Skip to main content

مأساة لا ضرورة لها

وفاة عاملة منزلية تجدد المناداة بالحقوق الأساسية

نُشر في: Executive Magazine

كان من المحتمل أن تمر وفاة  "ألَم دتشاسا دسيسا" في سن الثالثة والثلاثين مر الكرام، شأنها في ذلك شأن العديد غيرها من الوافدين، لو لم يبث على نطاق واسع مقطع مصور يظهر تعرضها للتعدي البدني أمام بوابة القنصلية الإثيوبية من قبل رجل تحددت هويته لاحقاً بكونه "على محفوظ"، وكيل إلحاق العمالة، قبل ذلك بعشرين يوماً. وكانت دتشاسا دسيسا قد قدمت من إثيوبيا إلى لبنان في ديسمبر/كانون الأول 2011 للالتحاق بوظيفة عاملة منزلية، ثم جاء انتحارها في 14 مارس/آذار التالي. وقد أدى تسجيل الفيديو لما تعرضت له دتشاسا دسيسا من انتهاك إلى انطلاق صيحات غضب عام دفعت بالادعاء العام لتوجيه الاتهام لمحفوظ  في 25 مارس/أذار بالإسهام والتسبب في انتحارها.

إن ما تعرضت له دتشاسا دسيسا من انتهاك لهو أمرٌ شائن ينبغي أن يتحمل من اقترفه المسئولية. إلا أن المسألة هنا لا تقتصر على السلوك الإجرامي لوكيل إلحاق العمالة، بل تشمل كامل نظام الإلحاق ووضع القواعد المنظمة للعمالة المنزلية الوافدة. إذ أن مصرع دتشاسا دسيسا كان أمراً يمكن توقع حدوثه تماماً وكان من الممكن تلافيه لو أن السلطات اللبنانية كانت قد منحت عاملات المنازل حقوقهن الأكثر أساسية. ولقد دأبت جماعات حقوق الإنسان لأعوام حتى وقتنا هذا على التنبيه لارتفاع معدل حالات الانتحار في صفوف العاملات المنزليات في لبنان؛ فقد انتهت دراسة قامت بها هيومن رايتس ووتش في عام 2008 إلى قضاء العاملات المنزليات بمعدل متوسط بلغ عاملة واحدة كل أسبوع، فيما كان السبب في معظم الحالات هو الانتحار أو المحاولات الفاشلة للفرار من البنايات. هذا وقد قامت منظمة "كـَـفَى KAFA"، وهي منظمة لبنانية مدافعة عن حقوق المرأة، بجمع معلومات حول زهاء تسع من حالات الوفاة وقعت في شهر أغسطس/آب 2010 وحده.فيما أوردت صحيفة الغارديان هذا العام تقريراً بشأن وفاة "ليلا أتشاريا" وهي امرأة نيبالية وفدت إلى لبنان في أواخر عام 2011 وقضت نحبها يوم 29 يناير/كانون الثاني، وقد وجد جسدها مدلى من نافذة إحدى الشرفات بالقرب من بيروت. أعقب ذلك بعدة أيام العثور على عاملة منزلية أثيوبية هي "بالتيشي هندور" ميتة بعد أن شنقت نفسها بمنزل رب عملها في كسروان. ولقد ساء الوضع إلى حد أن سفير أحد البلدان "الراسلة للعمالة" أخبرني منذ ثلاثة أعوام أنه لم يعد يدير سفارة بل مؤسسة لتجهيز الموتى.

إن التلميح بأن هؤلاء النسوة كن ببساطة غير متزنات أمر لا يجد أساساً له في الواقع. فالمقابلات التي أجريت مع مسئولي السفارات وأصدقاء العاملات المنزليات المنتحرات تشير إلى أن العوامل الرئيسية التي أفضت لتلك الوفيات تتمثل في العزلة الناجمة عن الاحتجاز القسري داخل المكان، ومطالب العمل المغالى فيها، وإساءات رب العمل، والتضييق المالي. وبحسب أحد أفراد العمل المجتمعي التابعين لمركز كاريتاس للوافدين بلبنان وكان قد زار دتشاسا دسيسا في مشفاها النفسي قبيل وفاتها بأيام قلائل، فإن مصدر قلقها الطاغي تمثل في مدى قدرتها على إطعام طفليها في إثيوبيا، وسداد الدين الذي تحملته كي تسافر إلى لبنان.

عند مواجهة السلطات اللبنانية بالدليل الساحق على وجود نظام غير سليم يدفع بصورة منتظمة بالوافدين إلى القنوط، يبدو افتقار تلك السلطات لاستجابة ذات فعالية وقد بلغ حد إهمال الأمر. فقد استحدثت السلطات اللبنانية في يناير/كانون الثاني 2009 استخدام عقد عمل موحد لتوظيف العاملات المنزليات، وذلك بضغط من قبل الجماعات الحقوقية والبلدان التي شرعت في منع مواطنيها من القدوم إلى لبنان. إلا أن العقد يوفر أوجهاً للحماية تتصف بالضعف ، فضلاً عن كونه متاح باللغة العربية دون غيرها، وهي لغة لا تستطيع العاملات قراءتها، فضلاً عن أنه يندر إنفاذ ذلك العقد. أما الأمر الأكثر أهمية فهو أن السلطات لم تتخذ أية إجراءات لكي تضمن للعاملات الحق في التحرك بحرية في أوقات راحتهن وهو أمر قد يساعد على إنهاء حالة الانعزال التي يتحملونها بصعوبة في كثير من الحالات.

إذا ما أراد لبنان وضع نهاية لمعدل الانتحار المرتفع في صفوف العمالة المنزلية الوافدة، فعليه أن يراجع بصورة أساسية نظام الكفالة القائم الذي يمنح أرباب العمل قدراً كبيراً من التحكم في حياة العاملات المنزليات. وكما صرح أحد ممثلي منظمة العمل الدولية للإعلام فإن نظام الكفالة يخلق حالة من "الاعتماد التام من قبل العاملة على رب عملها في طعامها، ومبيتها، وصحتها وكل شئ. ويؤدي هذا الاعتماد التام إلى قابلية العاملة للتعرض للضرر على نحو تام كذلك، كما أنه يفتح الباب على مصراعيه لاستغلالها." إن لبنان بحاجة لأن يلحق بقطار المعايير الدولية بأن يضع نهاية لتلك الاعتمادية وأن يؤمن بصورة قانونية للعاملات القدرة على مغادرة منزل أرباب عملهن في الوقت المقرر لراحتهن. ويتعين تعديل قواعد منح تأشيرة السفر بحيث تسمح لهن بالعيش بمفردهن إذا ما كان ذلك هو الترتيب المفضل لهن. وإخيراً فإنه يتعين على لبنان إعادة فحص دور الوكالات الخاصة لإلحاق العمالة التي يتمثل نشاطها العملي في كسب المال مقابل البحث عن قوة العمل الرخيصة وبيعها للعائلات اللبنانية. وإن السلطات لفي حاجة، في الحد الأدنى، لأن تتثبت من حصول كافة الوكالات على تراخيص عملها بناء على عملية فحص بالغة الدقة، ومن مراقبة أعمالها بانتظام. غير أنه يظل من الأفضل لتلك السلطات أن تتحرى عملية بديلة لتوفير العمالة تحد من دور الجهات الوسيطة.

وما لم يتحقق ذلك، فإن نهاية دتشاسا دسيسا المأسوية لن تكون بأية حال الحادث الأخير من نوعه.

* نديم حوري هو المدير التنفيذي لمكتب هيومن رايتس ووتش ببيروت*

 

 

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة