Skip to main content

سوف يظل مشهد مئات الآلاف من العرب في مسيراتهم التي جابت شوارع عدد من البلدان العربية مطالبة بالكرامة والحقوق، من بين الصور الأيقونية المميزة للقرن الحادي والعشرين. فاستعداد هذا العدد الكبير من المواطنين لتحمل مثل تلك المخاطر الهائلة التي تهددت حيواتهم، حيث سقط الآلاف منهم قتلى في سبيل حريتهم، قد أذهل عالماً ألف منذ زمن بعيد صورة الجماهير العربية المنكفأة على ذاتها، الخاضعة، الساخرة.

ومع ذلك فقد حدث انفصام، حتى في تلك البلدان التي نجحت في إزاحة نظمها الاستبدادية وإجراء انتخابات ديموقراطية، بين تظاهرات الجماهير الحماسية من أجل حريتها وبين التزام تلك الجماهير تجاه الإصلاحات التشريعية والمؤسسية اللازمة لحماية حقوقها ضد أية انتهاكات من قبل حكومات المستقبل. فعلى الرغم من وجود قبول واسع النطاق لفرض قيود على سلطات قوات الأمن، إلا أن هناك القليل من الإدراك بين المواطنين بأن حرية التعبير والمجتمع المدني المستقل هما حصن الأمان للحرية ضد الطغيان.

تقدم مصر أفضل مثال لهذا الانفصام. فالقيادة الإسلامية المنتخبة حديثاً قد أعربت عن التزامها بإنهاء ظاهرة إفلات جهاز الشرطة من المحاسبة، وكذلك المحاكمات الجائرة، والاعتقال التعسفي؛ وكانت هذه من السمات البارزة لنحو 30 عاماً من حكم حسني مبارك في ظل قانون الطوارئ سيء السمعة، الذي فتح الباب للاعتقال لأجل غير مسمى دون توجيه اتهام والمحاكمات بواسطة محاكم أمنية خاصة لم تكن توفر سوي القليل من شروط الحماية للإجراءات الواجبة للمحاكمة. لقد واجه أعضاء جماعة الإخوان المسلمين أنفسهم ـ وقد قاسوا لعشرات السنين ـ  إجراءات وحشية من توقيف وتعذيب وسجن بسبب جريمة الانتماء إلى "منظمة غير قانونية". ولذا فلا عجب في أن تسمح الحكومة الجديدة بإنهاء العمل بقانون الطوارئ (أعلنت الحكومة مؤخراً حالة الطوارئ لمدة 30 يوماً في أجزاء من البلاد) واقترحت مسودة دستور تتضمن أوجه حماية قوية ضد التعذيب والاعتقال التعسفي. وفي لقاءاتي مع كبار قيادات الإخوان المسلمين، أوضحوا لي أن كبح الشرطة عن ارتكاب أعمال التعذيب والانتهاكات بالسجون سيكون على قمة التزاماتهم. وفي نفس السياق، فإن تجربة الإخوان المسلمين مع الانتهاكات المباشرة على يد حكومة مبارك قد أدت إلى مصادقتهم على  أهمية المحاسبة على قتل المحتجين خلال الأحداث التي أدت إلى الإطاحة بمبارك.

غير أن الحكومة الجديدة عولت فيما يتعلق بمسألة حرية التعبير على القيود التي كانت حكومة مبارك تستخدمها بصورة روتينية لتكميم أفواه منتقدي الحكومة. فلقد تم إقرار دستور جديد، من وضع الجمعية التأسيسية الخاضعة لهيمنة الإسلاميين، في استفتاء صوت فيه أكثر من 60 بالمائة بالموافقة، على الرغم من أن من قاموا بالتصويت يمثلون قرابة 30 بالمائة فقط من القاعدة الانتخابية. ويتضمن الدستور التزاماً عاماً بحماية حرية "الفكر والرأى"، غير أنه يعود فيحظر "التعريض" بالأفراد والأنبياء. وهذا ليس بالخطر النظري، فعلى امتداد عام مضى قامت السلطات الحكومية التابعة للرئيس محمد مرسي بالتحقيق مع ومقاضاة 22 شخصاً على الأقل بدعوى "إهانتهم" للرئيس أو السلطة القضائية.

كذلك تحركت الحكومة الانتقالية في تونس للتحقيق في الهجمات التي تعرض لها المتظاهرون خلال الانتفاضة  ومقاضاة قوات الأمن المتورطة في عدد كبير من حوادث القتل والإصابة.  وقد أكدت مسودة الدستور بشدة على الحماية ضد التعذيب وكذلك ضد الاعتقال غير القانوني. بينما نجد تونس في وضع قلق فيما يتعلق بحرية التعبير. فقد استخدمت الحكومة قوانين موروثة عن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي لمقاضاة أشخاص كثر بسبب خطابهم الذي اعتبرته خطاباً "لا أخلاقي" أو "مخل بالنظام العام" كالمثالين والمدونين، بل وأيضاً بسبب "الطعن في سمعة المؤسسة العسكرية".

على مدى عقود قضيتها في الرصد وإجراء المقابلات في المنطقة، شهدت مراراً وتكراراً تأييداً واسعاً للقيود على التعبير، ليس في مصر فقط، ولكن على امتداد الشرق الأوسط. فالعديد من المواطنين، من قطاع عريض من المجتمع، لا يرون تناقضاً بين الحق في الكلام بشكل انتقادي عن المسئولين الحكوميين (أو ديانتهم) وبين "حق" المسئولين (بل وحتى المؤسسات) في معاقبة من يزعم توجههم بالإهانة للمسئولين. وقليلاً ما تعبأ الكثير من الجماهير العربية لرفض القانون الدولي الإنساني لـ "الإهانة" باعتبارها حداً شرعياً للتعبير، لسهولة استخدامه كذريعة لإخماد أصوات  المنتقدين والمعارضين وتقييد النقاش العام النشط وهو أمر جوهري لإخضاع الحكومة للمحاسبة. وحتى في بلدان كالمغرب وتونس التي تؤكد دساتيرها بإسهاب على احترام التعبير الحر، تواصل السلطات سجنها لأناس بسبب ما تزعمه من إهانة أو تشهير بالشرطة أو مسئولي الحكومة.

إن التحدي الذي يواجه المدافعين عن حقوق الإنسان في الحقبة الراهنة هو إقناع الجماهير العربية أنه لا يمكن أن يكون للحرية وجود دون فضاء رحب للخطاب السياسي مهما كان بغيضاً. ولكم هو بعيد عن دائرة اليقين، بالرغم من التضحيات التي بذلت في سبيل الحرية خلال الانتفاضات العربية، أن تكون الجماهير مدركة لمدى أهمية هذا الأمر لمستقبلها.

سارة ليا ويتسن هي المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة هيومن رايتس ووتش. وقد أدارت تحقيقات تقصي لأوضاع حقوق الإنسان في ليبيا والمملكة العربية السعودية إلى جانب العديد من مهام مناصرة حقوق الإنسان في تلك المنطقة.

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الموضوع

الأكثر مشاهدة