حين قيّدت المحكمة العليا الإسرائيلية سلطة الجيش في منح المستوطنات الأراضي التي تشكل ملكية خاصة واستولى عليها لأسباب أمنية.[735] لكن منذ ذلك القرار، مع استثناءات قليلة، لم تُعِد السلطات الأراضي التي استولت عليها وخصصتها للمستوطنات قبل قرار المحكمة إلى أصحابها الفلسطينيين.

إضافة إلى ذلك، شيّد مستوطنون مستوطنات دون أي إجراءات رسمية أو ترخيص من السلطات العسكرية الإسرائيلية، وهي موجودة في جزء كبير منها على ممتلكات فلسطينية خاصة. لكن بدل هدم البُنى التي أقامها المستوطنون على أراض مسروقة دون تصاريح، سهّلت السلطات – مع استثناءات قليلة – الاستيلاء على الأراضي من خلال توفير البنية التحتية، والماء، والكهرباء، والخدمات الأخرى.[736] تم بناء 150 من هذه البؤر الاستيطانية في جميع أنحاء الضفة الغربية منذ 1991، بحسب بتسيلم وكرم نابوت.[737] وثقت حركة السلام الآن إنشاء 60 بؤرة استيطانية منذ 2012 وحدها.[738] كما شرعت السلطات الإسرائيلية بأثر رجعي 15 بؤرة  استيطانية  بين 2012 ومطلع 2019،[739] بينما أشار ناتنياهو أنه ينوي ضمّ ودمج مثل هذه المواقع ضمن إسرائيل.[740]

في فبراير/شباط 2017، أصدر "الكنيست" قانونا يسمح للسلطات بأثر رجعي بمصادرة الأراضي الفلسطينية الخاصة التي بُنيت عليها مستوطنات. لكن في يونيو/حزيران 2020، أسقطته المحكمة العليا باعتباره غير دستوري،[741] وخلصت إلى أنه يمكن اعتماد "أساليب أقلّ ضررا" لتحقيق غايات مماثلة. ومنها أمر عسكري استشهد به المدعي العام في مذكرة موجهة إلى المحكمة تعترف بصلاحية الصفقات التي أُبرمت "بحسن نيّة" والتي كانت السلطات تعتقد فيها أن الأرض لم تكن بملكيّة فلسطينية خاصة وقت البيع.[742] بدأ المدعي العام أفيخاي ماندلبليت يستشهد بهذا الأمر في 2018 كأساس لتشريع البؤر الاستيطانية ،[743] وقدّر حينها أنّ هذه الآلية ستوفّر مسارا لتشريع 80 % من المناطق المتبقية داخل المستوطنات والتي لا تتمتع بوضع قانوني.[744]

تُظهر السجلات العسكرية قطع أرض أخرى باعها فلسطينيون لكيانات استيطانية إسرائيلية. لكن في العديد من الحالات، تستند ادعاءات المستوطنين بملكية الأراضي التي اشتروها إلى وثائق مشكوك فيها أو بائعين لا يحقّ لهم بيع الأرض المعنية، ما يؤدي إلى عمليات بيع احتيالية.[745] حتى في الحالات التي يحق فيها للفلسطينيين بيع أرض يملكونها إلى مستوطنة، قد تنطوي مثل هذه الصفقة على إكراه لأن السلطات الإسرائيلية منعت المالكين الفلسطينيين من استخدام أراضيهم جزئيا أو كليا قبل بيعها.

بحسب بتسيلم، صادرت السلطات الإسرائيلية من الفلسطينيين ثلث أراضي القدس الشرقية تقريبا، أي ما لا يقل عن 23,378 دونم، في أغلبها لبناء مستوطنات.[746] يستطيع أصحاب الأراضي المصادرة في القدس الشرقية، كما هو الحال في الضفة الغربية، المطالبة رسميا بتعويض، لكن الكثير من المالكين الفلسطينيين لا يسعون إلى ذلك حتى لا يشرّعوا المصادرة.[747]

بالإضافة إلى إعادة تصنيف الأراضي، استخدمت السلطات الإسرائيلية آليات أخرى للاستحواذ على الأراضي. أولا، أعلنت حوالي 1.765 مليون دونم، أي ثلث الضفة الغربية تقريبا، "مناطق عسكرية مغلقة"، حتى مارس/آذار 2015، بحسب أرقام حصلت عليها كرم نابوت.[748] أكثر من ثلثي المناطق العسكرية المغلقة، وهي فئة تشمل الأراضي المحددة على أنها أراضي دولة وتلك المعترف بها على أنها أراض فلسطينية خاصة، تقع خارج نطاق السلطة الرسمية لبلديات المستوطنات. وجدت كرم نابوت أنّ من بين أكثر من نصف الأرض في هذه المناطق العسكرية المغلقة ظاهريا لاستخدامها في التدريبات العسكرية، هناك 78 % لا تُستخدم فعليا للتدريبات.[749] ثانيا، أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر رسمية بعدم البناء، لا سيما على امتداد الطرقات وأجزاء من الجدار الفاصل، تطال أكثر من 488,600 دونم من أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، بحسب ما وثقت كرم نابوت.[750]

الاستيلاء على الأراضي والقيود جعلت حوالي 3 ملايين فلسطيني محاصرين في جيوب ذات كثافة سكانية عالية في الضفة الغربية. تمارس إسرائيل سيطرة كاملة على غالبية الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية والمنطقة "ج". أما في المنطقتين "أ" و"ب"، حيث يمارس الفلسطينيون درجة محدودة من الحكم الذاتي والتي تغطي حوالي الـ40 % المتبقية من الضفة الغربية، دون القدس الشرقية، فيتركّز وجود الفلسطينيين في "165 جزيرة تُشكل أقاليم مفصولة ومشلولة"، بحسب بتسيلم.[751]

المصادرة الجماعية للأراضي الفلسطينية والقيود التي تمنع الفلسطينيين من استعادة ما استولت عليه السلطات منهم أو استخدام أراضيهم ترقى إلى العمل اللاإنساني المتمثل في "مصادرة ملكية الأراضي" بموجب اتفاقية الفصل العنصري.[752] يشكل حشر الفلسطينيين في جيوب محاصرة مكتظة بالسكان إجراءات "تهدف إلى تقسيم السكان وفق معايير عنصرية بخلق محتجزات ومعازل مفصولة لأعضاء فئة أو فئات" عرقية.[753]

أنشأت السلطات الإسرائيلية جدار الفصل حول مدينة قلقيلية الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة عام 2003، مما أدى إلى تقييد حركة سكانها وقدرتهم على الوصول إلى نصف أراضيهم الزراعية الواقعة على الجانب الآخر من الجدار. صورة التقطها القمر الصناعي "لاندسات-5"، "هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية". 2021

النقل القسري والحق في الإقامة (المنطقة "ج" بالضفة الغربية والقدس الشرقية)

 جعلت السلطات الإسرائيلية  إمكانية حصول  الفلسطينيين على تصاريح بناء في القدس الشرقية و60 % من الضفة الغربية الخاضعة لسيطرتها المطلقة (المنطقة ج) أمرا شبه مستحيل، ما أجبر فعليا الفلسطينيين من هم بحاجة إلى مسكن أو مساحة لإنشاء منشآت تجارية على مغادرة هذه المناطق أو البناء ومواجهة خطر هدم  مبانيهم "غير المرخصة".[754] يعيش أكثر من 371 ألف فلسطيني في القدس الشرقية،[755] وما يُقدّر بـ 300 ألف في المنطقة "ج".[756] تمارس إسرائيل سيطرة كاملة على إجراءات التخطيط والبناء في هذه المناطق وتمنع فعليا البناء خارج المناطق المبنية أصلا، التي تشكل أقل من 1 % من المنطقة "ج" و15 % من القدس الشرقية (8.5 % من بلدية القدس)، وهي في الغالب مكتظة أصلا بالسكان،[757] من أجل تشديد سيطرة اليهود على الأراضي، كما هو موثق في أقسام سابقة في هذا التقرير.[758]

ترفض السلطات الإسرائيلية الغالبية العظمى من الطلبات التي يقدّمها الفلسطينيون لتحسين أو بناء المنازل، والمدارس، والعيادات الصحية، وخزانات المياه، وحظائر الحيوانات، وغيرها من المنشآت. بحسب بيانات حصلت عليها منظمة "بمكوم" من الإدارة المدنية الإسرائيلية، وافقت السلطات في الفترة من 2016 إلى 2018 على أقل من 1.5 % من طلبات البناء الفلسطينية في المنطقة "ج" – 21 طلبا في الإجمال – بينما أصدرت 2,147 قرار هدم.[759] بعبارة أخرى، تجاوزت قرارات الهدم مئة ضعف تصاريح البناء في هذه الفترة. منذ سنة 2000، وافقت السلطات على أقلّ من 4 % من جميع طلبات البناء في المنطقة "ج"،[760] فلم يعد العديد من الفلسطينيين يتكلفون حتى عناء تقديم الطلبات.[761] بالتوازي مع ذلك، وافقت السلطات من 2000 إلى 2018 على أقل من 400 تصريح بناء لفلسطينيي القدس الشرقية كمعدل سنوي.[762]

هدمت السلطات الإسرائيلية آلاف الممتلكات الفلسطينية لأنها بدون تراخيص. كما هدمت منزل فلسطينيين كعقاب للمتهمين بمهاجمة إسرائيليين وكعقاب جماعي لعائلاتهم.[763] بحسب أوتشا، هدمت السلطات الإسرائيلية، من 2009 إلى 2020، 7,118 مبنى في القدس الشرقية والمنطقة "ج"، فهجّرت 10,493 شخصا.[764] وثقت بتسيلم أن السلطات الإسرائيلية هدمت بالكامل في نفس الفترة 2,319 منزلا في كل أنحاء الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، لأنها بدون تصاريح، متسببة في تهجير 9,053 شخصا.[765] لم تعرض إسرائيل خيارات إعادة توطين أو تعويض على العائلات التي هدمت منازلها. كما هدمت السلطات الإسرائيلية 84 منزلا كإجراء عقابي خلال هذه الفترة، وهي أفعال تركت 345 شخصا دون مأوى، بحسب بتسيلم.[766] يحظر القانون الإنساني الدولي على سلطة الاحتلال هدم الممتلكات ما لم يكن ذلك "ضروريا للغاية" من أجل "العمليات العسكرية"، كما يحظر جميع الأعمال التي تشكّل عقابا جماعيا.[767]

هذه السياسات القسرية تؤثر على الكثير من الفلسطينيين الذين يعيشون في هذه المناطق، والذين يواجهون أوامر الهدم واحتمال أن تجرف السلطات منازلهم في أي لحظة. بحسب بيانات للحكومة الإسرائيلية حصلت عليها بمكوم، نفذت الحكومة الإسرائيلية حوالي 21 % من أكثر من 18,600 أمر هدم أصدرته في الضفة الغربية، دون القدس الشرقية، بين 1995 ومارس/آذار 2020.[768] حتى أبريل/نيسان 2021، قالت الأمم المتحدة إنّ 46 تجمعا بدويا فلسطينيا في الضفة الغربية تواجه "خطر الترحيل القسري بسبب خطة أخرى 'لإعادة التوطين' اقترحتها السلطات الإسرائيلية".[769]

تخلق هذه السياسات بيئة قسرية تضغط على الفلسطينيين لمغادرة القدس الشرقية والمنطقة "ج". فهي تصعّب بقاءهم كثيرا، وتدفعهم إلى ترك منازلهم وسبل عيشهم والانتقال غالبا إلى بلدات أو مدن تابعة للسلطة الفلسطينية إداريا ومدنيا. رغم أنّ الفلسطينيين يشكلون 90 % من سكان غور الأردن، إلا أن حركة السلام الآن قدّرت أن إسرائيل تمنعهم فعليا من البناء على حوالي 90 % من أراضي المنطقة.[770] بحسب أوتشا، هدمت إسرائيل، بين 1 ديسمبر/كانون الأول 2009 و31 ديسمبر/كانون الأول 2019، 2,601 مبنى فلسطينيا في غور الأردن لعدم حصولها على تصاريح، فهجّرت 3,716 شخصا، وأثرت على 23,464 آخرين.[771] قبل 1967، كان هناك أكثر من 250 ألف فلسطيني يعيشون في غور الأردن.[772] فرّ ما يتراوح بين 50 ألفا و200 ألف منهم إلى الأردن في حرب 1967.[773] اليوم، يتراوح عدد السكان بين 60 ألفا و80 ألفا.[774]

أثّرت السياسات بشكل خاص على قرى وبلدات الفلسطينيين في غور الأردن، ومحيط القدس، وفي جنوب تلال الخليل.[775] في الكثير من هذه المناطق، منعت السلطات السكان، بمن فيهم البدو والرعاة، من الوصول إلى الطرقات والأراضي الزراعية، ولم توفر لهم الكهرباء والصرف الصحي والمرافق الأخرى، ورفضت طلباتهم للحصول على هذه الخدمات. الكثير من هذه القرى والبلدات تفتقر أيضا إلى مصادر مياه موثوقة، وتضطر إلى إنفاق ما يصل إلى سدس مدخولها لشراء الماء من صهاريج صغيرة محمولة. هذه القيود كثيرا ما تجبر الأطفال على السير مسافات طويلة للوصول إلى المدارس، وتقيّد حصول السكان على الرعاية الصحية.[776]

إضافة إلى ذلك، رحّلت إسرائيل بشكل مباشر أكثر من 1,500 فلسطيني من الأراضي المحتلة، أغلبهم قبل 1993، وسُمح لبعضهم فقط بالعودة.[777]

سياسات إسرائيل القسرية في القدس الشرقية والمنطقة "ج" من القدس الغربية ترقى إلى النقل القسري المتعمد للمدنيين داخل الأراضي المحتلة، الذي تم تعريفه كـ"نقل الأفراد تحت الإكراه من مكان إقامتهم إلى مكان آخر ليس من اختيارهم"،[778] وهو انتهاك خطير لقوانين الحرب. ينصّ نظام روما الأساسي على أنّ النقل القسري قد يحصل "على نحو مباشر أو غير مباشر"، من خلال الظروف القسرية والقوة المباشرة.[779] يعتبر نظام روما الأساسي النقل القسري، عندما يُنفذ بشكل منهجي  على نطاق واسع كسياسة دولة، جريمةً ضدّ الإنسانية وأحد الأفعال اللاإنسانية التي تشكل جريمة الفصل العنصري.[780] السياسات الإسرائيلية في هذه المناطق التي أجبرت الآلاف على مغادرة منازلهم وجعلت عشرات الآلاف الآخرين في خطر، ترقى إلى الترحيل القسري بموجب نظام روما الأساسي. هذه السياسات القائمة على منع تصاريح بناء المنازل، والمدارس، والعيادات الصحية، والبنية التحتية، وهدم المنازل والمجتمعات المحلية بأكملها، تخنق هذه المناطق وتُعتبر "خلق ظروف تحول دون النماء التام" لهذه المجتمعات.[781]

الحرمان من الإقامة والجنسية

حرمت السلطات الإسرائيلية ملايين الفلسطينيين من حق الإقامة والجنسية من خلال سيطرتها على كل من سجلات السكان، ومنح المكانة القانونية وحقوق الإقامة، ودخول إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة والخروج منها.

الضفة الغربية وغزة

منعت السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالإقامة مئات آلاف الفلسطينيين من العيش في الضفة الغربية وغزة، والسفر منهما وإليهما بشكل تعسفي. القيود الإسرائيلية على الإقامة شتّت العائلات، وتمنع الآلاف من العودة إلى ديارهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحبس آخرين في ديارهم أو في أجزاء معينة من الأراضي المحتلة، وتحرم آخرين من متابعة الفرص التعليمية والاقتصادية.[782]

فعلت السلطات الإسرائيلية ذلك بشكل رئيسي من خلال سيطرتها المستمرة على سجلّ السكان – قائمة الفلسطينيين الذين تعتبرهم مقيمين شرعيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. تشترط إسرائيل على الفلسطينيين أن يكونوا مُدرجين في سجلّ السكان حتى يحصلوا على بطاقات هوية وجوازات سفر صادرة عن إسرائيل، تسمح لهم بالإقامة والعمل ووراثة الممتلكات، لكن دون أن تمنحهم الجنسية أو المواطنة. تجبر قوات الأمن الإسرائيلية التي تدير الحواجز  والحدود الفلسطينيين على إظهار بطاقات هوية قبل أن تسمح لهم بمواصلة الطريق داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما يشمل التنقل إلى المدارس والعمل والمستشفيات، أو لزيارة العائلات.[783] كما تجبر السلطات المصرية الفلسطينيين على إظهار بطاقة هوية أو جواز سفر للدخول أو الخروج من خلال معبر رفح.[784]

تستند السلطات الإسرائيلية في سجلّ الإحصاء إلى تعداد أجرته في الضفة الغربية وغزة في سبتمبر/أيلول 1967، بعد أشهر عدة من احتلالها المنطقتين. أحصى التعداد 954,898 فلسطينيا كانوا موجودين فعليا،[785] لكنه لم يشمل ما لا يقل عن 270 ألف فلسطيني آخرين كانوا يعيشون هناك قبل 1967 وكانوا غائبين أثناء الإحصاء، سواء لأنهم فرّوا أثناء حرب 1967 أو كانوا في الخارج للدراسة، أو العمل، أو لأسباب أخرى.[786] لم تُدرج السلطات الإسرائيلية هؤلاء في سجلّ السكان، وفرضت عليهم الحصول على تصاريح زيارة للعودة إلى ديارهم، ومنعت الكثيرين منهم من الدخول، بمن فيهم جميع الرجال بين 16 و60 عاما، أثناء سنوات الاحتلال الأولى.[787] كما وضعت السلطات الإسرائيلية عمليّة لمّ شمل تشوبها قيود، بقيت سارية حتى العام 2000، استندت إلى حصص سنوية صغيرة وخاضعة لمعايير تعسفية ومتغيرة لم تأخذ بعين الاعتبار الروابط العائلية أو التاريخية الحقيقية.[788]

بين 1967 و1994، شطبت السلطات الإسرائيلية من سجلّ السكان آلاف الفلسطينيين الذين سافروا أو بقوا في الخارج طويلا. بحسب بيانات من "وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق"، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية التي تدير الضفة الغربية، ألغت السلطات بشكل دائم من السجل 140 ألف فلسطيني مسجلين لمجرد أنهم غادروا الضفة الغربية لفترة تجاوزت ثلاث سنوات. وفي نفس الفترة، سحبت السلطات الإقامة من 108,878 فلسطينيا من غزة، إما لأنهم بقوا في الخارج لأكثر من سبع سنوات أو لأنهم كانوا غائبين أثناء التعدادَيْن اللذين أجرتهما في 1981 و1988.[789] قدّر مسح أجري في 2005 بالنيابة عن بتسيلم أنّ أكثر من 640 ألف فلسطيني في الضفة الغربية لهم أب أو أم أو أشقاء أو أبناء أو زوج(ة) غير مسجلين، رغم أنّ 78.4% منهم قدّموا مطالب لمّ شمل لم يكن قد نُظِر فيها بعد.[790]

بعد إنشاء السلطة الفلسطينية بوقت قصير، بدأت تتولى الأخيرة طلبات تحديث السجل السكاني أو الحصول على إقامة في 1995، لكن دورها اقتصر على نقل هذه الطلبات إلى الجانب الإسرائيلي للموافقة.[791] منذ سنة 2000، رفضت السلطات الإسرائيلية في معظم الحالات تحديث سجل السكان أو النظر في طلبات الإقامة الخاصة بالفلسطينيين غير المسجلين وأزواجهم وأقاربهم، حتى وإن كانوا قد عاشوا في الضفة الغربية أو غزة لسنوات ولهم عائلات أو منازل أو أعمال أو روابط أخرى هناك.[792] كما جمّدت إسرائيل بالكامل عمليات "لمّ شمل العائلة"، التي يسعى الفلسطينيون من خلالها إلى الحصول على وضع قانوني للالتحاق بأقارب مباشرين أو أزواج غير مدرجين في سجلّ السكان.[793] استشهدت السلطات الفلسطينية بالوضع الأمني بعد اندلاع الانتفاضة لتبرير التجميد،[794] لكنها لم تشرح ما هي الضرورة الأمنية لرفضها الشامل النظر في أي طلبات جديدة. إذ ترفض ببساطة دراسة أي طلبات دون تفسير ودون مراجعة ما إذا كان الشخص المعني يمثل تهديدا أمنيا.

ظلّ التجميد ساريا منذ سنة 2000، باستثناء حوالي 35 ألف طلب لم شمل العائلة  تمت دراستها في أواخر سنة 2000 كـ"لفتة سياسية" تجاه السلطة الفلسطينية.[795] قدّرت وزارة الشؤون المدنية التابعة للسلطة الفلسطينية عدد طلبات لم الشمل  التي نقلتها بين سبتمبر/أيلول 2000 وأغسطس/آب 2005 فقط بـ120 ألف، لكن السلطات الإسرائيلية لم تنظر فيها.[796] في 2019، إثر اعتراض قدّمته منظمة "هموكيد" الحقوقية الإسرائيلية، اختارت المحكمة الإسرائيلية العليا عدم إلزام الجيش بإنهاء التجميد.[797] هذا التجميد المستمر لعقدين من الزمن يعني أنّ السلطات الإسرائيلية توقفت عن تسجيل أغلب الفئات، باستثناء الأطفال المولودين في الضفة الغربية أو غزة، على أن يكون أحد والديهم على الأقل فلسطينيا مسجلا.

كما منعت السلطات الإسرائيلية بشكل ممنهج الفلسطينيين غير المسجلين الذين كانوا يعيشون وقت التسجيل أو قبله في الضفة الغربية، وأزواجهم وأقاربهم الآخرين غير المسجلين، من دخول إسرائيل والضفة الغربية على امتداد العقدين الأخيرين.[798]

رفضُ إسرائيل تحديث السجل السكاني يسري على طلبات تغيير العناوين أيضا، ما جعل بقاء الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية ولكن مسجلين في غزة غير قانوني.[799] أغلب هؤلاء دخلوا إلى الضفة الغربية بتصاريح مؤقتة انتهت صلاحيتها منذ وقت طويل. في 2010، قدّر الجيش الإسرائيلي عدد فلسطينيي غزة الذين يعيشون في الضفة الغربية في ذلك الوقت بتصاريح منتهية الصلاحية بحوالي 35 ألف شخص.[800] يعتبر القانون الإسرائيلي الفلسطينيين حاملي التصاريح منتهية "متسللين"،[801] وأعادت السلطات العشرات منهم إلى غزّة.[802] أما الذين يبقون، فلا يستطيعون التنقل بحرية في الضفة الغربية، ويخشون تعرضهم للاعتقال عند الحواجز والإعادة القسرية إلى غزة، وكثيرا ما يواجهون صعوبات في التسجيل في المدارس أو الجامعات، أو ممارسة الأعمال التجارية أو امتلاك عقارات.

سياسات إسرائيل التي تحرم الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة من القدرة على العيش في مناطقهم أو السفر إليها تمنع عنهم "الحق في حرية التنقل والإقامة"، وهو أحد الأفعال اللاإنسانية المنصوص عليها في اتفاقية الفصل العنصري.

القدس الشرقية

حرمت السياسات الإسرائيلية أيضا آلاف الفلسطينيين في القدس الشرقية من حقوق الإقامة، فجعلت الكثير منهم دون جنسية. منذ ضمّها القدس الشرقية في 1967، طبقت إسرائيل "قانون دخول إسرائيل" لسنة 1952 على الفلسطينيين وصنّفتهم كـ"مقيمين دائمين"، وهو نفس الوضع الذي يُمنح للأجانب الذين يرغبون في العيش في إسرائيل. يستطيع المقيمون الدائمون العيش والعمل والحصول على فوائد  في إسرائيل، لكنّ وضعهم هذا مُستمدّ من تواجدهم هناك، وقد يُسحب منهم بناء على ما تقرره وزارة الداخلية، ولا يُمرَّر تلقائيا إلى الأبناء أو الأزواج غير المقيمين حتى وإن عاشوا في القدس لسنوات.[803] يوجد مسار يمكّن الفلسطينيين المقدسيّين الذين لديهم إقامة دائمة من الحصول على المواطنة، لكنّ الغالبية العظمى منهم اختاروا عدم اتباعه لأنه ينطوي على الاعتراف بإسرائيل، السلطة المحتلة، على أنها ذات سيادة شرعية. الغالبية العظمى ممن تقدموا بطلبات لم يحصلوا على المواطنة. رفضت السلطات العديد من المتقدمين لأنهم لم يتمكنوا من إثبات أن إسرائيل، وليس الضفة الغربية، كانت "مركز حياتهم"، أو لأنه كان لديهم سجل إجرامي، أو لم يتقنوا العبرية بما يكفي أو "ينقصهم الولاء [لإسرائيل]"، بينما لم يتلق الآخرون ردا على طلباتهم.[804]

بين بداية احتلال إسرائيل للقدس الشرقية في 1967 ونهاية 2019، ألغت إسرائيل الإقامة الدائمة لما لا يقل عن 114,701 فلسطيني من القدس الشرقية.[805] برّرت السلطات معظم قرارات الإلغاء هذه بعدم إثبات وجود "مركز حياة" في القدس، مستهدفة من قالت إنهم كانوا يعيشون في أجزاء أخرى من الأراضي الفلسطينية المحتلة خارج الحدود البلدية للقدس الشرقية أو الذين كانوا يدرسون أو يعيشون في الخارج لفترات مطولة. كما فقد آخرون إقامتهم بعد أن حصلوا على إقامة دائمة أو جنسية في بلد آخر. غير أن عدد قرارات الإلغاء تراجع منذ 2015 عندما صرّح وزير الداخلية بأن الوزارة ستعتمد "نهجا أكثر ليونة" من شأنه أن يحفظ إقامة فلسطينيي القدس الذين "يحافظون على صلة" بالمدينة.[806] لكن السلطات ألغت في السنوات الأخيرة الإقامة لمعاقبة الفلسطينيين المتهمين بمهاجمة إسرائيليين، ما شكل عقابا جماعيا ضدّ أقاربهم.[807]

غالبا ما يكون لكل قرار إلغاء تأثير أوسع بكثير لأنّ الذين يفقدون الإقامة كثيرا ما يصطحبون عائلاتهم معهم عند مغادرة المدينة، بينما يضطر الباقون إلى التأقلم للحفاظ على وضعهم غير المستقر. قال فلسطينيون من القدس الشرقية لـ هيومن رايتس ووتش إن الخوف من فقدان الإقامة له تأثير على حياتهم اليومية، فهو الذي يحدد مكان إقامة العائلة ويمنعهم من متابعة الفرص التعليمية والمهنية في الخارج.[808] قرارات الإلغاء هذه تدفع الفلسطينيين إلى مغادرة مدينتهم الأصلية، ولذلك فهي ترقى إلى النقل القسري.[809]

يسمح القانون الإسرائيلي باعتقال وإبعاد الأشخاص الذين ليس لديهم إقامة. دون هذه الإقامة، لا يستطيع الفلسطينيون العمل بشكل رسمي أو التنقل بحرية أو تجديد رخص القيادة أو الحصول على شهادات ميلاد لأطفالهم، وهي ضرورية لتسجيلهم في المدارس. وقد يفقدون أيضا فوائد يوفرها نظام التأمين الوطني الإسرائيلي، الذي يقدّم خدمات الرعاية الاجتماعية، مثل الرعاية الصحية، وإعانات البطالة، ومدفوعات دعم الأطفال والمسنين والأشخاص ذوي الإعاقة. يستطيع كل من فقد إقامته مطالبة وزارة الداخلية باسترجاعها، فيحصل حينها على مكانة قانونية مؤقتة للبقاء في القدس. رغم أنّ بعض الفلسطينيين نجحوا في استرجاع إقامتهم، إلا أنّ ذلك تطلب إجراءات قانونية وإدارية مطوّلة لا يستطيع الكثيرون تحمل كلفتها.[810]

في قرار أصدرته في مارس/آذار 2017، قضت المحكمة العليا بأنّ فلسطينيي القدس الشرقية يتمتعون "بوضع خاص" بصفتهم "مقيمين أصليين"، وعلى السلطات أخذ ذلك في الاعتبار عند تحديد وضعهم.[811] غير أنّ السياسة الإسرائيلية ما زالت لا تُطبِّق ذلك على أرض الواقع.

التعليق الجماعي للحقوق المدنية (الضفة الغربية وغزة)

حرمت السلطات الإسرائيلية أجيالا من الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة من حقوقهم المدنية الأساسية، بما فيها حقوقهم في التجمع السلمي، وتكوين الجمعيات، والتعبير. استهدفت السلطات الفلسطينيين خاصة بسبب التعبير المناهض للاحتلال، ونشاطهم وانتماءاتهم، وسجنت الآلاف منهم، وحظرت مئات المنظمات السياسية وغير الحكومية، وأغلقت عشرات الوسائل الإعلامية.[812]

في الضفة الغربية، يواصل الجيش الاعتماد على الأوامر العسكرية الجائرة الصادرة في الأيام الأولى للاحتلال لتجريم النشاط السياسي غير العنيف. على سبيل المثال، تواصل السلطات تطبيق لوائح من فترة الانتداب البريطاني تسمح لها بإعلان عدم شرعية المجموعات التي تدافع عن "كره أو ازدراء... أو التحريض على عدم الولاء" للسلطات المحلية، واعتقال الفلسطينيين بسبب الانتماء إلى هذه المجموعات.[813] حتى مارس/آذار 2020، كانت وزارة الدفاع الإسرائيلية ما تزال تفرض حظرا رسميا على 430 منظمة، منها "منظمة التحرير الفلسطينية" التي وّقعت إسرائيل معها اتفاقية سلام، وحركة فتح الحاكمة التي تنتمي إلى المنظمة، وكل الأحزاب السياسية الفلسطينية الرئيسية الأخرى.[814] كما لاحق الجيش 1,704 فلسطينيين في الضفة الغربية بتهمة "العضوية والنشاط في جمعية غير مشروعة" بين 1 يوليو/تموز 2014 و30 يونيو/حزيران 2019، بحسب بيانات قدّمها الجيش إلى هيومن رايتس ووتش.[815]

كما يستخدم الجيش بانتظام أوامر عسكرية تسمح له بمنع الاحتجاجات غير المرخص لها أو إنشاء مناطق عسكرية مغلقة لقمع المظاهرات السلمية الفلسطينية في الضفة الغربية واعتقال المشاركين فيها.[816] على سبيل المثال، يفرض أحد الأوامر العسكرية عقوبات بالسجن تصل إلى عشر سنوات على المدنيين المدانين من قبل محاكم عسكرية بالمشاركة في تجمهر لأكثر من عشرة أشخاص دون ترخيص عسكري بشان أي موضوع "يُمكن تفسيره كسياسي" أو إظهار "أعلام أو رموز سياسية" دون إذن عسكري.[817] قال الجيش الإسرائيلي إنه لاحق 4,590 فلسطيني من الضفة الغربية خلال السنوات الممتدة من 1 يوليو/تموز 2014 إلى 30 يونيو/حزيران 2019 بتهمة دخول "منطقة عسكرية مغلقة"،[818] وهو تصنيف غالبا ما يُطلق على مواقع الاحتجاجات.

كما يستشهد الجيش كذلك بالتعريف الفضفاض للتحريض في قوانينه العسكرية، والذي يشمل "نشر أقوال مدح، مناصرة، أو دعم لمنظمة معادية" ومن "يحاول، شفويا أو بأية طريقة أخرى، التأثير على رأي الجمهور في المنطقة بشكل يمسّ سلامة الجمهور أو النظام العام"، لتجريم كل خطاب معارض للاحتلال.[819] اعترف الجيش بمحاكمة 358 فلسطينيا في الضفة الغربية بتهمة "التحريض" بين منتصف 2014 ومنتصف 2019.[820]

رغم أنّ قانون الاحتلال يسمح لسلطات الاحتلال بتقييد بعض الحقوق المدنية والسياسية بناءً على تبريرات أمنية، إلا أنّ التعليق الجماعي لحقوق الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة لعقود من الزمن، ودون نهاية قريبة في الأفق، يرقى إلى اتخاذ تدابير "يُقصد بها منع... المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية" وخلق "ظروف تحول دون النماء التام لهذه الفئة" من خلال حرمانها من حقوقها في حرية التعبير، والتجمع السلمي، وتكوين الجمعيات، المبيّنة على وجه التحديد في اتفاقية الفصل العنصري.[821] عندما تؤدي القيود الشاملة إلى اعتقالات غير مشروعة، فإنها تشكّل أيضا حرمانا من الحق في الحرية من خلال "توقيف [الأشخاص] وسجنهم بصورة لا قانونية" بموجب اتفاقية الفصل العنصري.

انتهاكات أخرى في إسرائيل

بمعزل عن الأفعال اللاإنسانية الأخرى المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ارتكبت الحكومة الإسرائيلية انتهاكات أخرى ضد الفلسطينيين ضمن حدودها القائمة ما قبل 1967.

مصادرة الأراضي والقيود عليها

منذ 1948 وفي العقود اللاحقة، انتزعت السلطات الإسرائيلية عدة ملايين دونمات من الأراضي من الفلسطينيين داخل إسرائيل. وقعت العديد من أخطر الانتهاكات المذكورة في هذا القسم بين 1948 و1966، وشملت مصادرة واسعة للأراضي من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. رغم أنّ محنة الفلسطينيين في إسرائيل تحسّنت عموما منذ رفع القوانين العرفية التي كانت قد فرضتها عليهم السلطات الإسرائيلية طيلة الأعوام الـ17 الأولى من تاريخ البلاد، إلا أنّ هذه الانتهاكات مستمرة حتى اليوم، حيث أنّ العديد من الضحايا ما زالوا لا يستطيعون استرجاع ممتلكاتهم التي استولت عليها السلطات، أو العودة إلى القرى التي أتوا منها، أو الحصول على تعويضات لقاء خسائرهم.

ليس هناك رقم دقيق عن حجم الأراضي المصادرة من الفلسطينيين في إسرائيل، وأحد أسباب ذلك هو اختلاف أشكال ملكية الأراضي بموجب القانون العثماني، وعدم تسجيل جزء كبير منها رسميا في سجل الأراضي قبل 1948.[822] غير أن أبرز المؤرخين لتلك الفترة يقدّرون إلى حد كبير حجم أراضي الفلسطينيين التي صادرتها السلطات الإسرائيلية بـ4.5 مليون دونم على الأقل، أي بين 65 و75 % من كامل الأراضي التي كان يملكها فلسطينيون قبل 1948، منها 40 و60 % من أراضي الفلسطينيين الذين بقوا وأصبحوا مواطنين إسرائيليين.[823] كما يقدّر بعض المؤرخين أنّ 350 من أصل 370 بلدة وقرية يهودية أنشأتها الحكومة الإسرائيلية بين 1948 و1953 بُنيت على أراض صودرت من الفلسطينيين.[824] معظم المصادرات تمت بين 1949 و1966. خلال هذه السنوات، أخضعت إسرائيل أغلب الفلسطينيين في إسرائيل للحكم العسكري، وحاصرتهم في عشرات الجيوب، وقيّدت حركتهم بشدّة. أفادت صحيفة "هآرتس"، بناءً على وثائق حكومية رُفعت عنها السرية، أن المسؤولين الإسرائيليين رفعوا الحكم العسكري في 1966 بعد أن تأكدوا من أن المهجّرين الفلسطينيين "لا يستطيعون العودة إلى القرى التي فروا أو طردوا منها".[825]

استخدمت السلطات الإسرائيلية بشكل أساسي آليتين للاستحواذ على أراضي الفلسطينيين في إسرائيل. أولا، اعتمد "الكنيست" في 1950 "قانون أملاك الغائبين"، بناءً على أنظمة الطوارئ التي صدرت في ديسمبر/كانون الأول 1948 للسماح بمصادرة الأراضي، وهو ما مكّن الدولة من مصادرة أراضي ومنازل الفلسطينيين الذين كانوا غائبين عن ممتلكاتهم في 1947 و1948 وسط القتال أثناء الأحداث التي رافقت قيام إسرائيل، والذين فرّوا أو طُردوا إلى واحدة من عدة دول عربية مجاورة أو قريبة، أو إلى "أي جزء من فلسطين خارج مناطق إسرائيل"، بما في ذلك الأماكن الموجودة "في فلسطين والتي كانت في ذلك الوقت تحت سيطرة القوات التي سعت إلى منع تأسيس دولة إسرائيل أو التي حاربتها بعد تأسيسها".[826] طبقت السلطات الإسرائيلية هذا القانون للاستيلاء على معظم الأراضي التي يملكها مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين أقاموا خارج إسرائيل، وكذلك أراضي الفلسطينيين الذين نزحوا بسبب أحداث 1947 و1948. وضعت السلطات الإسرائيلية هذه الأراضي تحت تصرف "الوصيّ على أملاك الغائبين"، وحولتها في نهاية المطاف إلى أراض للدولة، وخصصتها بشكل حصري تقريبا لبناء تجمعات يهودية جديدة.[827] كما استخدمت السلطات الإسرائيلية قانون أملاك الغائبين للسيطرة على أراض يملكها فلسطينيون في القدس الشرقية المحتلة.[828]

ثانيا، أعلنت الحكومة الإسرائيلية العديد من البلدات والقرى الفلسطينية، وخاصة الموجودة خارج الجيوب المحاصرة التي عاش فيها الفلسطينيون أثناء فترة الحكم العسكري، "مناطق مغلقة". ثمّ اعتمدت عام 1953 "قانون حيازة الأراضي"، الذي اعتمد على إجراءات طوارئ سابقة وسمح للدولة بالاستيلاء على الأراضي غير المزروعة منذ 1948. كما سمح لها بالاستحواذ على الأراضي في الحالات التي لم تعترف فيها بإعلان الفلسطينيين امتلاكها، حتى وإن كانت هذه الأراضي مزروعة. قدّر "مركز عدالة" الحقوقي أن الحكومة الإسرائيلية استولت على ما يتراوح بين 1.2 و1.3 مليون دونم من الأراضي بموجب قانون حيازة الأراضي.[829] نصّ القانون على تقديم تعويضات، ولكن في الغالب في شكل "أراض بديلة غير مزروعة أو تخصّ لاجئين في المنفى"، كما كتب مؤرخٌ، أو تعويضات بقيمة منخفضة جدا كان وزير الخارجية آنذاك ورئيس الوزراء لاحقا موشي شاريت قد وصفها بـ "السرقة المفضوحة".[830]

في تقرير صدر في 2005، قدّر "المشروع العالمي للمهجّرين " التابع لـ "مجلس اللاجئين النرويجي"، بناءً على مجموعة من المصادر، عدد المهجّرين  الفلسطينيين في إسرائيل آنذاك بسبب الأحداث المحيطة بإقامة إسرائيل بما يتراوح بين 150 ألف و300 ألف.[831] وجدت "لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" في 1998 أن غالبية المهجّرين  الفلسطينيين، الذين قدّرت عددهم بـ 200 ألف، وتسميهم "الغائبين الحاضرين"، ما زالوا مهجّرين عن أرضهم ومحرومين منها داخل دولة إسرائيل لأن أراضيهم كانت قد صودرت ولم تعد إليهم.[832]

تواصل السلطات الإسرائيلية منع المواطنين الفلسطينيين ممن يملكون أراضٍ من الوصول إلى أراضيهم التي صودرت منهم أو استخدامها.[833] على سبيل المثال، طردت القوات الإسرائيلية في نوفمبر/تشرين الثاني 1948 سكان قرية إقرت، قرب الحدود مع لبنان، بعد انتهاء القتال في المنطقة وبعد إعلان إقرت منطقة عسكرية مغلقة.[834] قدّم السكان، ومعظمهم ظلوا مهجّرين  داخل إسرائيل، طعنا قانونيا ضدّ تهجيرهم، وفي 1951 قضت "المحكمة الإسرائيلية العليا" بالسماح لهم بالعودة إلى ديارهم.[835] لكن قبل تنفيذ قرار المحكمة، وقبل شهرين من جلسة أخرى للمحكمة العليا حول القضية نفسها، فجّر الجيش جميع المنازل التي كانت قائمة في القرية.[836] واصل السكان سعيهم للعودة، لكن الحكومة استمرت في منعهم، إذ ادعت في الستينات، على سبيل المثال، أن عودتهم كانت تشكل خطرا أمنيا.[837] في 2003، رفضت المحكمة العليا التماسا جديدا من السكان للعودة، معتبرة أن المسألة "سياسية" وبالتالي أحالتها إلى الحكومة، التي رأت أن السماح بعودة سكان إقرت من شأنه "الإضرار بمصالح الدولة المهمة".[838] غير أن المحكمة أشارت إلى أنه يحق للسكان الحصول على تعويض أو أراضٍ بديلة، وهو ما رفضه السكان في الماضي.[839]

خلقت مصادرة الأراضي وسياسات الأراضي والسكان التمييزية وضعا جعل أغلب المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، الذين يشكلون تقريبا 19 % من سكان إسرائيل،[840] يعيشون في بلدات فلسطينية مكتظة، تتحكم سلطاتها المحلية بأقل من 3 % من جميع أراضي إسرائيل.[841]

ممارسات قسرية في النقب

في بعض الحالات، استخدمت السلطات الإسرائيلية أيضا ممارسات قسرية لتقييد حقوق المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. مثلا، خلقت وضعا أصبح فيه شبه مستحيل لعشرات آلاف البدو الفلسطينيين المقيمين في النقب العيش بشكل قانوني في القرى التي عاشوا فيها منذ عقود.[842] منذ صياغة المخططات الرسمية الأولى للدولة في الستينات، رفضت السلطات الاعتراف بـ35 تجمعا بدويا في النقب، ما أجبر نحو 90 ألفا من سكانها، أي 28 % من بدو النقب، على العيش في ظلّ تهديد مستمر بالهدم.[843] لا يقرّ القانون الإسرائيلي بشرعية أي من منشآت هذه القرى غير المعترف بها، ولطالما رفضت السلطات ربط أغلبها بشبكات الكهرباء والماء الوطنية، أو توفير البنية التحتية الأساسية لها، مثل الطرقات المعبدة أو شبكات الصرف الصحي.[844] هذه القرى  لا تظهر على الخرائط الرسمية، وأغلبها بلا مرافق تعليمية أو بنية تحتية أساسية، وليس فيها عناوين معترف بها، ولا يمكن لسكانها التسجيل للمشاركة في الانتخابات المحلية.[845]

على امتداد عقود من الزمن، هدمت السلطات الإسرائيلية الآلاف من منازل البدو، والكثير منها كانت مجرد خيام أو أكواخ. بحسب بيانات حكومية، شهدت الفترة من 2013 إلى 2019 هدم 10,697 بُنية للبدو الفلسطينيين في النقب، منها 2,241 وحده في العام 2019 ، أغلبها هدمها مالكوها بأنفسهم بسبب أوامر الهدم وتحت تهديد عقوبات كبرى.[846] جرفت السلطات الإسرائيلية العراقيب 185 مرة، وهي إحدى القرى غير المعترف بها، ، بعد صراعات قانونية دامت سنوات مع الدولة.[847] قالت وزارة العدل في رسالة إلى هيومن رايتس ووتش في 2017 إنها كانت تعتبر حينها 45 ألف بُنية في النقب غير قانونية.[848]

لسنوات، سعت السلطات إلى تجميع البدو الذين يعيشون في النقب في بلدات صغيرة خططت لها الحكومة بهدف زيادة الأراضي المتاحة للتجمعات اليهودية.[849] لكن الكثير من البدو يعتبرون تطوير هذه البلدات محاولة للقضاء على مطالبتهم بأراض في مناطق أخرى في النقب، ولا ينظرون إليها كخيارات سكنية مقبولة، نظرا لعدم مشاركتهم في تطويرها، ولتخوفهم من الاكتظاظ والإهمال الحكومي.[850] هذه الجهود مستمرة: فبحسب مركز عدالة، تمّ إعداد خطة حكومية في 2019 ستتسبب في تهجير 36 ألف بدوي لتوسيع مناطق التدريب العسكري وإنشاء مشاريع "تنمية اقتصادية".[851]

الحرمان من المكانة القانونية والجنسية

حرمان الأزواج الفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة فعليا من المكانة القانونية

يمنع "قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل (أمر الساعة)" لعام 2003 فلسطينيي الضفة الغربية وغزة من الإقامة مع أزواجهم في إسرائيل أو القدس الشرقية.[852] يحظر هذا الأمر المؤقت، الذي سنّه "الكنيست" في يوليو/تموز 2003، وجُدّد سنويا منذئذ بتأييد من المحكمة الإسرائيلية العليا، منح المكانة القانونية أو المواطنة لحاملي بطاقات الهوية الفلسطينية، مع استثناءات قليلة، حتى المتزوجين من مواطنين إسرائيليين أو مقيمين دائمين في إسرائيل.[853] كانت السلطات الإسرائيلية قد قيّدت لم شمل العائلة قبل 2003، إلا أن هذا القانون أدى إلى توقف العملية بشكل كلي تقريبا.[854]

يحرم القانون مواطني إسرائيل والمقيمين فيها، سواء كانوا يهودا أو فلسطينيين، ممن يتزوجون من فلسطينيي الضفة الغربية وغزة من حق العيش مع أحبتهم في المكان الذي يختارونه، على عكس ما هو متاح للإسرائيليين الآخرين. يستند هذا الحرمان إلى قوميّة الزوج/ة وليس إلى تقييم فردي للمخاطر الأمنية. أما إذا تزوج إسرائيلي/ة بيهودي/ة أجنبي/ة، يحصل هذا الأخير على المواطنة تلقائيا. يستطيع الأجانب الآخرون الحصول على مكانة قانونية فورية، وعادة ما يصبحون مؤهلين للحصول على المواطنة بعد العيش في إسرائيل لبضع سنوات.[855] يُمكن للرجال الفلسطينيين فوق 35 عاما والنساء الفلسطينيات فوق 25 عاما من الضفة الغربية وغزة ممن تزوجوا بمواطنين إسرائيليين أو أشخاصٍ مقيمين في إسرائيل طلب تصاريح زيارة مؤقتة وقابلة للتجديد، لكن السلطات رفضت العديد من هذه الطلبات.[856]

يفرض القانون خيارا صعبا على آلاف الأزواج الذين يقرّرون الزواج رغم هذه القيود – 30 ألف حالة فيها أحد الزوجين مواطن فلسطيني في إسرائيل، بحسب "مركز مساواة". يتعين على هؤلاء الاختيار بين العيش بشكل منفصل أو أن ينتقل الزوج/ة الإسرائيلي/ة أو المقيم/ة في إسرائيل إلى الضفة الغربية، رغم الأوامر العسكرية الإسرائيلية التي تحظر على الإسرائيليين العيش في المنطقة "أ".[857] إضافة إلى ذلك، يؤدي الانتقال إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى فقدان المقدسيين الفلسطينيين مكانتهم القانونية، وهو ما يهدّد استحقاق المواطنين الإسرائيليين والمقيمين في إسرائيل للتمتع بالحقوق المتعلقة بالإقامة أو المواطنة، مثل الحق في الحصول على مزايا الضمان الاجتماعي. هذا الاختيار الصعب تسبب في تفرقة آلاف الأسر.[858]

اللاجئون الفلسطينيون

يحجب قانون المواطنة الإسرائيلي لعام 1952 حقوق المواطنة والإقامة عن أكثر من 700 ألف فلسطيني كانوا يعيشون قبل 1948 في الأراضي التي تشكّل الآن إسرائيل، والذين فرّوا أو طردوا أثناء أحداث 1948، وأبنائهم وأحفادهم.[859] كما تمنع السياسات الإسرائيلية التقييدية اللاجئين الموجودين في دول الجوار من الإقامة القانونية حتى في الأراضي الفلسطينية المحتلة.[860] يضمن القانون الدولي لحقوق الإنسان حق اللاجئين والمنفيين في دخول أراضيهم الأصلية، حتى في الحالات التي تكون فيها سيادة على تلك الأراضي متنازع عليها أو انتقلت إلى جهة أخرى تغيرت؛ كذلك يمنحهم الإقامة في الأراضي التي كانوا هم أو عائلاتهم يعيشون فيها يوما ما وحافظوا على صلات بها.[861] مثل اللاجئين في أوضاع أخرى، يجب منح اللاجئين الفلسطينيين فرصة ليختاروا بحريّة بين العودة إلى بلادهم الأصلية، أو الاندماج المحلّي، أو إعادة التوطين في بلدان ثالثة.[862] سجلت "وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (الأنروا) 5.7 مليون لاجئ فلسطيني.[863] لا يزال العديد منهم بلا جنسية ويعيشون على مدار أجيال في مخيمات مزدحمة وفي ظروف سيئة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والأردن، ولبنان، وسوريا.[864]

الخلاصة

تحرم السلطات الإسرائيلية ملايين الأشخاص من حقوقهم الأساسية بحكم هويتهم كفلسطينيين. هذه السياسات والممارسات المنهجية القائمة منذ أمد طويل تحصر الفلسطينيين في مناطق ضيقة، وتجردهم من ممتلكاتهم، وتشتتهم قسرا، وتهمشهم، وتسبب لهم المعاناة بطرق أخرى.

في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تشكل القيود على التنقل، ومصادرة الأراضي، والنقل القسري، والحرمان من المكانة القانونية والجنسية، والتعليق الجماعي للحقوق المدنية "أفعالا لاإنسانية" منصوصا عليها في اتفاقية الفصل العنصري ونظام روما الأساسي. بموجب كل من المعيارين القانونيين، فإن الأفعال اللاإنسانية عندما تُرتكب في ظل قمع منهجي وبِنِيّة الحفاظ على الهيمنة تشكل جريمة الفصل العنصري المرتكبة ضد الإنسانية.[865]

عندما تجتمع هذه السياسات والممارسات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهي تحرم الفلسطينيين بشدة وعلى نطاق واسع ومنهجي من حقوق الإنسان الأساسية، منها الإقامة، والملكية الخاصة، والحصول على الأراضي والخدمات والموارد. عندما تُرتكب بنية تمييزية، على أساس هوية الضحايا كجزء من فئة أو جماعة، فإنها ترقى إلى جريمة الاضطهاد المرتكبة ضد الإنسانية بموجب نظام روما الأساسي والقانون الدولي العرفي.

بمعزل عن الأفعال اللاإنسانية التي تُرتكب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تنتهك الحكومة الإسرائيلية حقوق الفلسطينيين داخل إسرائيل بسبب هويتهم، بما يشمل الإجراءات التي جعلت من المستحيل تقريبا على عشرات آلاف البدو الفلسطينيين المقيمين في النقب العيش بشكل قانوني في قراهم؛ وحرمان مئات آلاف الفلسطينيين من القدرة على الوصول إلى الأراضي المصادرة منهم على مر التاريخ أو استخدامها؛ وفعليا منع المواطنين والمقيمين من الحصول على إقامة قانونية طويلة الأمد، ما يحرمهم من العيش بشكل دائم في إسرائيل مع أزواج من الضفة الغربية وغزة؛ وحرمان الفلسطينيين الذين فروا أو طُردوا من ديارهم في الأحداث التي رافقت إقامة  الدولة من حق الإقامة.

هذه الانتهاكات مستمرة، ولا يوجد مؤشر على أن السلطات حققت مع أي شخص ضالع في ارتكابها، ناهيك عن محاسبته.

 

التوصيات

هذه التوصيات نابعة من النتائج التي خلصت إليها "هيومن رايتس ووتش" بأن السلطات الإسرائيلية ترتكب الجريمتين ضد الإنسانية المتمثلتين بالفصل العنصري والاضطهاد.

وجدت هيومن رايتس ووتش أن الحكومة الإسرائيلية عملت بنيّة الحفاظ على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي التي تسيطر عليها. اقترنت هذه النية بالقمع المنهجي للفلسطينيين والأفعال اللاإنسانية المرتكبة ضدهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية. عندما تجتمع هذه العناصر معا، فإنها ترقى إلى جريمة الفصل العنصري.

كما ترتكب السلطات الإسرائيلية الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة بالاضطهاد على أساس نية التمييز الكامنة وراء معاملة إسرائيل للفلسطينيين والانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

إلى دولة إسرائيل

•       تفكيك جميع أشكال القمع والتمييز المنهجيَّين التي تعطي امتيازات لليهود الإسرائيليين على حساب الفلسطينيين، وتنتهك حقوق الفلسطينيين بهدف ضمان هيمنة اليهود الإسرائيليين، وإنهاء اضطهاد الفلسطينيين، بما يشمل إنهاء السياسات والممارسات التمييزية في مجالات مثل إجراءات المواطنة والجنسية، وحماية الحقوق المدنية، وحرية التنقل، وتخصيص الأراضي والموارد، والحصول على المياه والكهرباء والخدمات الأخرى، ومنح تصاريح البناء.

•       الاحترام الكامل لحقوق الإنسان  للفلسطينيين، بمن فيهم أولئك الموجودين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلا عن الحماية الواجبة للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة بموجب القانون الإنساني الدولي.

•       وقف بناء وتوسيع المستوطنات، وتفكيك المستوطنات الموجودة وإعادة المواطنين الإسرائيليين المقيمين في المستوطنات في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، إلى داخل حدود إسرائيل المعترف بها دوليا.

•       إنهاء منع السفر الشامل من غزة وإليها والسماح بتنقل الأشخاص من غزة وإليها بحرية، ولا سيما بين غزة والضفة الغربية وغزة والخارج، وعدم إخضاعهم لما يتعدى الفحص الأمني والتفتيش الجسدي بشكل فردي لأغراض أمنية.

•       السماح للفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة بالتنقل بحرية إلى القدس الشرقية، وعدم إخضاعهم لما يتعدى الفحص الأمني والتفتيش الجسدي بشكل فردي لأغراض أمنية.

•       إنهاء التمييز في تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة بالتخطيط، وتصاريح البناء، والبناء التي تُخضع الفلسطينيين لرفض التصاريح وأوامر الهدم بشكل تمييزي.

•       إتاحة حصول الفلسطينيين بشكل عادل على الأراضي، والمساكن، والخدمات الأساسية.

•       تفكيك أجزاء جدار الفصل المبنية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وليس على طول الخط الأخضر.

•       إلغاء القوانين والأحكام القانونية التمييزية وإقرار تشريعات مبنية على مبدأ المساواة وتتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، منها:

o     "قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل (أمر الساعة) – 2003"، والذي يسمح للمواطنين والمقيمين الإسرائيليين بالحصول على وضع قانوني لأزواجهم غير الإسرائيليين، دون أن ينطبق ذلك على الأزواج من الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ إنهم، مع استثناءات قليلة، مستبعدين صراحة بموجب هذا القانون؛

o     أحكام "قانون لجان القبول لعام 2011" التي تسمح فعليا لسكان البلدات الصغيرة داخل إسرائيل بالتمييز ضد السكان المحتملين على أساس العرق أو الإثنية أو الأصل القومي؛

o     أحكامٌ في "قانون أساس: إسرائيل بوصفها دولة قومية للشعب اليهودي" تميز بين اليهود وغير اليهود فيما يتعلق بحق تقرير المصير والسكن.

•       إزالة القيود التعسفية على حقوق الإقامة  للفلسطينيين سكان القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة وعائلاتهم، بما في ذلك عن طريق وقف الممارسة التي تقضي بإلغاء إقامة الفلسطينيين في القدس الشرقية، وإنهاء التجميد الفعلي لطلبات لمّ شمل العائلة  في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 2000، والسماح للفلسطينيين بإعادة التوطين في أجزاء أخرى من الأراضي الفلسطينية المحتلة وتسجيل عناوينهم الجديدة.

•       الاعتراف بحق الفلسطينيين الذين فروا أو طردوا من ديارهم عام 1948 وأبنائهم وأحفادهم بدخول إسرائيل والإقامة في المناطق التي كانوا يعيشون فيها هم أو عائلاتهم واحترام هذا الحق، كما أوضحت هيومن رايتس ووتش في سياسة منفصلة تحدد أيضا خيارات دمجهم في مكان وجودهم أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإعادة توطينهم في مكان آخر.[866]

•       التعاون مع توصيات هيئات الأمم المتحدة وآليات حقوق الإنسان والالتزام بها.

•       المصادقة على "نظام روما الأساسي" وإدراج الجرائم ضد الإنسانية، بما فيها جريمتَي الاضطهاد والفصل العنصري، في القانون الجنائي الوطني بهدف التحقيق مع الأفراد المتورطين بشكل موثوق في هذه الجرائم ومقاضاتهم.

إلى منظمة التحرير الفلسطينية

•       تبني استراتيجية مناصرة تتمحور حول الإعمال الفوري لحقوق الإنسان الكاملة للفلسطينيين، بدلا من استراتيجية تؤخر إعمال حقوق الإنسان لصالح تحقيق نتيجة سياسية معينة.

إلى السلطة الفلسطينية

•       وقف جميع أشكال التنسيق الأمني مع الجيش الإسرائيلي، والذي يساهم في تسهيل جرائم الفصل العنصري والاضطهاد في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

•       إدراج الجرائم ضد الإنسانية، بما فيها جريمتيَ الاضطهاد والفصل العنصري، في القانون الجنائي الوطني.

إلى المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية

•       التحقيق بشأن المتورطين بشكل موثوق في الجريمتين ضد الإنسانية المتمثلتين في الفصل العنصري والاضطهاد، وملاحقة هؤلاء الأشخاص.

إلى أعضاء الأمم المتحدة

•       إنشاء لجنة تحقيق دولية من خلال الأمم المتحدة للتحقيق في التمييز المنهجي والقمع على أساس الهوية الجماعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل. يجب أن يكون التحقيق مفوضا لتحديد وتحليل الوقائع، وعند الاقتضاء، تحديد المسؤولين عن الجرائم الخطيرة، بما فيها الفصل العنصري والاضطهاد، بهدف ضمان محاسبة مرتكبي الانتهاكات، إضافة إلى جمع الأدلة المتعلقة بالانتهاكات والحفاظ عليها لاستخدامها في المستقبل من قبل مؤسسات قضائية ذات مصداقية. يجب أن يكون تفويض التحقيق واسعا بما يكفي لتغطية دور الجهات الفاعلة الأخرى، بما فيها الشركات والمسؤولون في الدول الأخرى.

•       إنشاء لجنة متابعة خاصة من خلال الأمم المتحدة تضم ممثلي الدول الأعضاء لتقييم نتائج لجنة التحقيق الدولية، والمراجعة المنتظمة للامتثال لتوصيات لجنة التحقيق، والتوصية بمزيد من الإجراءات حسب الحاجة.

•       في ضوء الجمود في هذه القضية في مجلس الأمن الدولي، ينبغي التوصية بأن تفرض الدول الأعضاء وتكتلات الدول تدابير أحادية الجانب في شكل عقوبات موجهة، منها منع السفر وتجميد الأصول، ضد المسؤولين والكيانات المتورطين بشكل موثوق في جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد؛ ووضع شروط أحادية تربط مبيعات الأسلحة والمساعدة الأمنية لإسرائيل بأن تأخذ السلطات الإسرائيلية خطوات ملموسة ويمكن التحقق منها باتجاه إنهاء ارتكاب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد ضد الفسلطينيين؛ وإخضاع الاتفاقيات، وخطط التعاون، وجميع أشكال التجارة والتعامل مع إسرائيل للعناية الواجبة المعززة لكشف تلك التي تساهم مباشرة في ارتكاب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد بحق الفلسطينيين والتخفيف من آثارهما على حقوق الإنسان، وحيثما يتعذر ذلك، إنهاء التمويل والأنشطة التي يتبين أنها تساهم في تسهيل هاتين الجريمتين الخطيرتين.

•       استحداث منصب من خلال الأمم المتحدة لمبعوث عالمي من الأمم المتحدة لجريمتَي الاضطهاد والفصل العنصري مع تفويض بالدعوة إلى إنهاء هاتين الجريمتين وتحديد الخطوات التي على الدول والمؤسسات القضائية اتخاذها للملاحقة بشأنهما. بمجرد استحداث المنصب، ينبغي الطلب من مجلس الأمن الدولي دعوة المبعوث للمشاركة في جلسات إحاطة فصلية حول الوضع في الشرق الأوسط.

إلى جميع الدول

•       إصدار بيانات رسمية فردية وجماعية تعبر عن القلق بشأن ارتكاب إسرائيل جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد.

•       إخضاع الاتفاقيات وخطط التعاون وجميع أشكال التجارة والتعامل مع إسرائيل للعناية الواجبة المعززة، لكشف تلك التي تساهم مباشرة في ارتكاب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد بحق الفلسطينيين، والتخفيف من آثارهما على حقوق الإنسان، وحيثما يتعذر ذلك، إنهاء التمويل والأنشطة التي يتبين أنها تساهم مباشرة في تسهيل هذه الجرائم الخطيرة. 

•       فرض عقوبات موجهة، منها منع السفر وتجميد الأصول، ضد المسؤولين والكيانات المسؤولين عن استمرار ارتكاب الجرائم الدولية الجسيمة، بما فيها الفصل العنصري والاضطهاد.

•       فرض شروط تربط بيع الأسلحة والمساعدات العسكرية والأمنية إلى إسرائيل بأن تأخذ السلطات الإسرائيلية خطوات ملموسة ويمكن التحقق منها باتجاه إنهاء ارتكابها جريمتَيْ الفصل العنصري والاضطهاد.

•       إدراج الجريمتين ضد الإنسانية المتمثلتين في الفصل العنصري والاضطهاد في القانون الجنائي الوطني بهدف التحقيق مع الأفراد المتورطين بشكل موثوق في هاتين الجريمتين ومقاضاتهم.

•       التحقيق بشأن الأشخاص المتورطين بشكل موثوق في جريمتَي الاضطهاد والفصل العنصري وملاحقتهم بموجب الولاية القضائية العالمية وبما يتماشى مع القوانين الوطنية.

•       النظر في دعوة إسرائيل في المنشورات، والتقارير، والمواقف السياسية إلى منح الفلسطينيين في الأراضي المحتلة حقوق مدنية مساوية على الأقل لتلك التي تمنحها لمواطنيها، وتقييم سلوك إسرائيل على هذا الأساس، كما أوضحت هيومن رايتس ووتش في تقرير منفصل.[867]

إلى الرئيس الأمريكي

•       إصدار بيان رسمي يعرب عن القلق بشأن ارتكاب السلطات الإسرائيلية جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد.

إلى وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع ووزارة الخزانة

•       فرض شروط تربط بيع الأسلحة والمساعدات العسكرية والأمنية إلى إسرائيل بأن تأخذ السلطات الإسرائيلية خطوات ملموسة ويمكن التحقق منها باتجاه إنهاء ارتكابها جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد.

•       إجراء تقييم وإصدار تقرير علني عن استخدام الأسلحة و/أو المعدات أمريكية الأصل ، أو الأسلحة و/أو المعدات الإسرائيلية التي تم شراؤها بأموال أمريكية، للمساهمة في ارتكاب جريمتَيْ الفصل العنصري والاضطهاد، أو لتسهيل انتهاكات قانون حقوق الإنسان أو القانون الإنساني الدوليَّين. في حال توفير المزيد من المساعدات وإذا تم ذلك فعلا، ينبغي ضمان ألا يذهب أي تمويل إلى الوحدات حيث توجد معلومات موثوقة بشأن تورطها في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وفقا للمادة M620 من "قانون المساعدة الخارجية" لعام 1961،22 U.S.C. 2378d والبند 362 من الباب 10 من قانون الولايات المتحدة، والمعروف باسم قوانين ليهي.

•       فرض حظر التأشيرات وتجميد الأصول وفقا لقانون "ماغنيتسكي الدولي للمساءلة حول حقوق الإنسان" لعام 2016، والأمر التنفيذي 13818، والقسم 7031 (ج) من "قانون اعتمادات وزارة الخارجية والعمليات الخارجية والبرامج ذات الصلة" لعام 2019، على جميع المسؤولين الإسرائيليين الذين تتبين مسؤوليتهم أو تواطؤهم في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بما فيها جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد.

إلى "الكونغرس" الأمريكي

•       إصدار بيانات رسمية تعرب عن القلق بشأن ارتكاب السلطات السلطات الإسرائيلية جريمتَيْ الفصل العنصري والاضطهاد.

•       إذا لم تضع السلطة التنفيذية الأمريكية شروطا على المساعدات العسكرية والأمنية لإسرائيل، فعلى الكونغرس أن يقر تشريعات تربط المساعدة المخصصة لإسرائيل بخطوات ملموسة من السلطات الإسرائيلية لتنهي ارتكاب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد.

•       طلب تقرير من "مكتب محاسبة الحكومة" حول كيفية استخدام الدعم الأمريكي لإسرائيل، بما في ذلك الأموال والأسلحة والمعدات، للمساهمة في ارتكاب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد؛ ومطالبة مكتب محاسبة الحكومة بأن يتضمن تقريره تحقيقا في مدى قدرة وزارتَي الخارجية والدفاع الأمريكية على إجراء تدقيق حقوقي مناسب للوحدات العسكرية الإسرائيلية.

•       التأكد من أن جميع المكاتب المكلفة بضمان الامتثال لقوانين ليهي في وزارتي الخارجية والدفاع لديها ما يكفي من تمويل وموظفين.

إلى الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه

•       إصدار بيانات علنية تعرب عن القلق بشأن ارتكاب السلطات الإسرائيلية جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد.

•       إجراء تقييم شامل للآثار المترتبة على العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، الناشئة عن نتائج التقييم بشأن جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد، التي تحدد بشكل خاص العواقب والالتزامات القانونية بموجب أحكام قوانين الاتحاد الأوروبي والقانون الدولي التي تسري على مؤسسات الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء والشركات الخاصة في الاتحاد، والخطوات التي يجب أن تؤخذ بشأن ذلك، ونشر التقييم علنا.

•       إخضاع جميع الاتفاقيات وخطط التعاون وجميع أشكال التجارة والتعامل الثنائية بين الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء مع إسرائيل للعناية الواجبة المعززة، والتدقيق في الاتفاقيات التي تساهم مباشرة في ارتكاب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد بحق الفلسطينيين، والتخفيف من آثارها على حقوق الإنسان، وحيث يتعذر ذلك، إنهاء التمويل والأنشطة التي يتبين أنها تساهم مباشرةً في تسهيل هاتين الجريمتين الخطيرتين.

•       فرض عقوبات موجهة تستهدف الأفراد والكيانات التي يتبين أنها مسؤولة عن استمرار ارتكاب الجرائم الدولية الجسيمة، بما فيها الفصل العنصري والاضطهاد.

•       وضع شروط على المساعدات العسكرية والأمنية لإسرائيل وربطها بخطوات ملموسة ويمكن التحقق منها باتجاه إنهاء السلطات الإسرائيلية ارتكابها جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد.

•       دعم تشكيل لجنة تحقيق من قبل الأمم المتحدة للتحقيق في جميع أشكال التمييز أو القمع المنهجيَين على أساس الهوية الجماعية في إسرائيل أو الأراضي الفلسطينية المحتلة.

•       دعم استحداث منصب مبعوث أممي بشأن جريمتَيْ الفصل العنصري والاضطهاد.

إلى البرلمان الأوروبي

•       حث المفوضية الأوروبية، و"الدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية"، والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على اتخاذ الخطوات الموضحة أعلاه، والطلب من الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي والمفوضية إبقاء البرلمان على علم بالخطوات التالية.

إلى الشركات العاملة في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة

•       وقف الأنشطة التجارية التي تساهم مباشرة في ارتكاب جريمتَيْ الفصل العنصري والاضطهاد.

·       تقييم ما إذا كانت سلع الشركات وخدماتها تساهم في جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد، مثل المعدات المستخدمة في الهدم غير القانوني لمنازل الفلسطينيين، والتوقف عن توفير السلع والخدمات التي يُرجح استخدامها لهذه الأغراض، وفقا لمبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان.

 

شكر وتنويه

الباحث الرئيسي ومؤلف هذا التقرير هو مدير شؤون إسرائيل وفلسطين في هيومن رايتس ووتش عمر شاكر. كما وساهم باحثون آخرون في هيومن رايتس ووتش في البحث والكتابة. المحرر الرئيسي للتقرير هو مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالإنابة في هيومن رايتس ووتش إريك غولدستين.

قدم نائب مدير البرامج في هيومن رايتس ووتش توم بورتيوس، والمستشار القانوني الأول في هيومن رايتس ووتش كلايف بالدوين مراجعة لشؤون البرامج ومراجعة قانونية على التوالي. كما راجع التقريرَ المدير التنفيذي لـ هيومن رايتس ووتش كينيث روث. قاد نائب مدير المناصرة العالمية فيليب بولوبيون، ومديرة المناصرة في الأزمات أكشايا كومار، ومسؤول المناصرة الأول برونو ستانيو عملية تطوير التوصيات الواردة في التقرير.

كما راجع بعضَ أجزاء التقرير كل من المديرة المشاركة لبرنامج العدالة الدولية بلقيس جراح، والمدير المشارك لقسم حقوق الطفل بيل فان إسفلد، ومسؤولة المناصرة بواشنطن إليزا إبستين، والباحث الأول في قسم البيئة وحقوق الإنسان في هيومن رايتس ووتش فيليكس هورن، والاستشاري جوزيف آمون، من بين آخرين.

ساهمت مستشارة  هيومن رايتس ووتش إميلي ماكس في البحوث القانوني. دعمت مستشارة  هيومن رايتس ووتش ساري بشي جهود التوعية والتواصل. قدمت منظمة التنمية السويدية، دياكونيا، مذكرة قانونية تتناول القضايا القانونية المتعلقة بالتقرير. كما ساهم في البحث كل من المتدرب السابق عقيب محمود، والمنسقة السابقة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ديانا نعوم.

ساعد منسقون مشاركون في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنسق الصور والمنشورات في ترافيس كار في إعداد التقرير للنشر. ترجمت شيرلي عيران التقرير إلى العبرية.

ساهم أحمد بن شمسي، من بين آخرين، في تطوير عمل الملتيميديا المرافق للتقرير. تم تطوير رسوم الغرافيك للتقرير بالشراكة مع Visualizing Impact، التي قادت جهودها جيسيكا أندرسون ويسرى الجزار.

نود أيضا أن نشكر ناثان ثرال، وحجاي العاد، وطارق بقعوني، ومايكل سفارد، ومعين عودة، ودرور إتكس، ومراد سمارة، وكاثلين بيراتيس، وناجي ناجي، وتانيا هاري، وأحمد القطاوي، وروهان ناجرا، وغيرهم، على أفكارهم ووقتهم.

والأهم من ذلك، نود أن نشكر المدافعين عن حقوق الإنسان الفلسطينيين والإسرائيليين وغيرهم، والناشطين الذين وثّقوا لسنوات عديدة الانتهاكات الجسيمة الواردة في التقرير وانتقدوها بشجاعة، والرجال والنساء الذين شاركوا قصصهم معنا.