فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول


مقاتلو العدو المحتجزون في الولايات المتحدة

اتخذ الرئيس بوش سلطاته العسكرية بوصفه قائدا عاما في زمن الحرب مبرراً للالتفاف حول متطلبات القانون الجنائي الأمريكي. إذ تقول الحكومة إن الأشخاص الذين تزعم أنهم من المشتبه في ضلوعهم في أعمال إرهابية لا داعي لمعاملتهم كمجرمين لأنهم أعداء في سياق الحرب على الإرهاب. وخلال الشهور والسنين التي مرت منذ اعتقال هؤلاء المشتبه فيهم في الولايات المتحدة، لم تحاول السلطة التنفيذية تقديمهم إلى المحاكمة؛ بل إنها زعمت أن لها سلطة إبقائهم في الحبس لأجل غير مسمى، قد يصل إلى السجن مدى الحياة، في ثكنات عسكرية بناء على قرار الرئيس بأنهم من مقاتلي العدو. وعلى الرغم من عدم وجود أي حرب دائرة بالمعنى التقليدي في الولايات المتحدة، وأن النظام القضائي يباشر كل مهامه بالكامل، فإن إدارة بوش تزعم أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول حولت الولايات المتحدة كلها إلى ساحة حرب يمكن أن تمارس فيها صلاحياتها العسكرية في اعتقال مقاتلي العدو.

وقد أطلقت الحكومة الأمريكية حتى اليوم وصف مقاتلي العدو في الولايات المتحدة على مواطنيْن أمريكييْن وآخر غير أمريكي مقيم في الولايات المتحدة بتأشيرة دراسية. وزُعم أن أحد المواطنيْن الأمريكييْن، واسمه ياسر عصام حمدي، أُسر أثناء الحرب في أفغانستان ونقل إلى الولايات المتحدة بعد أن عرف الجيش أنه مواطن أمريكي. أما الاثنان الآخران، وهما خوزيه باديّا وهو مواطن أمريكي، وعلي صالح كحلة المري، وهو طالب قطري، فقد قبض عليهما في الولايات المتحدة، حيث قبض على باديّا أثناء مغادرته طائرة في مدينة شيكاغو بعد عودته من رحلة بالخارج، أما المري فقد قبض عليه بينما كان نائما في بيته.

وزعمت إدارة بوش في بادئ الأمر أن مقاتلي الأعداء هؤلاء ليس لهم الحق في الطعن في اعتقالهم أمام المحكمة، على الرغم من أنهم مواطنون أمريكيون و/أو يقيمون في الولايات المتحدة. ثم أقرت وزارة العدل في آخر الأمر بحقهم الدستوري في المثول أمام القضاء للنظر في مشروعة اعتقالهم، لكنها ظلت تسعى جاهدة لحرمانهم من إمكانية التشاور مع المحامين للدفاع عن أنفسهم في جلسات المحاكمة، فضلاً عن حضورهم الجلسات، وأصرت على ضرورة تصديق المحاكم بدايةً على إعلانها أنهم من مقاتلي الأعداء الذين لا يحق لهم التمتع بضمانات الحماية التي يكفلها نظام القضاء الجنائي.

وفي حالة المواطن الأمريكي خوزيه باديّا،(22) فقد أيدت محكمة فيدرالية على مستوى المقاطعة في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2002 سلطة الحكومة في الأمر باحتجاز المواطنين دون محاكمة بوصفهم من مقاتلي الأعداء. كما قبلت المحكمة بمعيار وجود "أدلة ما" الذي قدمته الحكومة، وذلك في سياق مراجعة المحكمة لما انتهى إليه الرئيس من أن باديّا كان "مشتركا في مهمة ضد الولايات المتحدة نيابة عن عدو تخوض الولايات المتحدة حربا معه". لكن محامي باديّا نجحوا في إقناع المحكمة بأن حقه في المثول أمام المحكمة للنظر في قانونية اعتقاله يتضمن الحق في التشاور إلى محام. واستأنفت الحكومة هذا الحكم، ولا تزال القضية منظورة أمام الدائرة الثانية لمحكمة الاستئناف.
أما علي صالح كحلة المري، وهو مواطن قطري دخل الولايات المتحدة بتأشيرة دراسية، فقد ألقي القبض عليه ووجهت هيئة محلفين فيدرالية الاتهام إليه بسبب ما زعم عن كذبه على المحققين، والاحتيال في استخدام البطاقات الائتمانية وغير ذلك من صور الاحتيال.(23) ولكن بعد صدور قرار الاتهام قررت السلطة التنفيذية أن تعيد تصنيفه من جديد على أنه من مقاتلي الأعداء، ونقلته إلى منشأة تابعة للقوات البحرية في ولاية ساوث كارولينا في 23 يونيو/حزيران 2003. وأوضحت الحكومة أنها قررت أن المري من مقاتلي الأعداء بناء على معلومات استقتها من استجواب شخص متهم بأنه من مسؤولي تنظيم القاعدة.(24) وقد تعطلت الطعون القضائية في هذا الاعتقال حتى الآن بسبب النزاع بين محامي المري والحكومة حول تعيين المحكمة المختصة بالنظر في طلبه إعادة النظر في قانونية اعتقاله.(25)

وبعد مرور عامين على سقوط حكومة طالبان لا يزال ياسر عصام حمدي، وهو مواطن أمريكي، محتجزا في السجن الحربي بدون أي تهمة. وقد أفادت الحكومة الأمريكية أنه كان "تابعا" لوحدة من وحدات طالبان في الحرب الأفغانية، وكانت هذه الوحدة قد استسلمت لقوات التحالف الشمالي الأفغانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2001، ثم تم تسليم حمدي إلى الجيش الأمريكي بعد ذلك.(26) وعند النظر في قانونية اعتقاله، أشارت محكمة فيدرالية على مستوى المقاطعة إلى أن"هذه القضية على ما يبدو هي الأولى من نوعها في تاريخ القضاء الأمريكي، حيث يخضع مواطن أمريكي للاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجي، ويتعرض للاعتقال إلى أجل غير مسمى في قلب الأراضي الأمريكية بدون توجيه أي تهمة إليه، وبدون أي نتائج تخلص إليها محكمة عسكرية، وبدون السماح له بالاستعانة بمحامٍ".(27) إلا أن محكمة المقاطعة ومحكمة أخرى من محاكم الاستئناف ارتأتا أن الرئيس الأمريكي يتمتع بسلطة دستورية تخول له إطلاق وصف مقاتلي العدو على أي شخص حسبما يتراءى له. وفضلا عن ذلك، فقد قضت محكمة المقاطعة بأن حمدي من حقه التشاور مع محاميه، إلا أن محكمة الاستئناف ألغت هذا الحكم.(28)

وتأييدا لزعمها بأن وصف مقاتلي العدو ينطبق فعلا على حمدي، فقد قدمت الحكومة إعلانا فضفاضا من تسع فقرات أعده مسؤول بوزارة الدفاع الأمريكية يُدعى مايكل موبز. وقالت الحكومة إن "إعلان موبز" يمثل "أدلة ما" على أن حمدي مقاتل من مقاتلي العدو، وإن وجود "أدلة ما" يعد كافيا. وبعد عدة جلسات(29) قبلت إحدى محاكم الاستئناف بوصف مقاتل العدو لأنها لم "تقتنع اقتناعا تاما" بأن اعتقال حمدي بوصفه من مقاتلي العدو "يتعارض مع الدستور أو مع قوانين الكونغرس".(30)

وعلى الرغم من أن محكمة الاستئناف قالت إن الحقائق المتصلة باشتراك حمدي في القتال في أفغانستان لا جدال فيها، فإنها لم توضح كيف يتسنى لحمدي أن يطعن في هذه الحقائق إن لم يكن قد اطلع أبدا على الإعلان، ولم يكن قد سمح له بالتشاور مع محاميه، ولم يتمكن من الإدلاء بأقواله أمام المحكمة مباشرة. وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2003 طلب محاموه مراجعة قضيته أمام المحكمة العليا. ولكن قبل أن تقرر المحكمة العليا ما إذا كانت ستقبل النظر في القضية غيّر مسؤولو وزارة الدفاع في الثالث من ديسمبر/كانون الأول موقفهم مرة أخرى، قائلين إن حمدي سيسمح له بمقابلة محام لأول مرة منذ عامين. إلا أن موقف الحكومة كان يتمثل في أن حمدي سيسمح له بمقابلة محام "من باب حسن التقدير والسياسة العسكرية، غير أن هذه المقابلة لا يكفلها القانون المحلي أو الدولي، ولا يجب اعتبارها سابقة". (31) وإذا كان السماح لحمدي بمقابلة محام قد حل مشكلة من المشاكل المطروحة أمام المحكمة العليا الأمريكية، فما زالت هناك قضايا أخرى عديدة دون حل.
وإذا كانت المحكمة العليا الأمريكية تؤيد معيار وجود "أدلة ما"، فإن ذلك من شأنه أن يقوض بصورة خطيرة حق المعتقل في المثول أمام القضاء لإعادة النظر في قانونية اعتقاله. ففي قضية باديّا، على سبيل المثال، يشير إعلان موبز الحكومي إلى تقارير للاستخبارات مستقاة من مصادر سرية دون تحديد الأدلة المدعمة لها. كما أن الإعلان نفسه يعترف بوجود ما يدعو للقلق بشأن درجة الثقة في مصادر المعلومات.

وتؤكد الحكومة الأمريكية أن طريقة تعاملها مع باديّا وحمدي والمري تجيزها قوانين الحرب (المعروفة أيضا بالقانون الإنساني الدولي)؛ ففي أثناء الصراع الدولي المسلح تسمح قوانين الحرب باعتقال جنود الأعداء الذين يقعون في الأسر حتى انتهاء الحرب، دون توجيه تهمة إليهم أو عقد محاكمة لهم بالضرورة. لكن الحكومة الأمريكية تسعى إلى تحويل العالم بأسره إلى ساحة قتال في سياق "الحرب على الإرهاب"، وهي حرب غامضة غير واضحة المعالم، وأغلب الظن أنها لن تنتهي أبداً. وبهذا المنطق يمكن سجن أي شخص يُعتقد أنه يمت بصلة ما للإرهابيين إلى أجل غير مسمى بدون تقديم أي دليل على ذلك، وبدون إتاحة أي فرصة للمعتقل للدفع ببراءته. ولم يكن القصد من وراء قوانين الحرب مطلقاً تقويض أركان الحقوق الأساسية للأشخاص، سواء أكانوا مقاتلين أم مدنيين، إلا أن ذلك بعينه هو ما يترتب في واقع الحال على هذا التأويل الجديد للقانون من جانب الإدارة الأمريكية.