Skip to main content

لقد أضحت تصرفات الزعيم الليبي معمر القذافي التي يتعذر التنبؤ بها، مادة للنسج الأسطوري، وذلك على مدى سني حكمه التي بلغت 42 سنة. إلا أن القذافي كان متسقاً بصورة ملحوظة فيما يتعلق بأمر واحد ألا وهو هوسه الذي لا يخمد بشراء ترسانة ضخمة من الأسلحة؛ أياَ كان من يعرضها. فصار قسم كبير من الأراضي الليبية نتيجة لذلك أشبـه ببازار هائل لعرض الأسلحة، أو متحف يضم كل ما بإمكانه إثارة حب الاستطلاع لدى مفتشي الأسلحة، بل وأيضاَ قاعة عرض لكل ما يمكن أن يثير الرعب في قلوب أولئك المعنيين بسلامة المدنيين. وبانهيار سيطرة القذافي في شرق ليبيا غدت كميات هائلة من تلك الأسلحة والذخائر في متناول الأيدي. وغالباً ما تكون الأيدي التي تدركها أولاً.

كنت أجوب شرق ليبيا مرتحلاَ معظم أيام الأسابيع الثلاثة الماضية، أي منذ بدء انهيار النظام، في محاولة لإنشاء سجل لانتهاكات حقوق الإنسان الجارية في البلاد. إذ كانت هيومن رايتس ووتش تجري خلال شهر فبراير/شباط تحرياتها بشأن عمليات قتل المحتجين واسعة النطاق على أيدي قوات القذافي ، فضلاَ عما استجد خلال فترة أحدث من حالات للاختفاء القسري المحتمل وقوع مئات الأشخاص ضحايا له إثر احتجازهم لدى قوات القذافي على جبهة القتال. كان إعداد التقارير من شرق ليبيا أشبه باستقلال قطار الملاهي الأفعواني؛ بين ما شهدته من نشوة مفرطة في الأيام الأول للانتفاضة عندما كان الليبيون يحتفلون بالحرية التي عثروا عليها وصولاً إلى حالة القنوط التي عمت منذ أسابيع قلائل مضت حين أصبحت قوات القذافي مرة أخرى على أبواب بنغازي. فبالنسبة للكثيرين من الليبيين ممن لمسوا عن كثب أوجه قصور متمرديهم غير المدربين والذين تعوزهم المهارة، يظل المستقبل أمراً غير محدد المعالم. إذ لاتوجد بالنسبة لأولئك الناس منطقة وسطى، فإما أن يفلح التمرد أو أن يواجهوا موتاً محققاً إذا ما استعاد القذافي سيطرته على شرق ليبيا.

كذلك اتجهت أنظارنا صوب الأسلحة والذخائر، فقد كان هناك القدر الكبير منها. وبالنسبة لمنظمات حقوق الإنسان فإن تلك الترسانات تمثل واحداً من الأمور الأكثر إلحاحاً؛ إذ بإمكان الأسلحة الحربية عالية القدرة التدميرية إذا ما آلت إلى اليد الخطأ أن تلحق الأذى الشديد بالسكان المدنيين. وجدير بالذكر أن باحثي هيومن رايتس ووتش كانوا قد انتشروا في عام 2003 في كافة أرجاء العراق بغرض إخطار السلطات في الولايات المتحدة بمخابئ الأسلحة مهولة الحجم وغير المؤمنة التي تكشف لنا انتشارها في ربوع البلاد، وكذلك حث تلك السلطات على تأمين ذلك المخزون. غير أن القوات المسلحة للولايات المتحدة وحلفائها أخفقت في النهوض بأى إجراء فعلي كونها شغلت بدرجة كبيرة بالبحث عن أسلحة دمار شامل لم يكن لها أي وجود. وكنا نراقب في يأس نهب الكميات المخزونة من الأسلحة في مواضع مثل بعقوبة حيث توافرت كلية صدام الحربية الثانية على إمدادات كبيرة من الأسلحة والذخائر عالية القدرة.

ولقد دفع الجميع ثمن الإخفاق في تأمين تلك الأسلحة: إذ أضحت بعقوبة حاضرة الفنيين المتخصصين في القنابل، الذين حولوا الآلاف من طلقات المدفعية شديدة الانفجار إلى مفرقعات قوية استهدفت السكان المدنيين وقوات الأمن العراقية، إلى جانب القوات الغربية التي احتلت العراق. وبالرغم من مرور ثمانية أعوام فإن القوى العراقية المتمردة لم تستنفذ بعد مخزونها من الأسلحة والذخائر.

أما الليبيون فإنهم أناس ترحابيون فوق العادة، إذ لا تبد أية ممانعة من جانبهم إذا ما دسست أنفي فيما تحويه سيارات نصف النقل المجهزة للمعارك الحربية في الجبهة الأمامية أو إذا ما قمت بالتقاط بعض الصور للأسلحة والذخائر التي يحملها المتمردون، بل وحتى داخل القواعد العسكرية ومستودعات السلاح الواقعة تحت سيطرة المتمردين، إذ عادة ما تؤدي بضعة كلمات على سبيل التقديم إلى ترحاب حار ثم جولة بين التجهيزات العسكرية، ذلك إذا ما كان هناك أساساً من يقوم بحراسة تلك التجهيزات. وحين ذهبت يوم 27 مارس/أذار إلى المستودع الرئيسي لأسلحة الجيش بمدينة أجدابية المتنافس عليها حينئذ، وفور فرار قوات القذافي من المدينة وفيما كان المتمردون لا يزالون منشغلين بالاحتفال بانتصارهم، استأثرت ولساعات عديدة بكامل القاعدة بما تشمله من 35 مخزن مكتظ حتى حوامل الأسقف بالأسلحة والذخائر.

ولقد كان ما تكشف لنا مدعاة للصدمة. فمخزون أسلحة القذافي فاق بفارق كبير ما رأيناه في العراق في أعقاب سقوط صدام حسين، وقد أخذت بعض الأسلحة التي تنساب الآن بحرية في شرق ليبيا، كصواريخ أرض- جو القادرة على إسقاط طائرة مدنية، تقض مضاجع مسئولي الأمن حول العالم. و بدأت عقب شروعي في نشر بعض الصور التي كنت قد التقطها في تلقى اتصالات هاتفية مفعمة بالقلق من قبل مسئولي الرقابة على الأسلحة طلباً للمزيد من تفاصيل ما شهدته. وقد كان لقلق المسئولين الأوروبيين والأمريكيين أسباب وجيهة، إذ أن الأمر يتعلق بقنابل ذات دفع صاروخي، وصواريخ أرض- جو، وقذائف مدفعية محشوة بمواد متفجرة يمكن بسهولة أعادة صوغها لتتحول إلى قنابل للسيارات المفخخة. وهناك من الجماعات في تلك المنطقة العديد ممن سيكون الاستحواذ على تلك الأسلحة أمراً محبباً بالنسبة لهم، بمن فيهم أولئك المنتسبين للقذافي، إضافة لحركات التمرد.

من بين الأسلحة الأكثر إثارة لقلق مسئولي الأمن الغربيين صواريخ أرض- جو المتعقبة للحرارة التي تطلق محمولة كتفاً من طراز إس إيه- 7 ( (SA- 7سوفييتية التصميم والمعروفة بصواريخ جريل، وهي صواريخ مصممة خصيصاً لإسقاط الطائرات منخفضة التحليق. ذلك السلاح، الذي يتألف أساساً من أنبوب طويل أخضر اللون يربض بداخله صاروخ، ينتسب لفئة من الأسلحة تعرف بنظم الدفاع الجوي المحمولة أو مانبادز MANPADS . ومع أن تلك الأسلحة تعود لستينيات القرن الماضي إلا أنها تظل ضمن الأسلحة شديدة الفتك، وبخاصة تجاه الطائرات المدنية التي تفتقر للنظم الدفاعية. ولقد سبق أن أطلق صاروخين إس إيه- 7 من قبل منفذي عمليات تنظيم القاعدة صوب طائرة رحلات إسرائيلية من طراز بوينج 757 خلال هجوم وقع في مونباسا بكينيا، وقد حادا عن هدفهما بفارق بسيط. وخلال فترة الشهر ونصف الماضية شاهدنا حرفياً المئات من تلك الصواريخ تنساب بحرية في شرق ليبيا. ويتطلب صاروخ إس إيه-7 تجميعه مع آلية زناد وكمَّادة تبريد بطارية تلحق بإنبوب الإطلاق. وقد كان الكثير من أنابيب الإطلاق التي رأيناها غير مجمعاً. ومع ذلك فإن بعضاً من صواريخ إس إيه- 7 كان مجمعاً بالكامل.

وفي حين أن صاروخ إس إيه- 7 هو الذي دق ناقوس الخطر بين خبراء الأمن الغربيين، إلا أن بقية ترسانة القذافي السهيبة هي أمر لا يمكن الاستهانة به. فقد اكتشفنا أنواعاً عديدة من الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات، بما في ذلك الصواريخ المتطورة من طراز إيه تي- 14 (AT- 14) أو سبريغان (وتعرف في روسيا بصواريخ كورنِت) التي يتم توجيهها بأشعة الليزر، والتي أفادت التقارير باستخدامها منذ يوم مضى من قبل الجماعات المسلحة التي تتخذ قواعد لها في غزة في هجوم على حافلة مدرسية جنوبي إسرائيل ونجم عن ذلك إصابة أحد اليافعين بجراح خطيرة. كذلك أدى الصاروخ سبريغان خدماته في حرب لبنان عام 2006 إذ كان واحداً من أكثر أسلحة حزب الله المضادة للدبابات الإسرائيلية فعالية. وإلى جانب ذلك تضم مخازن القذافي عشرات الآلاف من أكثر الألغام المضادة للدبابات خبثاً في العالم. ويتمثل خبثها في كونها مصنوعة في معظمها من البلاستيك الذي يتعذر اكتشافه كما وأنه يمكن دعمها بجهاز مضاد لرفع الألغام يتسبب في تفجير اللغم عند القيام بأية محاولة لانتزاعه من الأرض.

عثرنا كذلك على الآلاف من صواريخ غراد 122 مم التي تستخدم من خلال منصات تطلق دفعات من 40 صاروخ في القصفة الواحدة، ولديها القدرة على إحداث الدمار لمدى يصل إلى 40 ميل. وقد كانت صواريخ غراد السلاح المفضل لدى جماعات المجاهدين الأفغان إبان حربهم الأهلية المهلكة التي دارت رحاها في مطلع تسعينيات القرن الماضي عقب انسحاب السوفييت، إذ أحال المجاهدين كابول كومة من الحطام باستخدامهم تلك الصواريخ. كما ألفينا الشرق الليبي مأوى لعشرات الآلاف من منصات إطلاق القنابل ذات الدفع الصاروخي التي لها من القدرة التدميرية ما يكفي لنسف دبابة أو إحداث ثغرة ببناية خرسانية. عثرنا إضافة لذلك على عشرات الآلاف من قذائف المدفعية والدبابات والهاوزر مختلفة العيار، وجميعها معبأ بالمواد شديدة الانفجار القابلة للتحويل بسهولة إلى قنابل سيارات مفخخة أو قنابل تزرع على جوانب الطرق. حتى أننا عثرنا على قذائف هِش HESH الارتدادية المعبأة بالمواد المتفجرة البلاستيكية، وهي بدورها أداة خطرة إذا ما آلت إلى أيدي الجماعات الإرهابية.

ولم تقتصر جوانب الخطورة التي رأيناها على الكميات المخزونة من الأسلحة التي لا تتوفر لها الحراسة اللازمة وحسب. إذ أن هناك أيضاً كميات هائلة من الذخائر المهجورة والعتاد الحربي الذي لم يتعرض للتفجير في كل مكان على خطوط المواجهة التي تتغير مواضعها بصورة مستمرة على امتداد الطريق الساحلي شرقي ليبيا. وقد أضافت الغارات الجوية من قبل قوات التحالف الدولي على الأهداف العسكرية الحكومية الليبية المزيد من الأنقاض الميدانية، إذ خلفت ما تم تدميره من ذخائر ومركبات ودبابات ومنصات غراد وقطع مدفعية، الكثير منها لا يزال معمراً بذخيرته. فيما تقاطرت العائلات مصطحبة أطفالها في كثير من الحالات لزيارة مواقع تلك الغارات ملتقطة من التذكارات ما يكمن فيه خطر مهلك. كذلك أضافت قوات القذافي لتلك المخاطر المزيد بزرعها حقولاً جديدة للألغام، اكتشفنا منها حقلين يضمان العشرات من الألغام المضادة إما للدبابات أو للأفراد، وذلك في أجدابية عقب انسحاب القوات المؤيدة للقذافي منها. ومن يدري كم من مزيد قد تم بذره من تلك الحقول التي يتم اكتشافها فقط عندما يخطو شخص ما أو يقود سيارته فوق تلك الأخطار المخفية؟

إلا أن الأخبار ليست بكليتها مروعة. فهناك قسم من الأخبار الطيبة يفيد بأن قوات المعارضة شرقي ليبيا قد شرعت الآن في اتخاذ خطوات أكثر قوة لتأمين تجهيزات تخزين الأسلحة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، كذلك شرعت في نشر فرق عسكرية لجمع الأسلحة الخطرة التي لم تنفجر أو المتخلى عنها. وقد واصلت هيومن رايتس ووتش على مدى أسابيع وحتي وقتنا هذا لقاءاتها مع المسئولين من المعارضة سواء المدنيين أو العسكريين للتباحث حول المخاطر التي تثيرها تلك الأسلحة فضلاً عن الشئون الأخرى المتعلقة بحقوق الإنسان، وقد خرجنا بانطباع مؤثر بفضل ما أبدوه من استعداد لأخذ توصياتنا بعين الاعتبار واتخاذ إجراءات لتصحيح الأوضاع. ومن المؤكد أن يظل هناك الكثير مما يجب عمله، إلا أن التزام سلطات المتمردين بقطع الأواصر مع الماضي وبناء بلد حديث يحترم الحقوق المدنية يبدو صادقاً ومتوافقاً مع أفعالهم حتى اليوم. وإنا لمستمرون في مراقبتهم ومراقبة أدائهم عن كثب.

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة